جوانب تجهلها أميركا عن تصاعد قوة الصين

نشر في 24-01-2020
آخر تحديث 24-01-2020 | 00:00
 الرئيس الامريكي دونالد ترامب-رئيس الوزراء الصيني دنغ شياو بينغ
الرئيس الامريكي دونالد ترامب-رئيس الوزراء الصيني دنغ شياو بينغ
كان قادة الصين، منذ عهد رئيس الوزراء دينغ شياو بنغ، يرسمون خططهم على أساس عقود زمنية تشتمل على فترة كافية لتحديد التغيرات الحقيقية التي طرأت على مسار البلاد.

وقد أمضيت فترة في الصين خلصت فيها إلى استنتاج رئيسي يقول إنها حققت حقبة جيدة جداً، على الرغم من أنها لا تزال تعاني متاعب كبيرة بما في ذلك موجة الاحتجاجات في هونغ كونغ. ولكن الاقتصاد أصبح أكثر تنوعاً، وحقق المجتمع العلمي فيها مزيداً من التقدم كما أصبحت وسائل الرصد والرقابة أشد فعالية. وباختصار فإن الصين تقدمت بخطوات كبيرة نحو سد الفجوة مع الولايات المتحدة.

ويدرك الكثير من الأميركيين طبعاً صعود الصين، ويشعرون بقلق من جراء ذلك. ولكني عدت من زيارتي الأخيرة إلى بكين وأنا أحمل الانطباع بأن ذلك القلق لا مبرر له، لأن الصين ليست مؤهلة للتفوق على الولايات المتحدة أو حتى مساواتها كقوة عالمية. ثم إن التحديات التي تواجه الصين كبيرة وحقيقية -ليس فقط عبر موجة الاحتجاج في هونغ كونغ- بل في الانشقاق الذي يسود زينيانغ والتيبت نتيجة ضعف الشركات الحكومية والهبوط في عدد السكان في سن العمل والإنتاج.

والسبب الأول الذي ساعد بكين على تحقيق ذلك التقدم الجيوسياسي اللافت هو أن منافستها تعرضت لعقد سيئ من الزمن بكل المقاييس، وفيما تتقدم الصين بخطوات إلى الأمام تتراجع الولايات المتحدة ببطء إلى الوراء.

وقد أصاب الركود في الدخل والثروة ومعدل العمر معظم سكان الولايات المتحدة، وأسهم ذلك في زيادة الانقسامات السياسية وأفضى إلى شبه تعطيل للأداء الحكومي، وبدد الكثير من جوانب التقدم على الصين، وتخلفت أميركا عن الاستثمار في ميادين التربية والعلوم والبنية التحتية التي جعلتها دولة عظمى.

دور دونالد ترامب

لعب الرئيس دونالد ترامب دوراً بارزاً في هذا السياق، بقدر فاق أسلافه، وقد واجه بكين بطريقة ضعيفة جعلتها دولة قوية. وبدلاً من بناء ائتلاف لمواجهة صعود الصين عمد إلى تنفير حلفاء بلاده، ويقول كيو جين وهو اقتصادي صيني في كلية لندن للاقتصاد إن ترامب «هبة استراتيجية» بالنسبة إلى الصين.

مؤشرات الحرب التجارية

وتعتبر حرب التجارة الحالية مثالاً على هذا المسار، وكانت إدارة ترامب على حق في اتخاذ سياسة أكثر شدة، ولكن بعد فرض عقوبات من جانب واحد وافق ترامب على هدنة لم تقدم الكثير من أجل علاج المشاكل الأساسية مثل مساعدات بكين للشركات.

كما يبدو أن الادارة الأميركية الحالية لا تدرك أن تصرفاتها المقلقة تخدم الصين في المقام الأول حسب ما يتضح من المثال التالي: بعد أن طلبت واشنطن من 61 دولة حظر نشاط شركة هواوي الصينية للاتصالات كان الرد محرجاً فقد استجابت ثلاث دول فقط لذلك الطلب، ويجادل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الآن بأن أوروبا يجب أن تنتقل الى المركز الثالث كقوة عالمية والانتهاء من دور الحليف للولايات المتحدة فقط.

نضوج الاقتصاد الصيني

تستمر قوة الصين، وقد كان نضوج اقتصادها لافتاً تماماً، وعلى الرغم من تباطؤ النمو من نحو 10 في المئة الى أقل من 7 في المئة فإن تلك الحصيلة كانت متوقعة وحتمية، لأن الصين أصبحت أقل فقراً. ويقول نيل شين، وهو شريك مؤسس في شركة سيكويا كابيتال تشاينا الصينية، إن نوعية النمو تحسنت بصورة كبيرة.

وعندما تحدثت مع البعض من القادة الصينيين ومديري الأعمال في عام 2010 أشاروا إلى وجود مشكلتين هما: نقص عدد شركات الابتكار والمستوى المتدني من إنفاق المستهلكين، ولكني لم أسمع ذلك خلال زيارتي الأخيرة لبكين.

وتستضيف الصين في الوقت الراهن ما يمكن اعتباره أكثر تطبيقات وسائل الاتصال الاجتماعي نجاحاً، وهي «تيك توك» التي تتفوق في شعبيتها على «فيسبوك» في أوساط المراهقين الأميركيين، كما تؤكد ذلك إحدى الدراسات الحديثة. ومن المنتظر أن تحذو حذوها شركات ابتكار أخرى، لأن الاقتصاد الرقمي الصيني أصبح الآن متقدماً على النسخة الحالية في الولايات المتحدة.

وبدلاً من التشظي بين العشرات من التطبيقات –مثل ستاربكس وأمازون وخطوط الطيران الى آخر ما هنالك– تتركز التجارة الصينية على شبكة من شبكتين رقميتين هما ويتشات بي وعلي بي، وفي وسع المرء فتح أحد التطبيقات وشراء كل ما يريده، سواء في المتجر أو أون لاين. وتشجع هذه الطريقة البسيطة طرح المزيد من ابتكارات التجزئة، كما يحاول «فيسبوك» و»غوغل» تقليد هذا النموذج الذي يبدو أنه سوف يكون مستقبل التجارة في العالم.

وكانت إحدى المحطات التي توقفت فيها هي نانجنغ، التي اشتهرت بأنها مدينة المجزرة التي ارتكبتها القوات اليابانية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وقد تحولت الى رمز لمعاناة الصين طوال معظم القرن العشرين. وتجسد هذه المدينة أيضاً نمو ثقافة استهلاك الطبقة المتوسطة، وتم افتتاح نظام نفق المدينة قبل 14 عاماً فقط، وهو ينقل اليوم نحو مليار راكب في السنة وبأجرة تراوح بين 28 و42 سنتاً.

إلى ذلك تعتبر مدينة نانجنغ واحدة من محطات القطارات السريعة التي بدأت العمل بين شنغهاي وبكين في عام 2011، وهي تبعد عن العاصمة الصينية مسافة تقارب بعد نيويورك عن سينسيناتي، وتستغرق الرحلة بالقطار أقل من 4 ساعات.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه البنية التحتية تجعل كل أنواع الأنشطة الاقتصادية أكثر سهولة –التوجه الى العمل وأخذ الإجازات أو التسوق. ويعج سوق نانجنغ بالمتسوقين وتزدحم المطاعم فيه حتى الساعة التاسعة مساءً.

وبعيداً عن الأنشطة الاقتصادية حققت الصين أيضاً تقدماً كبيراً في ميادين أخرى خلال العقد الماضي، فقد اقتربت من التحول الى أكبر ممول للبحث العلمي والتطوير بسبب الزيادة العالية في هذا المجال، وفيما تظل الولايات المتحدة في المركز الأول فإن الفجوة بينهما ضاقت الى حد كبير في الوقت الراهن.

قوة الجيش الصيني

وأصبح الجيش الصيني أكثر قوة، وبكين اليوم أكبر شريك تجاري ليس فقط مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايلند وفيتنام واندونيسيا، بل مع أستراليا والبرازيل وجنوب إفريقيا- كما أن الشركات الناشئة أصبحت ديناميكية بما يكفي من أجل اغراء المتخرجين الصينيين في الجامعات الأميركية للعودة الى بلادهم.

وتسهم هذه التجارة بشكل متزايد في تغيير الموازين الثقافية والسياسية، كما يتبين من محاولات جمعية كرة السلة الوطنية لاسترضاء الصين في أعقاب توجيه المدير التنفيذي لفريق هيوستن روكتس رسالة على «تويتر» يعبر فيها عن دعمه للمحتجين في هونغ كونغ. ويدرك مسؤولو جمعية كرة السلة الوطنية أن الصين تستطيع الحد من تقدم خطط نمو الجمعية من خلال استخدامها لحق النقض (الفيتو).

وبدورهم بدأ قادة الصين التخلص من سمة التواضع التي طبعت الكثير من أشكال سياستهم الخارجية منذ عهد رئيس الوزراء دنغ شياو بينغ. وفي مؤتمر صحافي حضرتُه في ضواحي بكين مع بيل غيتس وهنري كيسنجر وهنري بولسون والعديد من المسؤولين الأميركيين، كان تبجح المسؤولين الصينيين واضحاً تماماً. وعمد بعض المسؤولين الأميركيين الى انتقاد سياسة الصين الاقتصادية، وقد قوبلت تلك الانتقادات بتجاهل من جانب المسؤولين الصينيين، وقال نائب الرئيس الصيني وانغ كيشان في المؤتمر: «نحن الشعب الصيني نعرف جيداً الأشياء التي لدينا وعندنا الثقة والصبر والعزيمة من أجل تنفيذ أهدافنا».

وتجدر الإشارة إلى أن الصين تجاوزت اليوم توقعات العالم طوال ثلاثة عقود متتالية، ولكن ذلك لا يضمن استمرار هذا المسار في العقد الحالي. ولا يزال أمام بكين الكثير من العمل حتى تحقق ما تريد، كما أن سياستها الخارجية سوف تكون أكثر صعوبة نتيجة زيادة قوتها في دول اخرى، اضافة الى أنه سوف يتعين على اقتصادها أن يواجه أعباء ديونها الناجمة عن طفرة البناء والهبوط الحاد في سن العمل بين السكان خلال العقود المقبلة، بسبب سياسة الولد الواحد التي قد تضع الصين أمام أكبر التحديات منذ حركة الديمقراطية في عام 1989.

وفي وسعي أن أتصور خلال عقد من الزمن أن الصين التي غدت منافسة أشد للولايات المتحدة، قد هيمنت على منطقة المحيط الهادئ أو أنها تحولت الى دولة أضعف تكافح من أجل مواجهة الاستياء الداخلي مع الدول الآسيوية المجاورة. ولكن يتعين على الولايات المتحدة أن تشعر بشيء من القلق من السيناريو الأول.

ومن أجل أن تتحول الصين الى دولة أقوى في الأعوام المقبلة سوف يتعين عليها القيام بخطوات تضمن زيادة انفاق المستهلكين وتقوية قطاعها العلمي والتوسع في ميدان الابتكار. وبالنسبة إلى بقاء الولايات المتحدة دولة قوية سوف يتعين عليها خفض عدم المساواة وزيادة الاستثمار في المستقبل، وأنا أظن بأن الاستنتاج المنطقي يقول إن علينا أن نشعر بقلق إزاء مستقبل القوة الأميركية.

* ديفيد ليونهارت

back to top