مفتي فلسطين ويهود هتلر

نشر في 14-11-2019
آخر تحديث 14-11-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر لم يكتف الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس والديار الفلسطينية، بأعباء قضيته والتحرك ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، بل انغمس كلما سنحت له الفرصة في زعامة عربية وإسلامية كذلك، وبعد فشل محاولة الكيلاني الانقلابية ضد النظام في العراق وجد نفسه في برلين بعد هروبه من العراق وسط حرب عالمية، فانحاز لدول المحور دون دراسة المخاطر وبإمكانات تبيّن أنها لا تستحق الأولوية في نظر ألمانيا النازية.

كما أن إيمانه بقضيته لم يكن إلا حافزا للتدخل في قضايا خارج قضيته، واتخاذ قرارات متسرعة بلا مبرر، كمشاكل يهود أوروبا ومسلمي البلقان وغيرها، إذ لم يكن يرى الشؤون العربية والدولية إلا من خلال عدائه للإنكليز واليهود وبعض المصالح الآنية والشخصية.

يقول "عوني العبيدي" في كتابه "صفحات من حياة الحاج أمين" والذي يعكس إعجابه الشديد بالمفتي "كان يرى انتصار الإنكليز يعني ضياع فلسطين، وقد صدق المفتي في إحساسه وأحسن الاختيار". ولكن العبيدي والمفتي فيما يبدو يتصوران أنه "لو انتصرت ألمانيا وإيطاليا في الحرب على الحلفاء لكان مصير فلسطين أفضل بكثير، إن لم نقل بأنها كانت- أي فلسطين- قادرة على الاستقلال وضمان عدم التدخل من قبل دول المحور". (ص134).

وهذه بالطبع من خيالات "المفتي الحسيني" وأماني الأستاذ "العبيدي" وعدم استيعابهما ماهية النازية وأهدافها وشخصية هتلر وموسوليني.

سنتحدث عن نظرة هتلر والنخبة النازية الفكرية والسياسية إلى "الجنس العربي" وكل من اعتبرته النظرية من الساميين، غير أن المفتي لم يكن يكترث فيما يبدو بنظرة النازيين ورؤيتهم العرقية للبشرية، وإلى "العرق العربي"، أو ما يخطط له "الرايخ الثالث" كأرضية لحروبه العدوانية، بل بلغ الأمر بالمفتي الحسيني أنه عرض في مقابلته مع هتلر، والتي دامت أكثر من ساعة ونصف بحضور بعض المسؤولين الألمان، "معاهدة سرية"، رفضها هتلر قائلا: "المعاهدات السرية لا تبقى سرية، بل تنكشف بعد قليل، وإن كلمة وعد منه- أي من هتلر- أكثر أهمية من تصريح مكتوب".

(العبيدي، ص148).

إلى جانب هتلر وموسوليني كان مفتي فلسطين من أعز أصدقاء مرشد الإخوان المسلمين في مصر، ومن أكثر المؤيدين له، وقد قال في رثائه عام 1948: "بينما كان الملاحدة ودعاة الإباحية ومروجو الفكرة الشعبوبية يهاجمون الإسلام وينشرون سمومهم وضلالاتهم في مختلف الأوساط في مصر والأقطار العربية، وبخاصة بين طلبة الجامعات والمعاهد، برز المرحوم الشيخ حسن البنا في وسط الشعب المصري المؤمن، كما تبرز الشمس من بين السحب الداكنة". (العبيدي، ص94).

هنا أيضا يتسبب كلام المفتي في إثارة عداوات ومواقف مصرية مضادة بهجومه الكاسح على معارضي الإخوان دون مبرر، فهل كانت مثل هذه الأوصاف تصدق إن صدقت على جميع معارضي الإخوان وخصوم المرشد حسن البنا؟ إنها التصريحات نفسها اللامسؤولة التي تعود بالضرر على القضية الفلسطينية.

اهتمت جماعة الإخوان في مصر مبكرا بالقضية الفلسطينية، وأرسلت العديد من الرسائل إلى كبار المسؤولين، وألّفت اللجان واهتمت الجماعة بتعريف الجمهور بتفاصيل القضية والأخطار التي تهدد فلسطين.

(انظر مذكرات المرشد "الدعوة والداعية"، ص210).

ويتحدث أحد كبار الإخوان "محمود عبدالحليم" أن الكثير من النشاطات السياسية الخاصة بفلسطين كانت تقام في المركز العام للإخوان، وفي إحدى المناسبات يقول: "رأيت مفتي فلسطين السيد أمين الحسيني ومعه مساعده الشيخ صبري عابدين، وحوله مجموعة من قادة فلسطين، يتبادلون الكلمات الملتهبة مع المرشد العام ومع الإخوان الطلبة".

(الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ، القاهرة، 1983، ج1، ص88).

ويقول عوني العبيدي في كتاب ثان بعنوان "جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وفلسطين"، عمان 1991، إن التعارف بين المفتي وحسن البناء "بدأ بكتاب أهداه الأخير إلى سماحته، وتوثقت الصلة فيما بعد برسالات وزيارات". وتقول د.عواطف عبدالرحمن في الكتاب نفسه "كانت حركة الإخوان تنظر إلى مفتي فلسطين باعتباره رجلا اجتباه الله لحماية فلسطين، وقذفه رعباً في قلوب عدوها، وأسكنه بقعة من الحرم قد بارك حولها".

يقول د.أحمد نوفل- كلية الشريعة بالأردن- في تقديمه لكتاب العبيدي عن حياة المفتي الحسيني، إن المفتي كان دائم التحذير للعرب والمسلمين من الحلول السلمية، "فالعرب مسالمون والخصم يخادع فاحذروا".

وينقل كتاب العبيدي عن المفتي قوله: "إن المسألة الفسلطينية وكل المسائل العربية لا تحل إلا بقوة السلاح. إن اتباع سياسة مبنية على الثقة بالخصم وحسن نيته وقناعته هي سياسة وهم لا سياسة رجل مؤمن بالعمل، إن الحق الذي لا تدعمه القوة يصبح لدى الرأي العام دعوى باطلة".

(صفحات من حياة المفتي، ص154).

ولم يكن المفتي الحسيني من دعاة استخدام القوة، يقول "العبيدي"، بل كان من دعاة الحلول السلمية في مرحلة سابقة عندما عرض عليه الشيخ عزالدين القسام عام 1935 القيام بثورة في فلسطين في عمل مشترك مع المفتي، حيث أوكل الشيخ القسام من خلال الشيخ موسى العزراوي، وهو أحد أعوان المفتي، أن يشرع الحاج أمين في الإعداد للثورة في جنوب فلسطين، فأجاب الحاج أمين بواسطة العزراوي، "إن الوقت لم يحن بعد لمثل هذا العمل وإن الجهود السياسية التي تبذل تكفي لحصول عرب فلسطين على حقوقهم".

ويضيف "العبيدي" في كتابه، "كان استشهاد القسام هو مفرق الطريق بالنسبة له- أي للمفتي- وكان القسام، رحمه الله، يرى أن الحرب ضد الاثنين بلا تفريق، بينما كان الحسيني يوجه القضية نحو مقارعة اليهود دون الانتداب البريطاني حتى جاء مؤتمر 1936". (ص72). وهذه تفاصيل نتركها للباحث المهتم.

وننقل للقارئ بعض ما يقوله الأكاديميون الإسرائيليون عن المفتي في كتاب منشور عام 1972 بالانكليزية بعنوان "القاموس السياسي للشرق الأوسط"، وجاء في بعض مواد الكتاب "لم يكتف المفتي الحسيني بتجنيد المسلمين لصالح الجيش الألماني، بل ساهم كذلك في الحل النهائي للمشكلة اليهودية، وهو اصطلاح استخدمه النازيون بمعنى القضاء على اليهود، فلعب- أي المفتي- دورا مباشرا في التصفيات التي قام بها جهاز الجنرال النازي "إيخمان"، وكان للمفتي كذلك يد في النشاطات التجسسية وبعض عمليات سلاح المظلات الألمانية في الشرق الأوسط، كما تدفق في مصر العملاء والراغبون في التعاون إلى الجانب الألماني منذ بداية الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك شريحة كبيرة من ضباط الجيش من رئيس الأركان "عزيز علي المصري- الذي طرد بسبب اتصاله بدول المحور، وتم اعتقاله وهو يحاول الوصول إلى خطوط تلك الدول- إلى صغار الضباط كأنور السادات الذي تولى رئاسة مصر بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. وكان التعاطف مع ألمانيا قويا بين الوطنيين العرب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تلك المرحلة من الحرب، كذلك بتأثير الانتصارات الألمانية الأولى على قوات الحلفاء، والتي بلغت أوجها بزحف القائد النازي "روميل" عام 1942 على مداخل مصر.

(Political Dictionary of the Middle East In the 20th Century,ed: Yaacov Shimoni and Evyatar Levine, Jerusalem, Israel, 1972, P. 124,163)

ومن الإشارات الواردة في هذا القاموس السياسي في مجال السياسة النازية تجاه فلسطين تقول المادة المتعلقة بالسياسة الألمانية في الشرق الأوسط "فضل النازيون مع نهاية 1938 رسميا الهجرة اليهودية إلى أي مكان عدا فلسطين غير أن النازيين في الممارسة العملية كانوا يطردون اليهود ويدفعون بهم إلى فلسطين". (ص142).

ونتساءل هنا ما الاستراتيجية النازية إزاء فلسطين؟ وما نظرتهم إلى الحركة الصهيونية؟ انظر ص13 وما بعدها عن موقف ألمانيا القيصرية من الحركة الصهيونية والمسألة اليهودية في كتاب د.محافظة.

لا يُعلم على وجه التحديد ما الدور التي التزم به المفتي الحسيني في عمله ضد الإنكليز واليهود، ومع من تعاون وهو في برلين زمن الحرب. جاء في كتاب "زهير المارديني" بعنوان "ألف يوم مع الحاج أمين" نقلا عن المفتي: "إن مصلحة أمتي هي التي تملي عليّ اختياري، إن انتصار الانكليز كان يعني أن فلسطين ضائعة، أنا لم أذهب إلى بلاد المحور كي أضع نفسي تحت تصرفهم، لقد ذهبت في سبيل خدمة قضيتي، ذهبت مفاوضا لا متعاونا".

( "من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة"، عبدالله العقيل، القاهرة 2006، ص127).

ويقول عوني جدوع العبيدي عن الاتهامات التي وجهت للمفتي بشأن مسألة محرقة اليهود: "لقد بذل اليهود كل طاقاتهم لمحاكمة المفتي كمجرم حرب في محكمة نورمبرغ، وبسبب أن مواد القانون الذي أصدره الحلفاء في صفة مجرمي الحرب لا ينطبق على سماحته، فقد عمد اليهود إلى تلفيق تهم تحقق لهم مرادهم، منها أنه حرض السلطات الألمانية النازية على إبادة اليهود، وأنه كان السبب في القضاء على ملايين منهم، وأنه حرض على يهود يوغسلافيا، وأنه السبب في القضاء عليهم، كما أنه المحرض على ثورة العراقيين على يهود بغداد، وغيرها من التهم الكاذبة الباطلة".

وعن تهمة التعاون بين المفتي "وإيخمان"، أحد الضباط النازيين المسؤولين عن المحرقة يقول: "استطاع اليهود إغراء الهر "كرومي" مساعد إيخمان الذي يعده اليهود أحد المسؤولين عن قتل اليهود في ألمانيا، بأن يدلي بشهادة كاذبة أمام كاتب عدل سويسرا بأنه شاهد المفتي مجتمعا بإيخمان وسمعه وهو يحرضه على إبادة اليهود، واستطاعوا أن يجعلوه يوقع على الشهادة، ورغم ذلك فقد أعدم مع غيره، ولما خطفوا إيخمان من الأرجنتين وجاؤوا به إلى فلسطين المحتلة حاولوا إغراءه ليؤيد شهادة مساعده كرومي، إلا أنه أبى ورفض مطالبهم، ونفى أي صلة بالمفتي". (ص162).

ويضيف العبيدي في كتابه هذا الشديد الانحياز للمفتي الحسيني "أعلن الأستاذ برودتسكي رئيس الشعبة السياسية في الوكالة اليهودية ورئيس المنظمة اليهودية في بريطانيا في تصريح له "أن مفتي القدس يجب أن يعامل كمجرم حرب" واستغلوا قدوم اللجنة الأنجلو أميركية ليحرضوا ضد سماحته، وتصدت جريدة اللوموند الفرنسية وهي جريدة وثيقة الصلة بزعماء اليهود والصهيونية العالمية بتحريض ودس لعينين، ونشرت المقالات التي تظهر فيها سماحته على أنه مجرم حرب".

إن الخوض في دور المفتي في "المحرقة اليهودية" في ألمانيا وأوروبا قضية بالغة التعقيد لا مجال لبحثها هنا، ولكن من المستبعد في الوقت نفسه أن يكون شخص مثل عدائه لليهود قد وقف متفرجا، وهو الراغب دوما في كسب ثقة النازيين والفوهرر على وجه الخصوص، فهو موضوع متروك للباحثين.

عمد المفتي الحسيني وهو في ألمانيا، حيث أقام عدة سنوات متعاونا مع دول المحور، إلى تأسيس ما أسماه "الجيش العربي" بالتعاون مع القيادة الألمانية، ويقول العبيدي "إن نواة هذا الجيش قد أنشئت من المجاهدين العرب الموجودين في ألمانيا، ومن عمال عرب جاء الانكليز بهم إلى اليونان، فلما سقطت في يد الألمان أخذ أولئك أسرى وكان أكثرهم من الفلسطينيين فتفاهم المفتي مع السلطات الألمانية على إخراجهم من المعتقلات، وإرسالهم إلى مراكز التدريب، ولقد أبدوا براعة مدهشة في استعمال الأسلحة المختلفة التي اخترعت حديثا خلال الحرب في يوغسلافيا لمعارك العصابات، ولقد ثبت حسن مهارتهم فيما بعد في معارك 1947-1948م".

ويضيف "العبيدي": "كانت هذه النواة مثلا لجيش المستقبل الذي يجب أن يحتذى، فلقد كانت عناصره من شتى بلدان الأمة العربية الكبرى". (ص155).

وسرعان ما ضم المفتي إلى محور اهتماماته ومتابعته مشاكل البوسنة والهرسك والبلقان لحماية المسلمين بتجنيد عدد من الشبان المسلمين للدفاع عن أنفسهم ضد الصرب، وذلك مع تعهد الحكومة الألمانية بتسليح هذه القوات وتدريبها، كما اتفق "المفتي" مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة للتعبئة الروحية في وحدات الفرقة، وينقل "العبيدي" دون ذكر أي مرجع إعجاب هتلر بأهل البوسنة، وأنه عرفهم كجنود بواسل في الحرب العالمية الأولى.

back to top