المشاكس يوسف شاهين (1-15)

الأمير المبجل

نشر في 06-05-2019
آخر تحديث 06-05-2019 | 00:12
يوسف شاهين... اسم لا يحتاج إلى تعريف، فهو ساطع في الشرق ومضيء في الغرب، إنه واحد من الأسماء التي قدمتها مصر للعالم: مثل أم كلثوم في الغناء، ونجيب محفوظ في الأدب، وبطرس غالي في السياسة، ومحمد حسنين هيكل في الصحافة، وأحمد زويل في العلم، وعمر الشريف في التمثيل، ومحمد صلاح في كرة القدم.
شاهين في تاريخ السينما العربية هو «المخرج» بالألف واللام، قبله كان الفيلم يُعرّف باسم البطل أو البطلة، وبعده ظل الفيلم يُعرّف كذلك، مع «جو» دون غيره ينتسب الفيلم إلى مخرجه، ويأخذ الجمهور مكانه في القاعة متفرجاً وليس صانعاً للذوق السينمائي، وبعد كل عرض شاهيني تندلع النقاشات الساخنة بين مؤيدين ومعارضين يختلفون على الفيلم، وعلى صاحبه، ولكنهم رغم الخلاف لا يتجاوزون يوسف شاهين ولا يرمونه بالتجاهل والنسيان، فقد أصبح بصورة أشمل «رجل سينما» حسب التعبير الشائع، شخصيته وأفلامه أثارتا براكين جدل لم تتوقف حممها عن التصاعد إلى عنان السماء على مدى أكثر من نصف قرن حتى الآن، كذلك أفلامه وآراؤه ومواقفه كانت أيضاً مثار دراسة واختلاف ولسنوات مقبلة، وهذا بالطبع أكبر إنجاز يحسب لمخرج سينمائي على شاشة العرب الفضية.
حياة شاهين صاحب «الأرض» و«الناصر صلاح الدين» و«العصفور» و«اسكندرية ليه؟» و«المصير» وبقية أفلامه التي نال عن بعضها جوائز سينمائية في أهم المهرجانات العالمية، وشكلت تاريخه السينمائي الباهر، لم تكن كتاباً مفتوحاً رغم ملايين الكلمات التي قيلت حوله، ورغم الأفلام التي قدمها تحت مصطلح «السيرة الذاتية». إذ إن حياة المخرج المجنون... الطفل... المتمرد، ظلت كأفلامه تبدو جاذبة ومتاحة للجميع، ولكنها غامضة، ومحصنة بالأسرار ومحاطة بالأسوار، أبوابها الملونة ملغومة بألغاز «وحوش طيبة» لا يمكن المرور منها إلا بعد حل كلمات السر العصية. ومن حسن الحظ أن شاهين ترك لنا بعض المفاتيح في أكواد مشفرة بعضها في كلامه وبعضها في أفلامه، وفي هذه الحلقات نسعى إلى حل الطلاسم وإضاءة المناطق الرمادية في حياة المخرج الغامض، بقدر ما فيها من متاهات وألغاز.

أبواب السما

في بداية ليلة عاصفة من شتاء عام 1926، تحديداً يوم الاثنين 25 من يناير، ولد الطفل الثالث للمحامي الاسكندري جبرائيل أديب شاهين. كانت الاسكندرية في تلك الليلة تختبئ تحت أغطية الدفء لتتجنب الرياح الباردة التي تخترق العظام في الفترة بين نوة «الغِطاس» ونوة «الكرم»، وهي نوات مصحوبة بأمطار غزيرة تغرق الشوارع وتعطل الحركة، في تلك الليلة قالت الجدة: «خير.. أبواب السماء مفتوحة»، وهو تعبير شائع عند المسيحيين الذين يعتقدون أن السماء في الفترة الممتدة من عيد الميلاد إلى عيد الغَطاس تفتح أبوابها فيهطل الماء الطاهر ليغسل العالم من خطاياه في موعد تعميد المسيح عليه السلام، والتعبير نفسه شائع عن المصريين جميعاً ويرددونه عادة كلما انهمر المطر.

البيت هادئ رغم الصخب الذي كان منذ ساعات قليلة... الجدة تهتم برعاية الأم، بينما الأب يطمئن على ابنه الأكبر ألفريد، ويسحب مزيداً من الأغطية على طفلته المحببة آيريس، ثم يجلس وحيداً في غرفة مكتبه يطالع العدد الأخير من مجلة «الحاوي» التي يصدرها المغامر الاسكندري الغامض حافظ نجيب. لكن ذهنه انصرف إلى تفاصيل المناقشات السياسية الطويلة التي ينخرط فيها منذ أيام عن جهود تأسيس «حزب الاتحاد» في الاسكندرية، كجزء من المؤامرات التي يدبرها الملك فؤاد ضد حزب الوفد الذي يميل إليه الأب من غير انخراط تنظيمي. وبعد فترة من «السرحان» ألقى بالمجلة جانباً وتذكر مولوده الصغير، فبدأ في مفاضلة الأسماء المقترحة. كانت الأم متحمسة لاسم «جوزيف» تيمناً بالنبي يوسف، بينما هو يفكر في اسم يبدأ بحرف الألف (ليتناغم مع أسماء ألفريد وآيريس)، وبعد تفكير سريع ارتاح لاختيار اسم «ألبير»، فهو يعني «النبيل المشهور» أو «الأمير المبجل».

كان الأب الأسمر المتجهم يكبر زوجته الجميلة بأكثر من 20 عاماً، وكان يعاني احباطات في العمل، فهو محام متوسط الدخل لا يستطيع أن يوفر حياة رغدة لفتاة حسناء في مقتبل العمر، كما أنه لا يستطيع مجاراتها في التطلعات وخفة الشباب، لذلك كان يتحاشى بقدر الإمكان أية مشكلة قد تغضبها أو تفتح الباب لإعلان تذمرها. لذلك فكر مرة أخرى، ليتجنب عصبيتها، ورحب بالاسم الذي يرضيها، متنازلاً عن رغبته في تشكيل امبراطوريته العائلية بالطريقة التي كانت تستهويه، وتمثل بالنسبة إليه حيلة تعويضية تمنحه بعض التميز وسط مجتمع الأثرياء الناجحين من العرب والأجانب الذين عاش بينهم بحكم أصوله البرجوازية.

وسواء كان الاسم جوزيف أو ألبير، فإن شاهين حينما بدأ مشواره الاحترافي اختار لنفسه اسم يوسف شاهين، وفي أفلامه التي راح يرصد فيها سيرته الذاتيه اختار اسم يحيى، وعلى شاهد القبر دوَّن اسم يوسف أديب شاهين.

«لا يهمني اسمك... لا يهمني عنوانك... لا يهمني لونك... ولا ميلادك. يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان». (حدوتة مصرية)

صور متباينة

في حوار بين الأب والابن (يحيى/ ألبير/ جوزيف/ يوسف) ضمن أحداث فيلمه «حدوتة مصرية» يعاتب الابن والده على قبول زواج أخته من ثري عجوز لا يناسبها، بدلاً من ضابط شاب يحبها، فيبرر الأب ذلك بالثروة «شغل شغل.. لم قرشين هيخلو بنتك (قصدي أختك) مش هتشوف يوم زي الأيام السودا اللي شافتها أمك معايا... أيام من غير عيش، من غير رز، من غير لحمة، من غير خضار، من غير صابون، من غير شرابات نايلون.»

يحيى: هي الحياة شرابات نايلون؟

الأب: روح اسأل أمك.

«أم شاهين» ظهرت على الشاشة من خلال صور متباينة في الشكل وفي التصرفات، تراوحت بين أداء محسنة توفيق الهادئ الحنون والصبور، وأداء سهير البابلي العصبي المتمرد الهيستيري. لكنها في الواقع لم تبتعد كثيراً عن الملمح الرئيس الذي حرص شاهين على التمسك به، وهو صورة الأم التي تكافح من أجل تحسين حياة أسرتها، من دون أن تتنازل عن تطلعاتها إلى حياة أفضل، مع بيان وجود مسافة وحاجز بارد بينها وبين الأب المنشغل دائماً بالصيد أو باللاشيء داخل مكتبه مردداً طوال الوقت أحاديث فارغة عن أمجاده في الأيام الخوالي وتفوقه الذي لم ينعكس في نجاح ملموس.

في السمات الشكلية، اتسمت الأم بملامح أوروبية شبابية رشيقة في مقابل الأب الكهل المترهل، الذي يموت دائماً في الأفلام (من «بابا أمين» إلى «حدوتة مصرية» وبينهما «العصفور» و«اسكندرية ليه؟»)، ويصعب طبعاً أن تنطبق هذه الملامح على صورة ماري منيب التي قامت بدور الأم في «بابا أمين»، لأن شاهين في فيلمه الأول (1950) لم يكن يفكر في سيرة ذاتية، ولم يكن يقدر على فرض رؤيته الكاملة على النظام الانتاجي، لذلك ظل الحضور «الموارب» للأب في أفلامه الأولى من خلال المهنة وفقط (المحاماة). أما ملامح الأم فكانت أقرب إلى سماحة وجه الفنانة محسنة توفيق، وهو ما يبدو واضحاً إذا تأملنا الصور، وتأملنا معها تكوين الكادرات وربطها بما تختزنه ذاكرة شاهين عن أمه يونانية الأصل، اسكندرية المولد والنشأة.

ورغم ندرة حديثه عن أمه، حتى أنه لم يذكر اسمها علناً ولا مرة واحدة، إذ لم تتضمن حواراته أية إشارة إليها بالاسم أو بالتفاصيل، فإن التعرف إليها وإلى صورتها الواقعية يعتبر أمراً مهماً لفهم سيرة شاهين ومعالم تكوينه الإنساني والفني أيضاً. وحسب المعلومات التي توصلت إليها بعد جهد كبير، فإن الأم هي «كلير باستروس»، يونانية تنتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك، ولدت وعاشت في الإسكندرية، وتزوجت الأب بطريقة تقترب من الطريقة التي قدم بها شاهين زواج أخته في فيلم «حدوتة مصرية». وأقرب صورة واقعية إلى الأم رسمها على الشاشة من خلال شخصية «بهية» في فيلم «العصفور»، لأن الأم كلير عملت أيضاً خياطة مثلها، لمساعدة الأب على توفير دخل يساعد في تحقيق التطلعات الاجتماعية والطبقية، وسط ظروف الحرب العالمية الثانية وأجواء الركود الاقتصادي نتيجة أزمة الثلاثينيات التي عصفت بالعالم.

يحكي عنها قائلاً: «كانت أمي جميلة وذكية جداً، قوية الشخصية، تقتلني بابتسامتها»، مؤكداً أنها بطلة «اللهفة الأولى» والداعم الأول له والذي لولاها لتعثرت خطواته، خصوصاً في بداياته.

لعبة الأقنعة

يولد المرء بنصيبه من الحظ والرزق والصحة، لكن البيئة تؤثر في هذه العوامل كافة لاحقاً، لذلك لا يمكن فهم شخصية أي إنسان بمعزل عن الظروف التي ولد فيها ونشأ وسطها، كذلك المكان وطبيعته وطبيعة الناس الذين يعيشون فيه. وقد سألت شاهين ذات مرة: هل يمكن أن نعتمد على أفلامك لاستكمال الجوانب الناقصة من سيرتك الشخصية؟

أجاب: «علشان أتكلم عن حياتي وتكويني لازم أبدأ من إسكندرية وبعدها أشوف مصر ثم الوطن العربي وصولاً للعالم كله، لأننا لا يمكن أن نفهم حياة إنسان من خلال النظر إلى ذاته فحسب. لازم نشوف كان عايش في أي زمان ومكان والدنيا حواليه ماشية إزاي... فأنا بالتأكيد جزء من الوطن، وجزء من التاريخ الذي عشته، لأني شفت وسمعت وينفع أبقى شاهداً على الوطن وعلى الزمن. يمكن أكثر من الموجود في الأوراق الرسمية، يمكن نقدر نكذب ونحرف ونتجمل في حياتنا العادية ونخدع الناس، لكننا نحتاج إلى قول الحقيقة طوال الوقت حتى لو بطرق غير مباشرة، وبأسماء ناس آخرين، على طريقة «أنا لي صديق عمل كذا وعمل كذا»... مع أنك عارف أنك أنت الصديق ده، وغالبا من تحكي له يخمن أيضاً أنك تتكلم عن نفسك، وأنا اخترت «يحيى شكري مراد» باعتباره الصديق اللي عمل كذا وكذا، وهذا يعني أن الخطوط الرئيسة في حياة «يحيى» حقيقية وتمثلني، لكن التفاصيل مش مهمة، لأني مثلاً في «حدوتة مصرية» كان عندي بنوتة جميلة». وأضاف ضاحكاً: «دي بقى هتلاقوها فين في الواقع، علشان كده افهموا المعنى، ولا تقفوا عند التفاصيل».

المؤكد أن هذه المقولات التي أوضحها شاهين أكثر من مرة يمكن تلمسها وبوضوح من خلال سينماه، تحديداً مساحات التشابه بين حياته الواقعية وأفلامه، وعبر مشاهدة متأنيه لأفلامه سنتأكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن سيرته جزء من سينماه عموماً. صحيح أنه اقترب من ذاته أو على حد توصيف البعض «عرى» حياته بشكل واضح في عدد من هذه الأفلام مثل «اسكندرية ليه» 1978 و«حدوتة مصرية» 1982 و«اسكندرية كمان وكمان» 1990 وأخيرا «اسكندرية نيويورك» 2004، إلا أنه في بقية أعماله كان يبحث عن نفسه ويناقش جوانب خافية من حياته، يستعير في بعضها كثيراً من صور بيئته العائلية أو من طفولته، يفسر مواقف ويبرر تصرفات. بل لعله عوض في بعضها ما انتقص من حياته (الابن الذي منحه القدر في فيلمه «اسكندرية نيويورك» ولم يرزق به في الواقع، كذلك ابنه وابنته أكرم وجميلة في «حدوتة مصرية»، أو بعض الجوائز التي أكد عبر أفلامه ترشحه لها مثل ترشحه لجائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان برلين عن دوره في فيلم «باب الحديد» كما جاء ضمن أحداث «حدوتة مصرية»، أو ترشح محسن محي الدين لجائزة التمثيل عن دوره في «وداعا بونابرت» من مهرجان كان).

باختصار، شاهين ربما قال الكثير، ولكن الأهم أنه اختار ما يعلنه بنفسه: «جروحي الشخصية أنا ممكن أقولها، لكن ليس ضرورياً أن أنشرها، وعندما أريد ذلك أنشرها بطريقتي أنا». حتى في حواراته كان مراوغاً لا يبوح إلا بما يريد.

هي دي الحدوتة

وفي محاولة للإمساك بالمعنى والتعرف إلى البيئة التي أثرت في تكوين شاهين، يتبين لنا بنظرة سريعة على التاريخ أنه ولد في مرحلة عاصفة بين حربين عالميتين، الأولى انتهت بمتغيرات كثيرة، أما الثانية فعاش شاهين أجواءها في صباه ومراهقته (1945-1940) وأثرت كثيراً في تكوينه النفسي، وغرست بداخله كثيراً من القلق والتوتر. فالحرب عصفت بالأحلام وجرّت العالم إلى قلب دوامة من الخوف والأسئلة العدمية، كذلك أدت إلى حالة من التمرد والعبثية، ما دفع البعض إلى محاربة شبح الموت بالغناء والاستعراضات التي راجت في تلك الفترة كنوع من المقاومة النفسية والصمود ضد الحرب بالفن والترفيه، وهذا يفسر تعلق شاهين في فترة مراهقته بنجمات ونجوم الاستعراض مثل «آستر ويليامز، وفريد آستير، وجين كيلي، وأسطورة السامبا البرازيلية من أصل برتغالي كارمن ميراندا التي قلدها شاهين على مسرح مدرسته الثانوية «فيكتوريا كوليدج» في حفلة طلابية عام 1943 قدم فيها «رقصة سامبا» بطريقة ميراندا، فوضع على رأسه إكليلاً من الموز بدلاً من القبعة المزينة بالفاكهة التي كانت ترتديها كارمن واشتهرت بها عالمياً.

على الجانب الآخر، كانت نشأة شاهين في الإسكندرية وسط تجمعات الأجانب من مختلف اللغات والجنسيات والأديان، بمنزلة جلسات للعلاج الجماعي من الخجل والانطواء، فقد ساعدته على معرفة الآخرين، والانفتاح على العالم بلا حساسيات، ما انعكس في أفلامه التي تدعو إلى الحب والتفاهم والحوار ونبذ الكراهية وإدانة العنف والتعصب.

باختصار، أدّت دوراً في تشكيل وعيه ووجدانه، أو بتوصيف أدق أسهمت في تكوين «ثقافته الكوزموبوليتانية» التي اكتسبها من معيشته بها وسط هذا الخليط البشري المتعدد الأجناس والعقائد.

«أعرف بشراً، عرفوني لأ معرفونيش، قبلوني وقبلتهم، بمد إيدي لك طب ليه متقبلنيش، لا يهمني لونك ولا ميلادك، مكانك، يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان» (حدوتة مصرية).

عن البشر والحياة و السينما نواصل معا الإبحار في السيرة الشاهينية في الحلقات المقبلة.

مصادفة الميلاد

ترى هل هي مصادفة أن يولد يوسف شاهين في 25 يناير 1926؟ اليوم نفسه الذي ستنطلق فيه وبعد 85 عاماً أشرف ثورة تنادي بالحرية، والكرامة الإنسانية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وغيرها من قيم عاش شاهين يدافع عنها من خلال أفلامه، ومن دون اكتراث بالمشاكل التي سيواجهها جراء الدفاع عنها، إذ ظلّ دوماً منتصراً للإنسانية ومن دون انتقاص. بل إن عدداً كبيراً من أفلامه ولد من المواجهة، ومن الصدام والصراع، ولم يخل من جرعة تحريضية على السلطة الأبوية سواء بمعناها العام أو الخاص.

البقية في الحلقة المقبلة .....

حياتي مثل أفلامي متاحة وغامضة

جروحي الشخصية يمكنني البوح بها ولكن ليس ضرورياً أن أنشرها

أفلامي عوضت «الناقص» في حياتي
back to top