هل تصالَح ترامب وإيران للتوّ أم أفسدا مستقبل العالم؟

قد يعلن الطرفان النصر لكن ما مكاسبهما الفعلية؟

نشر في 10-01-2020
آخر تحديث 10-01-2020 | 00:04
جانب من عملية قتل مقتل الجنرال قاسم سليماني
جانب من عملية قتل مقتل الجنرال قاسم سليماني
يزعم ترامب وخامنئي اليوم أنهما حققا شكلاً من النصر: ترامب قتل مجرماً إيرانياً تلطخت يداه بدم عدد كبير من الأميركيين والعرب والإيرانيين (نال سليماني ما يستحقه)، وخامنئي "انتقم" عبر إطلاق 22 صاروخاً على قاعدتين في العراق، حيث تتمركز القوات الأميركية (لحفظ ماء الوجه).
عند النظر بكل موضوعية إلى الاشتباك الأخير بين الرئيس ترامب والمرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، يتّضح لنا أننا أمام رجلَين أصلعَين يتعاركان على مشط شعر!

يحمل هذان الرجلان المتقدمان في السن أفكاراً بالية، ويتعاركان على بلدٍ يُفترض ألا يرغب فيه أحد (العراق) وعلى مورد كان أساسياً في القرن العشرين (النفط) لكنه بدأ يخسر أهميته في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، ويسعيان إلى تحقيق هدف استراتيجي شائك (السيطرة على الشرق الأوسط)، مع أن أي زعيم عاقل ما كان ليرغب في بلوغ هذا الهدف لأنه سيتكبد تكاليف هائلة من دون كسب أي منافع. باختصار، لن تُغيّر هذه الضجة كلها الكثير!

حين نسمع المعلّقين "الوطنيين" على قناة "فوكس نيوز" وهم يزعمون أن كل من لا يؤيد ترامب في مغامراته في الشرق الأوسط يفتقر إلى الوطنية، لا مفر من أن ننفجر من الضحك لأن موقفهم مثير للشفقة، وحين نشاهد عشرات آلاف الإيرانيين في الشوارع حداداً على موت الجنرال قاسم سليماني (إرثه الوحيد هو تدمير البلدان المحيطة بإيران وقتل أعداد هائلة من الشبان الإيرانيين والعرب لأنهم يطالبون بالديمقراطية)، تنتابنا رغبة في البكاء لأنه موقف مثير للشفقة بالقدر نفسه.

متى ستتوقف هذه السخافة؟

البيانات هي بديلة النفط في هذا العصر! يمكن اعتبار كل من يملكها ويستخلص منها الأفكار ثم يحوّلها إلى منتج مربح وهو المحرك الجديد للاقتصاد، وهو الذي سيُحدد ثروة أي بلد ووضعه الأمني على المدى الطويل في القرن الحادي والعشرين، لا النفط الخام. لهذا السبب، يبدو التحذير القديم الذي أطلقه وزير النفط السعودي السابق، الشيخ أحمد زكي يماني (حين قال إن العصر الحجري لم ينتهِ بسبب نقص الحجارة، بل انتهى لأننا اخترعنا أدوات جديدة)، مهماً اليوم أكثر من أي وقت مضى.

يزعم ترامب وخامنئي اليوم أنهما حققا شكلاً من النصر: ترامب قتل مجرماً إيرانياً تلطخت يداه بدم عدد كبير من الأميركيين والعرب والإيرانيين (نال سليماني ما يستحقه)، وخامنئي "انتقم" عبر إطلاق 22 صاروخاً على قاعدتين في العراق، حيث تتمركز القوات الأميركية (لحفظ ماء الوجه).

ما الذي كسبه الطرفان على أرض الواقع؟

قد يتحسن نظام الردع الأميركي بعد قتل سليماني لأن هذه العملية تتعارض مع قواعد اللعبة المعروفة بين الولايات المتحدة وإيران في السنوات الأخيرة، أي الامتناع عن استهداف القادة في البلدين، أما القيادة الإيرانية فتدرك الآن على الأرجح أن ترامب مجنون وقد يرد على أي انتقام أو تصعيد إيراني إضافي بطريقة أكثر عدائية وغير متوقعة.

هذا الوضع يربك رجال الدين في إيران حتماً. لطالما افترضت إيران وسليماني أنهما يتفوقان بجنونهما على الجميع، بفضل عملائهما ومناوراتهما، فقد عمد الإيرانيون أو حزب الله التابع لهم إلى تفجير رئيس الحكومة اللبناني السابق، رفيق الحريري، وتدمير منشأة سعودية أساسية لضخ النفط من دون رادع، ثم عبّروا عن دهشتهم وحزنهم أمام العالم وتساءلوا عن هوية الفاعل!

ترامب هو أول رئيس أميركي يُقلِق الإيرانيين لأنه يتفوق عليهم بجنونه، ويدرك وَرَثة سليماني الآن أنهم مضطرون لتوخي الحذر وحفظ أمنهم أكثر مما فعل سليماني الذي ظن أنه محصّن ضد أي اعتداء.

قد يظن ترامب أنه يتفوق بجنونه على الإيرانيين، لكن سيتبين على المدى الطويل أن هذه الفكرة وهمية، على عكس القائد الأعلى الإيراني، يمكن كبح مسار ترامب عن طريق الكونغرس والدستور الأميركي والصحافة الحرة وقواعد السلوك الأميركية والانتخابات المقبلة.

قد يبالغ ترامب في كلامه الهجومي ويطلق تهديدات صاخبة، لكن تبقى السيطرة على الشرق الأوسط هدفاً أساسياً لإيران أكثر من الولايات المتحدة (لا سيما بعدما أصبحت اليوم أكبر دولة مُنتِجة للنفط وقد سئم الأميركيون بشدة من مشاكل الشرق الأوسط)، وستبقى إيران جزءاً من هذه المنطقة مهما حصل، على عكس الولايات المتحدة.

بعبارة أخرى، يبدو تفوق الأميركيين على الإيرانيين من حيث القرارات الجنونية محدوداً، فلا نستطيع تحمّل كلفة اغتيال كل رجل سيئ نصادفه، وهذه المقاربة ستسمح لبلدان أخرى (مثل روسيا بقيادة فلاديمير بوتين) بمعاملة خصومها بالمثل، وستدفع أطرافاً أخرى إلى البدء باستهداف القادة الأميركيين.

هذا الوضع يعطي إيران فرصة التلاعب بترامب، مما يعني التعامل معه كما فعلت مع الرئيس جيمي كارتر، أي جرّه إلى فوضى الشرق الأوسط عبر تنفيذ عمليات محدودة ضد مدنيين أو جنود أميركيين، مما يُجبِر ترامب على الرد والغرق في مستنقع الشرق الأوسط (مع أن هذه المنطقة خسرت أهميتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة اليوم أكثر من أي وقت مضى)، أو عدم الرد والظهور في موقف ضعف.

لن يحقق الطرفان انتصاراً متساوياً إذا نجح ترامب وخامنئي في تحسين وضعهما السياسي موقتاً، بل يجب أن يخدم الوضع مصالح البلدَين على المدى الطويل؛ لذا تبرز الحاجة إلى تجديد اتفاق إيران النووي الذي انسحب منه ترامب في مايو 2018.

سيكون منع إيران من اكتساب سلاح نووي في صلب المصالح الأميركية لأن أي سلاح مماثل يطرح تهديداً على أوروبا وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ومن المتوقع أن يحث هذا الوضع تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر على اكتساب قنابل نووية أيضاً، مما يجعل منطقة الشرق الأوسط غير المستقرة أشبه بقنبلة نووية موقوتة. في المقابل، من مصحلة إيران أن تتخلص من العقوبات النفطية التي فرضها ترامب لأنها تتجه إلى إفلاس الاقتصاد الإيراني.

لكن يصعب أن يتحلى ترامب بالشجاعة السياسية اللازمة للتوصل إلى تسوية مع إيران، فهو يصر على فرض مطالب مبالغ فيها، ولو كان ذكياً بما يكفي لاستفاد من تحسين نظام الردع الأميركي في الوقت الراهن لعقد اتفاق نووي بسيط ومُعدّل وسريع، على أن يشترط تجميد القدرات النووية الإيرانية بشكلٍ دائم، وتكثيف عمليات التفتيش بما يفوق شروط الاتفاق الأصلي، مقابل رفع العقوبات النفطية، ثم يجب أن تتوقف الصفقة عند هذا الحد، من دون أي خطوات مبالغ فيها.

لا يمكننا أن نفرض على إيران عدم التدخل في شؤون بلدان أخرى إذا كانت الولايات المتحدة والسعودية لا تترددان في التدخل، ولنعقد إذاً صفقة واضحة (وقف التقدم الإيراني النووي مقابل إنهاء العقوبات) ونتعامل مع الشؤون الأخرى عبر الطرق الدبلوماسية التقليدية واستعمال القوة "الناعمة".

يُفترض أن يكتب ترامب التغريدات التالية يومياً: "أيها المرشد الأعلى الإيراني، أي بلد عربي مسلم احْتَلّلتَ اليوم؟ كم ديمقراطياً إيرانياً اعتقلتَ أو قتلتَ اليوم؟ أي شبان عرب حرمتهم من الديمقراطية اليوم؟ كم أنفقتَ من أموال دافعي الضرائب الإيرانيين بالدولار لتمويل ميليشيات سليماني في لبنان وسورية واليمن اليوم"؟ يجب أن يكرر هذه الأسئلة كل يوم وكل ساعة وعلى مدار الساعة. لن يحب النظام الإيراني هذا الكلام حتماً، في حين يصارع للسيطرة على المواطنين محلياً.

كذلك، يجب ألا يهدد ترامب إيران بإرسال قوات عسكرية إضافية إلى العراق لمحاربة "داعش" أو إلى أفغانستان لمحاربة "طالبان". إنه موقف جنوني! بل يتعين عليه أن يهدد إيران بسحب جميع القوات الأميركية من المنطقة، ما لم توقف محاولاتها للسيطرة على العراق، فتضطر إيران وحدها لمحاربة "داعش" و"طالبان" (هاتان الحركتان السنّيتان هما من ألد أعداء طهران!).

إنها أفضل طريقة لزيادة أعباء إيران وتحويلها إلى أكثر بلد مكروه في العراق (حيث أقدم العراقيون الشيعة على إحراق قنصليتَين إيرانيتَين اعتراضاً على الهيمنة الإيرانية)، وفي المنطقة كلها.

باختصار، يجب ألا ينخدع أحد بالعناوين الرنانة اليوم أو بأخبار قناة "فوكس" المنحازة، وعلى كل أميركي يريد تقييم ما فعله ترامب للتو في العراق أن يتساءل: هل ننشغل الآن بالقتال من أجل موارد اقتصادية ماضية أم موارد المستقبل؟ وهل نستطيع أن نكرر التكتيك الاعتيادي (أي الاغتيال المستهدف) في جميع الحالات أم نحتاج إلى التركيز على صفقة فاعلة ترضي جميع الأطراف (اتفاق نووي بسيط وواضح ونهائي)؟ ألن يكون التهديد بمغادرة المنطقة أقوى من التعهد بمضاعفة أعداد الجنود هناك؟ أخيراً، هل يصبّ تجدّد هوسنا بالشرق الأوسط في مصلحة الصين أم الولايات المتحدة؟

*توماس ل. فريدمان

ترامب وخامنئي يتعاركان على بلدٍ يُفترض ألا يرغب فيه أحد وعلى مورد كان أساسياً في القرن العشرين

نظام الردع الأميركي بعد قتل سليماني قد يتحسن لأن هذه العملية تتعارض مع قواعد اللعبة المعروفة بين واشنطن وطهران في السنوات الأخيرة
back to top