ياسمينة خضرا يمزج بين سحر السرد وحياكة القصة

معظم رواياته تدور أحداثها في البلدان الموبوءة بالحرب وترصد حياة المهمشين

نشر في 30-08-2019
آخر تحديث 30-08-2019 | 00:00
الروائي ياسمينة خضرا
الروائي ياسمينة خضرا
الكاتب المفضل... إحدى العبارات الشائعة في الوسط الثقافي، والسؤال بشأنِ من هو مفَضل من المؤلفين أو العناوين أو الحقول المعرفية أمر محتمل بالنسبة لمن تستهويه عوالم الكتب، بالتأكيد قد تختلف الإجابة عن هذا السؤال تبعاً للمراحل التي يمر بها المرء، ناهيك عن المزاج والتذوق الذي قد يتغير مع مرور الوقت، واتساع حدود القراءات والمتابعة بمعنى أن التجارب المتراكمة ينعكس تأثيرها في الاختيارات والاهتمامات.
من الطبيعي أنَّ تتبدل قائمة كتبك المفضلة والأسماء الأدبية والفكرية، وهذه من السنن التي تتميز بها الشؤون المعرفية التي لا تقبل الجمود ولا يمكن أن تسبح في نهرها مرتين، وهذا ما يفسر سر النهم المعرفي الذي لا ينتهي عند حدٍ والانفتاح على الجديد بالاستمرار، هكذا تكمن في كل كتابٍ الرغبة لمتابعة غيره والتواصل مع مضامينه وأفقه، وبما أنَّ الكلام يدور عن عبارة الكاتب المفضل يصح السؤال عن المعايير المحددة لمن يعتبره القارئ كاتباً مفضلاً ومابرحَ يعود إليه ولا ينصرف عنه ؟ علماً أن ما من متابع إلا تُضاف أسماء جديدة إلى لائحته طالما هو مقتنع بضرورة ملاحقة الخيط الذي يربطه بعالم الفكر والمعرفة.

عوالم افتراضية

صحيح أن العوامل المؤثرة في اختيارات الإنسان ازدادت ولا مجال لإنكار دور مواقع التواصل على مذاق وأفكار مرتاديها والمجال الثقافي والفني ليس بعيداً عن الآليات المحركة للعوالم الافتراضية أضف إلى ذلك أن إعلان الجوائز والمكافآت المالية للآثار الفنية والأدبية تساهم في رسم قائمة العناوين المفضلة وتغذية الرغبات للاهتمام بنوع معين من الإصدارات.

لكن على الرغم من كل ماذكر أعلاه من العوامل زد إليها دور محتوى الكتب واسم مؤلفه الذي هو جزء من عتباته أو فضائه الخارجي والآراء المتداولة حول اللغة والأسلوب والقيمة الفنية والفكرية والعلامات الإشهارية الرديفة لعنوان الكتاب فإن ذلك قد لا يفك لغز عودتك إلى أسماء معينة من بين عدد كبير من الكتاب بحيث لن تجد فيما سينضم إلى سجل المطالعات والاهتمامات المعرفية والأدبية من يعوض عن هؤلاء المؤلفين المفضلين لديك.

الارتباط الروحي

هل تؤدي المعرفة بشخصية الكاتب دوراً بمعنى أن إعجابك بسلوكه وطبعه يشدكَ أكثر إلى نتاجاته الأدبية؟ ونحن نصادف كثيراً من يعبر عن تقديره لشخصية الكاتب وأخلاقه النبيلة دون كتاباته والعكس صحيح أيضاً إذنْ لابدَّ من مقاربة هذا الموضوع من زاوية أوسع، عدا عن كل ما تمت الإشارة إليه سابقاً يجوز إضافة عنصر الوقت بوصفه من العوامل المؤثرة على عودتك لبعض الكتاب وارتباطك الروحي بأعمالهم إن جاز التعبير إذ لايفتر تشوقك لما يقدمونه مع مرور الزمن واختلاف المرحلة العمرية.

في هذا التفسير، وجدت جواباً لسؤالي عن سبب اهتمامي وحبي لبعض الكتاب من بينهم الروائي الجزائري ياسمينة خضرا فإن الواقع الذي قرأت فيه رائعته المعنونة بـ (الصدمة) قد عمق علاقتي بصاحب (خرفان المولى) الذي يمتلك نصيباً كبيراً من سحر السرد وحياكة القصة. شاءتَ الظروف أن أقرأَ لـ (محمد مولسهول) الذي عرِفَ بـ (ياسمينة خضرا) وأنا أرافق والدي في مرضه وكانت حالته وجلسات العلاج تتطلب بقاءه في المستشفى ساعات متخمة بالقلق والتوتر، وبينما هو راقد على الأسرة يمر الوقت على إيقاع القطرات التي تنزل من المحاليل وبذلك لم يعد الزمن ذاك الذي عرفته في الخارج وحسبت أوقاته من خلال الساعة بل هو زمن مثقل بالأسئلة والترقب تتحكم به حركة القطرات البطيئة.

والعين لا ترى في هذا الزمن غير ماتستعيده الذاكرة من لحظات مع أنها كانت عادية جداً لكن تصبح فردوسك المفقود... وما تعلمته من والدي هو أن آخذ كتاباً كلما وجدت فرصةً أتصفحه وأقرأ جزءاً منه وهذا ما أفادني كثيراً وكسبت وقتاً في الحافلة وفي استراحة العمل، وكان كتاب ياسمينة خضرا أنيسي في تلك الأيام ولم يكن هناك شيء أكثر من الكتاب يلفت انتباه الوالد حتى وهو يصارع مرضاً عضالاً لذا ما إن وجد الرواية حتى أخذها وكعادته قرأَ كلمة الغلاف الخلفي أعجبه الموضوع قال مبتسماً «أنت تختار روايات غربية» ومذ هذه اللحظة قد ربطتني علاقة خاصة بأعمال ياسمينة خضرا كأن تلك الإبتسامة التي خففت من الشعور بالاختناق في فضاء مكتئب كانت من صنيع محمد مولسهول.

الجزيرة المعزولة

وأحدث ما قرأت لهذا الكاتب رواية (ليس لهافانا رب يحميها) الصادرة من دار أنطوان يرتحل خضرا نحو كوبا ويجوس جغرافية تلك الجزيرة المعزولة من خلال بطل روايته خوان ديل مونتي الذي لقب بـ (دون فويغو) بمعنى سيد النار لأنَّه يلهب المسارح بصوته عندما يغني فكان ميكرو صولجانه قد وقف أمام مشاهير الساسة والأدب فيدل كاسترو بريجنيف وماركيز وما يلفت في حياة هذا الفنان هو مامرَ به من الأزمات والتحولات دون أن يفقد الأمل في أي مرحلة ذاق مرارة موت الأم واصطدم بانتحار الأب ومن ثمَّ يسبقه زميله في الارتباط بحبيبته مرسيدس ويفقد عمله وهو على مشارف الستين من عمره عندما يغلق ملهى بوينا فيستا فالحدث الأخير يصرف عنه الأضواء وذلك مالم يتوقعه أبداً لأنَّه قد ضحى بحياته الأسرية من أجل الفن وانفصل عن ميلينا وهو في هذه الحال يتذكر فيلماً يدور عن سجين يطلق سراحه وحين استعاد ما صودر منه وهو عبارة عن بضعة نقود ومفاتيح لم تعد صالحة لأنَّ العمارة التي كان يسكن فيها قد هدمت ومن الواضح أن المشترك بين الممثل وبطل الرواية هو فقدان البوصلة إذ تمكن خضرا من الإبانة عن أزمة بطله من خلال التناص الفيلمي وما يزيد من تشويق الأحداث هو سلسلة مفاجأت تستمر إلى نهاية الرواية التي تستمد قيمتها الأدبية من تنوع الأسلوب وتضايف النقاشات حول الأغنية والشعر كما أن لغتها تنضح بالشاعرية المنكهة بنبرات صوفية وما يخلص إليه المتلقي من مضامين هذا النص الروائي أنَّ حب المرح متأصل لدى الكوبيين على رغم من مظاهر البؤس في المكان الذي يزيده الجواسيس وبيروقراطية الدولة والرأسمالية الوافدة قتامةً.

أشباح الجحيم

ومن المعروف أن الخلفية المكانية لمعظم روايات ياسمينة خضرا هي البلدان الموبوءة بالحرب العراق في أشباح الجحيم وأفغانستان في سنونوات كابول وفلسطين في الصدمة والجزائر في خرفان المولى وليبيا في ليلة الرئيس الأخيرة وما يتميز به عمله الأخير هو تغلغل ثيمة الحب المبثوثة جسد النص ورصد حياة المهمشين. ربما يسأل قارئ هذا المقال عما يجمع بين ماسردته من موضوعات ذات طابع شخصي وماورد عن رواية ياسمينة خضرا أقول غالباً ما تكون قراءاتنا مصحوبةً باستعادة اللحظة التي تعرفنا فيها على المؤلف وأنَّ لكل قارئ حكايةً مع كاتب قد أعجبه.

back to top