قصة قصيرة: ماذا يبقى من حلم ليلة سابقة؟
ماذا يبقى من حلم ليلة سابقة؟في حفل مهيب، وعلى مائدة الطعام المستديرة، أجلس مع مجموعة أشخاص مشهورين، نجوم لامعين في الغناء والفن. ألتقيهم لأول مرة وأحكي لهم عنك وعن مرارة فقدك كمرض خبيث فتك بالقلب.في الواقع، لا أفضّل أن أبوح بألمي الكبير وضياعي من بعد رحيلك لأصدقائنا المشتركين، لأن مصابهم من مصابي، ولا أحب أن أثقل على أرواحهم الطيبة، وهم كذلك لم يظهروا لي إلا القوة وأحيانا اللامبالاة.هذا صديقنا النبيل، كما يحلو لك أن تسميه، أول من لاح في خاطري، اتصلت به لأتأكد من الخبر الذي أكده من غير أي مقدمات نطقها خالصة: "صحيح، مع الأسف... الخبر صحيح". واستطرد بصوت أكثر تماسكا: "الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة ولا يستحق التوقف عنده، لذلك يجب أن تعيش حياتك" اتبعها بفرنسية متقنة: Ce La Vi". صديقنا الذي أدهشني بصلابته أمام موتك، قد أباحت لي زوجته أنه لم يستطع النوم لأسبوع كامل منذ الخبر، وأصبح قليل الكلام كثير الشرود، فهذه حقيقة ما فعل به رحيلك.
وصديقنا الآخر، العبقري العزيز الذي كنت دائم الإعجاب بمواهبه المتعددة. كان متماسكا جدا عندما رأيته في الجنازة، لدرجة أنه أتاني بقنينتّي مياه معدنية، وأتبعهما بـ "من المفترض أن نلتقي في مكتبه اليوم، الأربعاء، ها نحن نفي الآن بوعدنا له". هل تعلم ما حل به بعد أسبوع من تركك لنا؟ انهار باكيا كالطفل خلف الهاتف، وبعدها بلحظات عاد إلى تماسكه الجبار، ولم يخجل من دموعه مادامت تتوارى خلف الهاتف بعيدا عني.أما صديقتنا المشتركة الشاعرة الموهوبة، كما كنت تصفها، فلم تكن لتصدق الخبر يومها، وبقيت مترددة أن تبعث برسالة هاتفية لي، وفضلت أن تهيم بشكها، فهذا ما اعترفت به بعد مرور ثلاثة أشهر، فالخبر تأكد ورغم ذلك مازالت غارقة بوهمها وعدم تصديقها. في أيام رحيلك الأولى، رحت أبحث عنك بين أصدقاء عمرك القدامى، فكان رفيق دربك الوفي يرد على حزني، بصوت متهدج: "فكيف بحالي أنا من بعد صداقة دامت عشرات السنين؟"، يخرسني رده ويعمق من ألمي أكثر.في زيارتي الأخيرة لك، قطعت حديثنا عدة مرات، لتتفقد عبر الهاتف صوتا لم يجبك، صوت ابنتك الروحية التي عادت بعد رحيلك طفلة ضائعة، يتيمة للمرة الثانية تنوح من فراقها لإنسان يستشف ما في نفسها أينما كانت. قالت لي: "لم يبق لي أحد، من سيشعر بي الآن؟ أصبحت وحيدة".وذاك صديقنا الخلوق، ابنك الروحي، كان الشخص الثاني الذي أكد لي الخبر في ذلك اليوم. مازال يبكي فراقك، وكم كان يشتكي لك من شللية مدعي الثقافة ونفاقهم لبعضهم البعض، بينما كنت أنت وحدك سنده المستقل والوحيد.هل أستمر بسرد قائمة أصدقائنا المشتركين، أم اكتفيت؟ دعني أحدثك عمن يعيشون في بلاد أخرى، حيث كنتُ اليوم في زيارة لغاليري يقيم معرضا لصديقك الفنان مرهف الروح، ووفاء لك رسم بورتريها عظيما، وجهك بملامحك الطيبة وعيناك الخضراوان تنظران الى البعيد، ويدك اليسرى تمسك بكتاب والأخرى بقلم، وما بين رأسك ويديك فراغ. عندما اختار الفنان عنوان المعرض (إسماعيل... الجسد الغائب) كان شديد الدقة بتجسيد معنى الغياب في تلك اللوحة، لوحتك.علامة حمراء دائرية تغطي لوح السعر الذي بجانبها، ولا أحد يعرف الى الآن من قام بشرائها، أمعن النظر فيها لتتبين لي وتتكشف كلمة الأربعاء مطبوعة على جهة اليسار أعلى الصدر، مكان قلبك، حينها شعرت أن روحا خفية تسكن داخلها، أحسست بأنها تنبض، وبعد لحظات ستخرج أنت منها، أو تنطق بـ "يا حيّي الله" أو تكتفي بتلفظ كلمة الأربعاء.بعد رحيلك احسست بثقل هائل على ظهري. لم أعد أقف مستقيمة، فكنت أجري الى أقرب مرآة أتطلع فيها، أتفقد التقوس الذي طرأ على عمودي الفقري، فلا أجد إلا ظهرا مستقيما معكوسا أمامي. أرمي جسدي المثقل على السرير وأهرب إلى نومي لأستيقظ، في حفل مهيب وعلى الطاولة المستديرة أجلس مع أشخاص مشهورين، بكامل تألقهم ينتظرونني، لأحكي لهم عن فقدك.