فتنة الحكاية في رواية «نداء البراري»

نشر في 05-01-2020
آخر تحديث 05-01-2020 | 00:03
غلاف «نداء البراري»
غلاف «نداء البراري»
تكمن قيمة الأعمال الأدبية في فرادتها واكتشاف ما هو مجهول بالنسبة للقارئ، إضافة إلى قدرة الكاتب على إقناع المتلقي بما يرويه في إطار عمله، ويبدو أن العفوية التي تتصفُ بها حركة السرد في الأعمال الكلاسيكية هي عنصرها المميز، لذلك فإن ما يشغل اهتمامك في أجوائها هو القصة التى يعتمدُ عليها العملُ، ولا وجود للتساؤل عن نوع الراوي أو توزيع الشخصيات بين الثانوية والأساسية، الأمر الذي تلمسه في «نداء البراري» لجاك لندن، حيثُ يدفعُ الكاتبُ بالكلب «باك» إلى معترك قصته، وكلما مضى السردُ تصاعدت نسبة التشويق وكان الانتباه مشدوداً أكثر إلى الرحلة التي يقومُ بها «باك»، من حياة الدعة والمدنية إلى شراسة الصراعات مع كلاب أخرى، ومواجهة قسوة المناخ؛ إذ تنخفض درجات الحرارة وتتجمد الأنهار والبحار.
تنتقلُ ملكية "باك" بين السماسرة والباحثين عن الذهب، وفي الأخير يعودُ إلى طبيعته ويستجيبُ للنداء الذي يتنامي إليه. طبعاً هذا العمل الروائي يضمر نزعة يسارية ويظهر جاك لندن سطوة الكائن البشري، ويشير في سياق سرده الممتع إلى صفقات البيع والشراء، كما أنَّ عودة عدسة السرد إلى تصوير المكان الذي يتراكم فيه الذهب الذي جمعه جون ثورنتون وأصدقاؤه قبل أن يهاجمهم أفراد من القبائل البدائية، إشارة إلى أن المال سيكون هوس الإنسان المتحضر وأن المغامرات لاكتشاف مصادر الثروة تستمرُ، وهذا يكون عاملاً للوصول نحو مناطق جديدة، إذاً فإنَّ ما يخطُ التاريخ هو افتتان الإنسان بارتياد إلى المجهول، وفي ذلك متعة وتطور، وقد ينتهي مطاف هذه الرحلة أحياناً بنتيجة عبثية.

نواة أساسية

الحكايةُ تتخذ شكلها في إطار القصة المسرودة، والحبكة هي نواة أساسية لنظام السرد؛ إذ لا تستقيمُ وحداته دون ما يؤسسُ لتسلسل الأحداث المُتتالية، وهذا ما يؤطر برنامج الروايات الكلاسكية التي تمتازُ بسرد مُتماسك، بعيداً عن التشظي في البعد الزمني، مثلما يحصل في الروايات الحديثة، حيثُ يكونُ خط الزمن تصاعدياً في بناء الأعمال الكلاسيكية، وينطبقُ ذلك الأسلوب على رواية "نداء البراري"، عندما يتقيدُ المتلقي بمنظور الراوي العليم الذي يسردُ تفاصيل رحلة "باك"، ويفهمُ من مفتتح الرواية أنَّ بوادر حدث مهم تلوحُ في الأفق، غير أن "باك" بما أنه لا يقرأُ الجرائدَ لذا لا يعلمُ شيئا عن ارتباط مصيره بما سيقعُ، إذ سيكون "باك" وكل كلب يعيشُ في منطقة المستنقعات الضحلة ويتمتعُ بعضلات قوية على موعد مع مُغامرات ورحلات مضنية، فإن لمعان المعدن الأصفر في القطب الشمالي قد دفع بعدد كبير من الرجال للانخراط في مغامرة البحث عن الثروة والتنقيب عن الذهب.

واحتاج هؤلاء الباحثون عن المعدن الأصفر إلى كلاب قوية تتحمل الحياة الجليدية، ينتقلُ السردُ إلى "باك" بعد الإشارة إلى ما ينشرُ في الجرائد والكلام عن استنفار الرجال للانطلاق نحو أرض الأحلام، فكان الكلبُ يعيشُ في منزل القاضي مللير، وأمضى سنوات عمره الأربع هناك بصحبة أفراد العائلة، وحظي بحرية الحركة في أرجاء المنزل الكبير، وكان يتلاعبُ مع حفيدي القاضي. لا يكتفي الراوي بوصف المنزل وموقعه ودور "باك" فيه، بل يشيرُ إلى جنسه الهجين بين فصيلة سان برنارد من والده، والكلب الراعي من أمه الأستكلندية، إذ لم يكن كبير الحجم مثل "ألمو"، غير أن ما عاشه من حياة منعمة قد أورثه الشعور بالاعتداد بالنفس، كما أن وزنه الثقيل قد وضعه في منزلة خاصة، كل ذلك قد أكسبه الغرور. ضف إلى ما سبق أنَّ "باك" لم يقتنع بأن دوره يضيقُ إلى حدود البيت، بل مارس الصيد ومصاحبة الرفاق في الرحلة وزادته السباحة رشاقة وخفةً. هنا يتضحُ أنَّ "باك" يتصدرُ المشهد الروائي إلى أن يتوقفُ السرد. أكثر من ذلك فإن الكلب الهجين مشارك في الأحداث المؤسسة لحلقات الحبكة الروائية.

الصفقة

الصفقة التي يسميها الراوي بالخيانة هي التي تغير مصير "باك" وتنتقل به نحو مجاهل عالم جليدي، فبينما كان صاحب المنزل منشغلاً بالحديث مع أعضاء رابطة منتجي الزبيب، ويتابع شباب المزرعة ممارسة اللعبة، اقتاد مانويل المهووس بالقمار الكلب إلى محطة كولدج باك. هناك يأخذُ المقامرُ مبلغاً مقابل "باك" الذي لم يتحرك ضد تصرفات مانويل، بل اعتبر كل ما يحدثُ نزهةً برفقة أحد أفراد المنزل الكبير، كما تعود أن يثقَ بما يقومُ به البشر، مقتنعا بحكمتهم، لذا لا يرفضُ التفاف الحبل برقبته، غير أنّ رؤيته لانتقال الحبل إلى يد الغريب قد أثار غضبه، وبدأ بزمجرة ، وعندما استفسر أحد الحراس عن صوت المعركة بين "باك" والرجل ادعي الأخير أنَّ الكلب يعاني نوبات عصبية، ويريدُ عرضه على طبيب كلاب ممتاز. يحتدُ غضب "باك" كلما تأكد أنَّه لم يعدْ بين أصحابه وأصبح بعيداً من سانتا كلارا، يمضي مدةً في الحانة ويكونُ المتلقي متابعاً للحوار المتبادل بين صاحب الحانة والسمسار، وتوحي التلميحات بأنَّ سعر الكلب راح يرتفع أكثر ويستحق أثماناً باهظة، ومن ثمَّ يفردُ الكاتب مساحة لتصوير مرحلة الترويض ومقاومة "باك"، فكان الصراع ضارياً بين الكلب والرجل ذي السترة الحمراء، وهنا يحضر البعد المشهدي في السرد ويتموضعُ القارئ موقع المتفرج، الأمر الذي يتكررُ في المقاطع التي تتناولُ الصراع بين باك وغريمه ليسبتز، للظفر بقيادة الزلاجة، إذ يخيلُ للمتلقي أنهُ يتفرجُ على حلبة صراع المبارزين، وكلما بدا الانهيار على "باك" أو غريمه تضيق دائرة الكلاب أكثر.

وفي هذه الحركة المشحونة بالتوتر إشارة إلى التحول في الموقف وترقب الكلاب على المقاتل المهزوم تفوق مؤلف "ناب أبيض" في إضفاء مزيد من التشويق إلى بنية الرواية، من خلال هذه الوقفات المشهدية المبثوثة في جسد النص.

مسافات طويلة

يقطعُ "باك" مسافات طويلة ويمرُ بمناطق كثيرة؛ مدينة داوسون، وجبال "بيج سالمون"، ونهر "هوتالينكا"، كما تنتقلُ ملكيته من شخص إلى آخر، إذ يعيشُ لفترة عند رجل من أصل أسكلتندي في مدينة "داوسون"، وهو يختفي مثل غيره، وأخيرا يكون بعهدة شخصيات جديدة؛ ميرسيديس وشالي وهال، ومن هنا يبدأُ فصل آخر من حياة الكلب، ومن بين الشخصيات الثلاث تشفق المرأة وحدها على معاناة الكلاب التي تترنح تحت حمولة الزلاجة. تتفاقمُ قساوة الأجواء مع نقص الطعام مما أدى إلى نفوق بعض الكلاب فكان داب أول من فارق الحياة. مع تأزم الوضع تشتد عصبية أفراد طاقم الزلاجة، والأهم في هذا الإطار هو عدم طاعة "باك" لرغبة صاحبه بالانطلاق نحو آلاسكا، قبل ذلك قد سخر هال من تحذيرات جون ثورنتون من احتمال سقوط القاع الثلجي، يعنفُ سائق الزلاجة الكلب غير أن "باك" لا يطيع، إلى أن يهددُ ثورنتون هال بالقتل اذا لم يكف عن ضرب الكلب. تقع الشخصيات الثلاث فريسة رخاوة طبقة الثلج وما يسمع إلا صوت سقوط الزلاجة في حفرة، وبذلك ينجو باك من الموت في الجليد ويعوضه ثورنتون عن غياب ميللر ويتعلق بسيده ويشهدُ نهايته المؤلمة عندما يقتله رجال من قبيلة بيهات.

يذكر أنّ صوت الكاتب يندسّ في مفاصل الرواية ويستبطنُ الراوي دواخل الكلب وهواجسه، فبالتالي يقتنعُ القارئ بما يسرده.

جشع الرأسماليين

يقولُ الكاتب العراقي "علي حسين" إن جاك لندن استفاد من تجارب حياته القاسية وإدراكه لجشع الرأسماليين في كتابة رواياته. زدْ على ذلك، فإن بنية الرحلة التى تتواردُ في أعماله هي امتداد لرحلات صاحب "العقب الحديدية" في البحار.

يشار إلى أن جاك لندن كان طالعاً من قاع المجتمع وذاق مرارة الفقر والفاقة وتوفي وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره.

back to top