احتدام الجدل بسبب اكتساح الرواية للمشهد الأدبي

بعد عزوف القراء عن متابعة الشعر وانسحاب قامات شعرية من الواجهة

نشر في 07-01-2020
آخر تحديث 07-01-2020 | 00:00
احتدم الجدلُ بشأن اكتساح الرواية للمشهد الثقافي والأدبي وعزوف القراء عن متابعة الشعر وانسحاب قامات شعرية من الواجهة وتحول بعض الشعراء إلى منصة الرواية، بعدما أصبح منبرهم مهجوراً، علماً أن الأزمة ليست في النص الشعري بقدر ما تكمنُ في المنتسبين إلى بيت الشعر.
تواجه الرواية سيطرة على المشهد الأدبي أم هي في زمن الأفول... الاشتغال النقدي لم يعد عاملاً لاكتشاف النصوص التي تحملُ بذور مرحلة جديدة من التناول الشعري، وذلك يكون بدايةً لتأسيس رؤية مختلفة حول مفهوم الشعر ومستويات التلقي. غاب لدى معظم من يعالجُ ظاهرة التضخم الروائي والتفاف الجمهور القارئ حول هذا الفن إدراك العوامل الأساسية وراء انطلاقة الرواية، وما ينشرُه المهتمون بهذا الموضوع لا يعدو كونه كلاماً إنشائياً يحمل على الرواية ويبشر بأفول عصرها، معلناً أن الرهان في المستقبل سيكون على الشعر باعتباره فناً مرتبطاً بمشاعر الإنسان، كأن الفنون والأجناس الأدبية الأخرى تقع خارج المشاعر ولا تعكسُ التطلعات الإنسانية.

من الواضح أنَّ مثل هذه الآراء تعوزها الموضوعية وينقصها الفهم العميق لطبيعة تفاعل المتلقي مع المنجزات الإبداعية ودور المؤثرات الخارجية في تشكيل المزاج والذائقة لدى القارئ، إذ تتبدل الأمزجة تبعاً للتحولات التي تشهدها الحياة الثقافية والأدبية فكانت الأسبقية للشعر الكلاسيكي لمدة طويلة، حيثُ اعتبر هذا الشاعر وذاك الأديب أميراً للقوافي، وبالتالي غزت قصائده ذاكرة الجمهور، فأصبح القول الشعري مهيمناً في الأوساط الشعبية والثقافية.

بوادر الحداثة

وزاد توهج الشعر مع تحرره من الشكل الكلاسيكي وتخففت القيود البلاغة التقليدية إلى أن غدت العفوية والاسترسال من سمات الكتابة الشعرية الحديثة ويستحيل تجاهل دور وتأثير الآداب الأجنبية على هذا الصعيد، إذ بدأ رواد شعر الحداثة بمحاكاة الأدباء العالميين في توظيف الأسطورة والقناع والرمز فتحولت بعض العبارات والرموز الأسطورية إلى علامات للأساليب الشعرية. ومن المعلوم أن الشعراء قد تمكنوا بالاستناد إلى خلفياتهم الثقافية من إنشاء لغة جديدة يتطلبُ التعامل معها مستوى معرفياً، لأنَّ الشعر قد خرج ولو نسبياً من طوره الإنشادي، صحيح قد نجح بعض الشعراء في الحفاظ على ما كان يتمتعُ به نظراؤهم الكلاسيكيون من الحضور بين العامة والنخبة، ربما كان نزار قباني ومحمود درويش من أبرز هؤلاء، لكن النصوص الشعرية الحديثة في معظمها لا تقبل قراءات متسرعة، لذلك من الخطأ المطالبة بأن يكون الشاعر لسان حال قبيلته على غرار ما شاع في العصور الغابرة، وهذا ما يؤكدُ عليه الشاعر اللبناني شوقي بزيغ، إذ يوافق صاحب «وردة الندم» الشاعر اليوناني أوكتافيو باث في المراهنة على ما يسمى بالأقلية الهائلة التي تراكم نفسها ككرة الثلج على امتداد الزمن، لذا لا يصحُ ترقب نهاية عصر الرواية ليدورَ الزمن من جديد نحو الشعر، كما أنَّ وفرة الإصدارات الروائية وحظوتها في تزايد الطلب عليها لا يعني انتهاء دور الشعر، إذ لا يتمُ الإدراك الصحيح لتصدر الرواية للمشهد الثقافي بناءً على النفس الإلغائي والعقلية الإقصائية.

مقاربة الظاهرة

وإنما يجبُ مقاربة الظاهرة في سياقها العام، ولا ينكرُ دور الجوائز المرصودة للأعمال الروائية في اهتمام أصحاب دور النشر بطباعة الروايات بغزارة ومن ثمَّ سرعة تسويقها عن طريق الإعلام البديل وبذلك تزداد الاندفاعة لتلقي ومتابعة النصوص الروائية، غير أنَّ الأمر لا يمكن اختزاله إلى هذا الجانب، بل ثمة أسباب أخرى، من أهمها رغبة الفرد في المشاركة في الافتراضات التي تطلقها الرواية، ناهيك عن المجال الذي يوفره الكون الروائي لقراءات متعددة بقطع النظر عن مستواها وعمقها في تحديد خصوصية المنجز الإبداعي.

الجدار الأزرق

ويتفاعل كثير من الروائيين مع قرائهم فيعيدون نشر ما يقوله هؤلاء عن مؤلفاتهم الروائية على الجدار الأزرق فيما لا يمكن لكل قارئ أن يسترسل في الحديث عن الشعر ويناقش مفرداته، لذلك فمن الطبيعي أن يكون النص الروائي أكثر حضوراً من القول الشعري في الفضاءات الافتراضية، كما أن المقتبسات الروائية المنشورة في تلك المساحات تزيدُ الطلب على المؤلفات الروائية.

وعطفاً على ما سبق ذكره فإنَّ الرواية تعوضُ القارئ ما ينقصهُ في الواقع حسب تفسير الروائي التونسي كمال الرياحي، هذا إضافة إلى التنوع الذي يتصف به العالم الروائي والتراوح بين الأزمنة والأمكنة، فكل ذلك يدعم حضور هذا الجنس الأدبي.

يذكر أن رأي الكاتب الإنكليزي سومرست موم يعتقدُ أن القصيدة تتعرض للإهمال إذا لم تكن عالية الجودة، فيما الرواية قد تشوبها العيوب لكن لا تخسر قيمتها.

مشروع الرواية

يستمدُ النص الروائي زخمه الدائم من عدم اكتماله فهو مشرع على تحولات في تركيبته وشكله، إذ يتواصل مع الأنواع الأدبية الأخرى دون أن يفقد هويته «الإجناسية» أزيد من ذلك، فإن فضيلة الرواية هي اللايقين، حيثُ تفكُّ النسيج الذي حاكه الثيولوجيون والفلاسفة والعلماء على حد تعبير «ميلان كونديرا»، كما أن كل شيء وأي شيء يصلح أن يكون مادة مناسبة للرواية حسب رأي فرجينا وولف.

إذن فإمكانيات الرواية مفتوحة ولا ضير في وفرة الأعمال الروائية وانضمام الأسماء الجديدة إلى مظلتها التي تستوعب الجميع بخلاف اتجاهاتهم ومستوياتهم في الوعي، لكن لا يُقرأُ في المستقبل سوى الأعمال التي تتمتعُ بمواصفات مميزة في خطابها السردي وثيماتها المتجددة، فمُعظم الروائيين العظام كان الدافع الحقيقي وراء مشاريعهم الإبداعية هو الشغف، ومن الضروري استعادة موقف نجيب محفوظ، فعندما وصل إليه خبر حصوله على جائزة نوبل كان مُفاجأً، وظهرت قيمة كثير من الأعمال الأدبية بعد رحيل أصحابها، «جاك لندن» لم يعرف معاصروه عبقريته في الإبانة عن جشع الإنسان وقساوته، وعليه فإنَّ محاكمة واقع الإبداع الروائي وإطلاق العنان للتشاؤم بشأن مستقبل الرواية على ضوء ما يشهده الفضاء الأدبي من اقتحامات وتتويج لأسماء معينة بالشهرة ليس إلا رد فعلٍ مُتسرع وقصوراً في فهم مكونات المشهد؛ فالنص الأدبي لا يتمُ تناوله بمعزلٍ عن تأثير معطيات حديثة، كما أن الانفراد بمنصة النجومية لا يتسق مع منطق العصر، كما أن النجومية لا تنعقدُ على أسماء إلا بشكل مؤقت.

لذا فإنَّ ما يركن إلى المتحف ليس الرواية ولا الشعر، إنما من يكتبُ ولا يفهم لغة العصر ولا يفهم الكتابة بوصفها مجهولاً في ذات الكاتب على حد قول الروائية مارغريت دوراس.

النص الروائي يستمدُ زخمه الدائم من عدم اكتماله فهو مشرع على تحولات في تركيبته وشكله
back to top