أوروبا تبحث عن استراتيجية بشأن الصين

نشر في 05-06-2019
آخر تحديث 05-06-2019 | 00:00
 إيست آسيا فوروم بدأ بروز الصين وطموحاتها الجيوسياسية يتجليان بوضوح أكبر داخل أوروبا، مما سلط ضوءاً أكبر على ضرورة التوصل إلى استراتيجية بشأن الصين، فبعد سنوات من الروابط التجارية والاستثمارية الأكثر تقارباً، يدرك الاتحاد الأوروبي اليوم أن العلاقات الاقتصادية الوطيدة مع الصين تحمل تحديات سياسية وأمنية لم يكن مستعدا لها.

يتضح هذا الوعي الجديد من خلال محاولات الاتحاد الأوروبي الأخيرة حماية قطاعاته الاستراتيجية وبنيته التحتية الحساسة. شملت هذه المحاولات تبني إطار عمل في الاتحاد الأوروبي لفحص الاستثمارات الأجنبية وإصدار توجيهات أمنية بشأن شبكات الجيل الخامس في أوروبا.

توصل الاتحاد الأوروبي أخيراً إلى فهم أنه يحتاج إلى استراتيجية بشأن الصين لأن هذه الأخيرة، التي لا تُعتبر بالتأكيد لاعباً اقتصادياً فحسب، تشكّل قوة سياسية وأمنية ناهضة لها طموحات جيوسياسية. ظهر هذا جلياً من خلال «النظرة الاستراتيجية» التي طرحتها المفوضية الأوروبية في شهر مارس عام 2019، والتي أدت إلى تبني قادة الاتحاد الأوروبي لهجة أكثر حزماً في قمة الاتحاد الأوروبي-الصين التي تلت في شهر أبريل 2019. بالإضافة إلى ذلك، لاحظ مراقبون كثر تصنيف بروكسل في خطوة غير مسبوقة الصين كـ»خصم عام» و»منافس اقتصادي»، لكننا شهدنا تشديداً أقل على إقرار الاتحاد الأوروبي بأن أهداف الصين الجيوسياسية «تمثل راهناً مشاكل أمنية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي على الأمدين القصير والمتوسط». تشير وثيقة استراتيجية إلى أن هذه المشاكل تتجلى من خلال تقدم الصين المتزايد في المجالين العسكري والتكنولوجي والتهديدات الهجينة عبر القطاعات مثل عمليات المعلومات والتدريبات العسكرية الكبيرة.

تتطلب معالجة التحديات التي تمثلها بكين وحدة أوروبية، بما أنه ما من دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تملك وحدها الموارد وقوة التفاوض الضروريتين للتعاطي مع الصين كندّ، وقد أعربت باريس وبرلين عن دعمهما دعوة بروكسيل إلى مقاربة «تشمل كامل الاتحاد الأوروبي» في التعاطي مع الصين، رمزياً على الأقل.

خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الرسمية إلى فرنسا في شهر مارس 2019، دعا ماكرون رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للانضمام إلى اجتماعه مع الزعيم الصيني، كذلك أعلنت الحكومة الألمانية نيتها دعوة كل الدول الأعضاء إلى قمة بين الاتحاد الأوروبي والصين عام 2020 خلال رئاستها الاتحاد الأوروبي. صحيح أن هذه الخطوة أثارت استهجان البعض في بروكسيل، إلا أن برلين تأمل تشجيع الدول الأعضاء الأخرى على تبني مقاربة مشتركة إلى التعاطي مع الصين والامتناع عن خوض محادثات ثنائية عدة تقودها بكين.

لكن النخب الحاكمة في بعض دول الاتحاد الأوروبي تنظر إلى الصين من منظار الفرص الاقتصادية، مقللةً من شأن المخاطر، وتعتقد هذه النخب أن الروابط السياسية الأعمق مع بكين تمهد الدرب أمام فرص اقتصادية أكبر، مما يعوق بالتالي جهود الاتحاد الأوروبي لتطوير استراتيجية مشتركة.

تستند هذه المقاربة إلى الافتراض الساذج بأن التقرب السياسي من القيادة الصينية يغذّي علاقة خاصة تقود إلى معاملة اقتصادية مميزة، كذلك تفترض هذه المقاربة أن من الممكن تطوير علاقة ثنائية تقوم على شروط متوازية، لكنها تغفل عن واقع أن الحكومة الصينية تستطيع الرد بعنف في أي وقت في حال رأت أن هذا ضروري لأجندتها الخاصة، بغض النظر عن أي مذكرات «شراكات استراتيجية»، أو اتفاقات أخرى وُقعت.

لم تصطدم أخيراً محاولات تطوير مقاربة متجانسة في الاتحاد الأوروبي بشأن الصين بجدار في قسم أوروبا الشرقي فحسب (مع توسع مجموعة 16+1 لدول أوروبا الوسطى والشرقية التي تقودها الصين إلى 17+1 بعد الترحيب باليونان) بل في قلبها أيضاً، ففي مارس 2019، أمضى شي أربعة أيام في إيطاليا، التي أصبحت أول دولة من الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي ومن دول مجموعة الدول السبع تؤيد رسمياً مبادرة الحزام والطريق. وتشكّل هذه الخطوة إشارة إلى ميل أوسع تنتقد فيه أوروبا نمو خطة البنى التحتية العالمية الصينية هذه، وتطالب بأن تستوفي مبادرتها معايير الشفافية والاستدامة، في حين تعمد حكومات أوروبية عدة إلى تأييد مبادرة الحزام والطريق.

بالاستناد إلى هذه الخلفية، كيف يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يضمن أن تنظر دوله الأعضاء إلى الصين من منظار استراتيجي أطول أجلاً وتعمل بشكل متجانس؟ تشمل الخطوات الأساسية لتحقيق ذلك سد الفجوات في مسألتَي المعلومات والتقييم بين أجزاء القارة المختلفة. صحيح أن كل حكومة وطنية مسؤولة عن تعزيز خبرات بلدها الخاصة في التعاطي مع الصين، بيد أن الاتحاد الأوروبي يستطيع أن يتولى القيادة بتشجيعه المناظرات بشأن نهوض الصين وانعكاساته على أوروبا. ولا شك أن هذا سيعود بالفائدة على الدول، حيث تحفّز بكين نفسها اليوم المعلومات بشأن الصين وتمولها عموماً.

تتولى الديمقراطيات في جوار الصين الأوسع (مثل أستراليا، ونيوزيلندا، وتايوان) القيادة في التعاطي مع تحديات الصين الشاملة، ومن المؤكد أن التعاون مع هؤلاء الشركاء سيقدّم لدول أوروبا معلومات مفيدة عن النشاطات الصينية وتدابير الرد التي يلزم اعتمادها.

تُظهر التوصيات الأخيرة بشأن شبكات الجيل الخامس وآلية فحص الاستثمارات الجديدة أن خطوات حازمة عدة اتُخذت منذ عام 2016 حين تجلى بوضوح أكبر أن نفوذ الصين يؤثر في التماسك الأوروبي في وجه بكين، كذلك يشير عدد من التقارير إلى أن أعضاء مجموعة 16+1 لدول أوروبا الوسطى والشرقية، التي تقودها الصين، نسّقت بشكل أفضل مواقفها مع بروكسيل استعداداً للقمة الأخيرة في كرواتيا.

لكن إعادة خلط مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي ستنجم عن انتخابات البرلمان الأوروبي تثير أسئلة عدة عن الطرق التي ستعتمدها بروكسيل لتعيد صوغ جهودها الحالية وتحولها إلى مقاربة استراتيجية أكثر تماسكاً في تعاطيها مع تقدّم الصين. ستحاول بكين على الأرجح استغلال هذه الفرصة الناجمة عن التغييرات المقبلة في إدارة الاتحاد الأوروبي بهدف الترويج لمصالحها، ونتيجة لذلك، يُعتبر صون المصالح الأوروبية في وجه الصين من خلال استراتيجية مشتركة طويلة الأمد ضرورة تزداد إلحاحاً.

*«لوكريزيا بوغيتي*»

back to top