«أزاهير الخراب» ومتعة التذكر

نشر في 27-10-2019
آخر تحديث 27-10-2019 | 00:05
غلاف رواية «أزاهير الخراب»
غلاف رواية «أزاهير الخراب»
إذا كانت الحياةُ برأي غابريل غارسيا ماركيز هي ما يتذكرهُ المرءُ لا ما يعيشهُ فإنَّ الروائي الفرنسي باتريك موديانو تطيبُ له الإقامةُ في الذاكرة، وما يحددُ حركة السرد في روايته هو الرغبة في البحث عن شخصيات ما تركت إلا أثراً باهتاً وعاشت في ظروف غامضة، ومن المعلوم فإنَّ أدوات موديانو في رحلته هي الصورة وقصاصات الجرائد والمدونات ودليل الهواتف والمُستمسكات، وبذلك قد أسس عالماً مطبوعاً بالخصوصية في الأسلوب، بحيثُ انَّ نصوصه مسكونة بظلال أحداث وشخصيات يستعيدها موديانو روائياً، ويأتي كل ذلك ممتزجاً بذكرياته الشخصية ومشاهداته اليومية في جغرافيا مدينة باريس ومقاهيها ومسارحها، وأشار الكاتب في خطابه أمام الأكاديمية السويدية إلى ارتباطه الحميمي بـ «باريس»، لاسيما في زمن الاحتلال النازي للمدينة التي تسكنه باستمرار وضوؤها المحجوب والخافت يسبحُ في كتبه على حد قوله.
يراهنُ الروائي الفرنسي باتريك موديانو على الافتراضات البديلة للأحداث وأثر الشخصيات لإضفاء مزيد من التشويق والإثارة إلى بنية النص أكثر من ذلك، فإن المكان يكتسبُ أهمية كبيرة في أدب موديانو لدرجة يتحول إلى عامل أساسي لفعل التذكر، إذ يتحرك ما تراكم في الذاكرة من الصور والتواريخ بتأثير التواصل القائم بين الشخصية والأمكنة.

العلاقة الجدلية

وهذه المُعادلة المسبوكة بنكهة موديانوية بين مكونين هي بمثابة نواةٍ في تشكيلة أعمال مؤلف "تفتيش ليلي" إذ ما أنْ يسلك الراوي في (أزاهير الخراب) شارع "آبيه- دو- لبيه" ويجد نفسه وسط المباني حتى ينهال عليه سيل الذكريات والوقائع. ويتأمل معالم المكان إلى أن يقعَ نظره على باب فندق سد بالحجارة وما يؤشرُ إلى هوية المبنى هو اللافتة المكتوبة عليها "فندق المُستقبل" ومن ثمَّ لا يتأخر الراوي في الكشف عن علاقته مع هذا المكان بعدما تخرج من معهد التعليم العالي، حيث قد أقام بإحدى غرفه وأمضى سهراته بين جدرانها ويسترسلُ الراوي "وهو الأنا الأخرى للذات الكاتية" في الحديث عن ذكريات تلك المرحلة، مشيراً إلى اختبائه مع جاكلين حتى لا يلتقي بها الماركيز.

يُذكر أنَّ الأسماء تتواردُ في مستهل روايات موديانو ويفهمُ ما يربطُ بين هؤلاء مع استمرار السرد وما يزخمُ الحزمة السردية في (أزاهير الخراب) هو خبر مقتل زوجين في سنة 1933، حيثُ قد أبلى صاحب "مجهولات" بلاء حسنا في صياغة الافتراضات حول ملابسات الحادثة كما أنَّ عدداً من الشخصيات التي تنضمُ إلى سياق بيئة الرواية تُعمق لعبة الاحتمالات إلى أن يصبح المتلقي مشاركاً بدوره في عملية الافتراض.

زدْ على ما سبق أنَّ نصوص موديانو موشحة بغموض شفيف. فهو عندما يتناولُ تجربة الكتابة يراها في صورة غامضة. إذ يشبه العملية بقيادة السيارة في ليلة الشتاء برؤية منعدمة فوق قشرة جليدية. فعلاً مناخ رواياته مُغلف بسدميات غامضة وتكونُ تساؤلات سابحة في جسد النص حول هوية المكان وما بدل فيه سبباً إضافياً لتصاعد نسبة الغموض وهذا ما تراهُ في ارتياب الراوي ما يُصادفه في شارع "أولم" إذ يتساءل هو في باريس فعلاً.

وبعد أن تجول عدسة السرد في فضاء المكان يتم الانصراف إلى ماضٍ سحيق مع التلميح إلى وجود مبنى جديد محل ما كان قائماً في السابق، ومن ثمّ ينفتحُ قوس السرد على حكايةٍ تتلاحقُ وحدات الرواية في سياقها.

ومن المعلومِ أنَّ التفاعل مع الصيغ الخبرية والمواد الصحافية يستهوي موديانو فإنَّ رواية دورا برودية تدورُ بأكملها حول خبر هروب الفتاة "دورا" من داخلية مدرسة قلب مريم المُقدس في 1941 ويُبنى باتريك موديانو على هذه المادة المنشورة في جريدة "باريس سوار" هيكلية عمله كذلك تتواردُ الإشارة إلى مقتل زوجين والإفادات حول الحادث بصيغة خبرية في رواية "أزاهير الخراب"، ومن الملاحظ أنَّ الإحالة غالباً ما يكون للصحف المسائية.

إذاً تعتبرُ المحتويات الخبرية وسيطاً بين الواقع والتخييل وتوقع السيناريوهات. وبينما يطوف الراوي في شارع "فوسيه سان جاك" يتخيل مرور الزوجين الشابين أوريان وجيزيل بالمكان نفسه في تلك الليلة قبل مصرعهما منتحرين. وفي ذات الإطار يدعمُ فرضيته بما نشر في الصحف بأنَّ الاثنين قد ارتادا ملهىً ليلياً في "مونبارناس"، مُتسائلاً هل أفرطا في الشرب؟ أو كانت الرغبة دافعاً للخروج من النمط المُعتاد للحياة.

رصد باتريك موديانو سردياته الروائية لمتابعة المجهولين المركونين في أقاصي النسيان واستعادة صورة مغمورة للمدينة، وذلك بالاعتماد على الطبعات القديمة للجرائد وأرقام الهواتف وبطاقات الهوية، وبهذا تتزاحم أطياف شخصيات كثيرة في مساحة أعماله الروائية إضافة إلى تقصي وقائع مقتل الزوجين وتتبع أخبارهما قبل أن تسمع إحدى الجارات أنينا من شقة السيد أوربات، فالبتالي تتذكر دوي إطلاق النار وتطرق الباب فإذا بجزيل الجريح تظهر متمتة "زوجي مات" تتواتر قصص أخرى في حلبة النص وتنضمُ أسماء جديدة إلى خط السرد منها فيوليت التي شبتها الصحف بزهرة السامة، وسليفيان التي يتوقع الراوي أنها إحدى المرأتين اللتين استدرجتا الزوجين إلى "بيرو".

وهنا ينعطفُ الراوي إلى ذكرياته الشخصية واعتقال أبيه في 1943 في إحدى المستودعات التي حولت إلى معسكر إلى أن يطلق سراحه صديقه، والسؤال الذي يشغلُه هل ذاك الشخص هو إدي بانيون العضو بعصابة (شارع لوريستون) ويرتادُ شقة سليفيان هذا الافتراض هو دافع للملمة المعلومات عن بانيون هكذا تتناوب على السرد حادثة انتحار الزوجين والاستذكارات لصور الأمكنة التي تتوزع في روايات موديانو بين المغلقة والمفتوحة، فضلاً عن التلميحات الوامضة لشخصيات مغمورة وما تستدعيه الذاكرة من الأخبار المؤثرة مثل انتحار مارلين مونرو الذي صادفه منشوراً في صدارة الصحف.

والأهم من بين ما يغطيه شريط السرد هو باشيكو الذي ينتحل شخصية أخرى، إذ يتعرفُ عليه الراوي في المدينة الجامعية، ومن ثمّ يتذكر أنه سبق أن رأى هذا الشخص لابساً معطفاً بنياً وما يمرُ كثير من الوقت حتى يصادفه من جديد بحلة وشكل مُختلفين وعندما يبلي الراوي وجاكلين دعوة باشيكو ويتبادل الاثنان أطراف الحديث يدعي المُضيف أنَّ نسب أمه يعود إلى الجنرال فيكتور.

وفي صباه كان يسمي نفسه فليب دوبيلون يحتفظ هذا الشخص بغموضه، وظل مكان إقامته مجهولاً والحال هذه تبدأُ تحريات الراوي في السجلات والصحف ولا تنفكُ ألغاز باشيكو قبل فتح حقيبته التي تركها لدى الراوي، حيث يكتشف الأخير أنَّ باشيكو ليس إلا اسماً منتحلاً للمدعو شارل لومبار الذي كان يعملُ نادلاً في المقهى، ومن هنا تكرُ سبحة الاحتمالات بشأن شخصية باشيكو الحقيقي الذي كان على اتصال بالعدو وتردد على ملاجئ جيش الخلاص.

واعتقل في "باشو" ومن ثمَّ تنتهي الفقرة بمشهد ظهور شابة جميلة بشارع "جوردان" إلى ذلك يستعيدُ الراوي ذكريات هروبه من المدرسة، وتلوحُ أيضاً في دهليز الذاكرة أشياء أخرى ومواقف متباينة، وآخر لقاء قد جمعها بالراوي قد مرت عليه خمس وعشرون سنةً.

وتتسرب سيرة الأب في تضاعيف النص ينضاف إلى كل ما سلف إفراد مساحة سردية للحديث عن الشخصيات الثلاث وهم يرتادون مطعماً غرب باريس برفقتهم فتاة التي لفتت نظر الراوي زيادة على ذلك تتوالى الإشارة إلى الفنانين ونجوم الرياضة في رواية (أزاهير الخراب) التي يذكرك العنوان بأزاهير الشر لبودلير. وما يجبُ الإشارة إليه تقنية الحلم وتداعي الصور حاضرة في نص موديانو الذي يعتقد أننا "سنجدُ أولئك الذين نبحثُ عنهم إذا كانوا أحياءً في مكان ما".

رصد باتريك موديانو سردياته الروائية لمتابعة المجهولين المركونين في أقاصي النسيان واستعادة صورة مغمورة للمدينة
back to top