مشروع بوتين لتصدير الغاز منطقي... ولكن بشروط مختلفة!

نشر في 03-01-2020
آخر تحديث 03-01-2020 | 00:00
No Image Caption
خلال بضعة أسابيع حاسمة، اتّضح الشكل النهائي لواحد من أكثر المشاريع طموحاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: إنه نظام روسي لتصدير الغاز الطبيعي يتماشى مع الواقع الجيوسياسي الجديد بدل النظام المعتمد في حقبة الحرب الباردة، ومن المتوقع أن يستمر هذا المشروع، من دون إحداث تعديلات كبرى فيه، إلى أن تصبح روسيا أخيراً من كبار مصدّري الطاقة.

وُضِعت اللمسات الأخيرة على المشروع الذي بدأ عام 2001 ببناء خط أنابيب «بلو ستريم» نحو تركيا، وشملت إطلاق خط «باور أوف سيبيريا» نحو الصين في 2 ديسمبر، وفرض عقوبات أميركية في الأسبوع الماضي على خط أنابيب «نورد ستريم 2» نحو ألمانيا، وعقد اتفاق جديد مع أوكرانيا لنقل الغاز، وإطلاق خط «تورك ستريم» في شهر يناير الجاري.

ساهمت الضغوط الخارجية وظروف السوق في رسم معالم نظام تصدير الغاز الروسي الجديد كي لا يُستعمَل كأداة شر لتنفيذ سياسة بوتين الخارجية الشائبة، وفي غضون ذلك، يبدو هذا النظام منظّماً بطريقة تسمح لروسيا، بعد انتهاء عهد بوتين، بالحفاظ على حصتها في سوق الطاقة واستخدامه كأساس لعقد شراكات تجارية مفيدة. إنه جزء إيجابي من إرث بوتين وقد ندين له وحده بهذا الإنجاز!

فن الممكن

تعكس خطوات روسيا لتعديل خططها المرتبطة بتصدير الغاز في آخر خمس سنوات تحولاً بارزاً في تفكيرها الجيوسياسي، فكانت شراكات بوتين المعادية للغرب مع أنظمة استبدادية أساسية (على غرار نظامَي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الصيني شي جين بينغ) تحتاج إلى التدعيم عبر خطوط أنابيب الغاز. في الوقت نفسه أراد بوتين أن يحتفظ بحبل نجاة لألمانيا. يظن بوتين، الذي يجيد اللغة الألمانية وكان عميلاً سابقاً في الاستخبارات السوفياتية في شرق ألمانيا، أن علاقة روسيا بأوروبا ترتبط في المقام الأول بعلاقتها مع ألمانيا تحديداً، مع أن المستشارة أنجيلا ميركل تبقى من القادة الأقل وداً تجاه بوتين في القارة الأوروبية.

تحوّل مشروع «ساوث ستريم» الأصلي إلى «تورك ستريم»، وهو خط أنابيب بِسِعَة 31.5 مليار متر مكعب ويصل إلى الجزء الغربي من تركيا، على أن يتدفق الغاز من هناك إلى البلقان. امتلأ هذا الخط بالغاز للمرة الأولى في أواخر شهر نوفمبر، ويخطط بوتين وأردوغان لافتتاحه في 8 يناير الجاري.

في وقتٍ سابق من الشهر الماضي، تم افتتاح خط الأنابيب نحو الصين، «باور أوف سيبيريا»، الذي يُفترض أن ينقل 38 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً بحلول عام 2024، وقد شاهد بوتين وشي جين بينغ الافتتاح عبر رابط فيديو، يمتد الخط من منشأة «غازبروم» الروسية في شرق سيبيريا، مما يعني أنه يقع على مسافة بعيدة جداً من أوروبا، وبالتالي يصعب أن نعتبر عمليات التسليم منطقية من الناحية الاقتصادية.

في الوقت نفسه، عمدت روسيا إلى التنافس مع موردين من الولايات المتحدة والشرق الأوسط في السوق الأوروبية الجديدة التي تشهد توسعاً كبيراً في مجال الغاز الطبيعي المُسال.

أمام هذه التطورات كلها، لا مفر من أن تتابع صادرات الغاز الطبيعي الروسي التوسّع مقابل انكماش الطاقة الإنتاجية الفائضة.

رغم العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على السفن المُكلّفة بمدّ خط أنابيب «نورد ستريم 2» ومالكيها، وقرار شركة المقاولات السويسرية «أولسيز» تعليق العمل على المشروع لتجنب المشاكل مع الحكومة الأميركية، من المنتظر أن يُستكمَل خط الأنابيب هذا. تملك شركة «غازبروم» وأحد مقاوليها الروس سفنهم الخاصة لمدّ خط الأنابيب. صحيح أن إيقاع التنفيذ سيتباطأ مقارنةً بعمل «أولسيز»، لكن قال بيتر باير، منسّق الحكومة الألمانية في الشؤون العابرة للأطلسي، خلال مقابلة إذاعية يوم الإثنين الماضي، إن الحكومة تتوقع أن يصبح «نورد ستريم 2» جاهزاً للعمل في النصف الثاني من هذا العام.

أجبر هذا التأخير روسيا على عقد صفقة أفضل من تلك التي كانت ستتفاوض عليها مع أوكرانيا لو لم تُفرَض أي عقوبات على «نورد ستريم 2». لاستبدال صفقة الترانزيت التي تنتهي صلاحيتها في نهاية 2019، حاولت روسيا تمديد العقد لسنة إضافية، أما أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وهما الجهتان الوسيطتان في المحادثات، فقد اختلفا حول عقد مدته 10 سنوات لضمان إنتاج حد أدنى من كمية الغاز التي تستطيع «غازبروم» ضخّها سنوياً. تتلقى أوكرانيا نحو 3 مليارات دولار سنوياً على شكل رسوم ترانزيت من «غازبروم»، علماً أنها ستواجه عجزاً كبيراً في ميزانيتها من دون هذا التمويل.

وافقت روسيا على اتفاق مدته خمس سنوات وينص على توفير 65 مليار متر مكعب في الحد الأدنى خلال العام 2020 (أقل بقليل من الواردات المتوقعة هذه السنة) و40 مليون متر مكعب في السنوات اللاحقة.

قدّم الطرفان التنازلات في الدعاوى القضائية التي رُفِعت نتيجة توتر العلاقة بين البلدين باعتبارهما شريكَين في قطاع الغاز الطبيعي. وافقت «غازبروم» على دفع مبلغ الثلاثة مليارات دولار الذي ربحته في قضية تحكيم سابقة لشركة «نافتوغاز» الأوكرانية، في حين قررت هذه الأخيرة إسقاط الدعاوى التي تطالب بثمانية مليارات دولار إضافية وتعهدت بعدم رفع أي دعاوى أخرى.

حصلت تنازلات متبادلة أخرى على الأرجح. يُقال في أوكرانيا إن روسيا قد تستأنف تقديم إمدادات الغاز مباشرةً لتلبية حاجات أوكرانيا، وهو تطور لم يتوقعه أحد في عهد الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، حين كانت أوكرانيا تشتري الغاز الروسي في الاتحاد الأوروبي بدل التعامل مع البلد الذي غزا شبه جزيرة القرم. تنكر روسيا من جهتها أن تكون الإمدادات المباشرة جزءاً من الاتفاق، لكن يبدو الرئيس الأوكراني الراهن فولوديمير زيلينسكي أكثر براغماتية من بوروشينكو، وهو يتوق إلى إنهاء الصراع المسلّح الذي أطلقته روسيا في المناطق الأوكرانية الشرقية، وفق مسؤول الاتحاد الأوروبي الذي أدى دور الوساطة لإقرار حل يرضي الطرفين، يثبت اتفاق الغاز الجديد أن بوتين بمقاربته للسياسة الخارجية يقدّر استعداد زيلينسكي للمساومة وتقديم التنازلات.

نتيجةً لذلك، ستبقى أوكرانيا ركيزة مهمة في المخطط الروسي الجديد لتصدير الغاز، خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل، صحيح أن بوتين لم يكن يحبذ هذا الحل في الأصل، فبذل قصارى جهده لإنشاء قنوات محيطة لإمدادات الغاز، لكن يبدو نظام التصدير الروسي متوازناً بشكلٍ لافت. فهو يربط روسيا بالصين وتركيا وجنوب أوروبا وشمالها وشرقها. هذه الأسواق كلها تنافسية، لا سيما في أوروبا، حيث أعاق الاتحاد الأوروبي خطط «غازبروم».

غيّر بوتين خططه فيما يخص قنوات التصدير على أمل أن يكسب نفوذاً جيوسياسياً، وهذا الخيار يبرر استثمار عشرات مليارات الدولارات في خط الأنابيب ومشاريع الغاز الطبيعي المسال.

في نهاية المطاف، سيعمد شركاء روسيا في التصدير إلى التخلص تدريجياً من الوقود الأحفوري، لكن لن يتحقق هذا الهدف في أي وقت قريب لأن أوروبا والصين ستحتاجان إلى كميات إضافية من الغاز حين تتخليان عن الفحم، ومن المتوقع أن توفر روسيا نحو ثلث إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي حتى عام 2040 على الأقل.

لن يكون بوتين في الحكم حينها، لكن ستصبح تجارة الطاقة الروسية في تلك المرحلة أكثر تنوعاً مما كانت عليه حين وصل إلى السلطة، وستتمكن الحكومات الروسية الأقل عدائية من استعمالها كركيزة لإقامة علاقات إيجابية مع الدول المجاورة بدل استخدامها كأداة ضغط، حيث تثبت نتائج مشروع بوتين الكبير أن تعدد العوامل المؤثرة (بوتين الاستبدادي الطموح وحلفاؤه الظرفيون من أمثال أردوغان وشي جين بينغ، وخصومه من أمثال الولايات المتحدة، وشركاؤه المترددون مثل الاتحاد الأوروبي، وضحاياه مثل أوكرانيا) قادر على حشد الجهود اللازمة لإنشاء وضع مثمر.

back to top