د. ربيعة أبي فاضل: تجربتي الشعرية تتوق إلى الحقيقة والجمال والخير

• أنتج 60 كتاباً في النقَّد الأَدبيّ والقصَّة والرّواية والشّعر

نشر في 10-03-2019
آخر تحديث 10-03-2019 | 00:17
ربيعة أبي فاضل
ربيعة أبي فاضل
أَنهى الكفاءَة في اللّغة العربيَّة وآدابها في كليّة التربية- الجامعة اللبنانية، أَواسط السبعينيَّات، والدكتوراه في الجامعة اليسوعيّة ثمّ اللبنانيَّة، أَواخر الثمانينيَّات. مارس الصِّحافة الثقافيّة في جريدتَي النَّهار والحوادث. وعلّم في كليّة الآداب، الجامعة اللبنانيّة. ولا يزال يشرف على طلّاب الماجستير والدكتوراه. وهو من الأَقلام الأصيلة والحديثة معاً. أَنتج ستّين كتاباً في النقَّد الأَدبيّ والقصَّة والرّواية والشّعر. وشدّد في نقده على عمق الدَّلالة وسَعة الفضاء ووهج الجمال، واستمدّ معظم قصصه ورواياته من بيئة الرِّيف اللّبنانيّ، ومن التحوّلات التي تفرضها تمدّدات المدن، وإيقاعات الحضارة، والحداثة. أَمّا شعره فصوفيّ، غنائيّ، مشرقيّ، يستمدّ من شمس الشرق دفئها، ومن روحانيّة الشرق غناها، ومن التنوَّع الفكريّ المتفتّح، والحوار والتَّفاهم وقبول الآخر، والبعد عن الكراهية والتسلّط الثّيوقراطي الأَعمى! «وحدها الحكمة» آخر كتبه صدر بالعربيّة والفرنسيّة، ترجمة الدكتورة رلى ذبيان.
«الجريدة» التقت أبي فاضل في دارته في بيروت فدار النقاش الفكري التالي:

● الكتابةُ الحقّ فعلُ سحرٍ رؤيويّ يمتلكُ العقلَ ويسلبُ القلب، فكيفَ تصفها أنت؟

- تسعى الكتابة إلى أَهلها، وهي تعرفهم وتختارهم، وتسكن في بيت الواحد منهم، وتكون ناراً في نايه، وخبزاً على مائدته، ونوراً في عتمته. لا أَحد يتجرّأ على صداقتها أَو الاقتراب منها، أَو ادّعاء العشق أَو الشَّغف بها، ما لم تفتح له صدراً، أَو تناديه رحمُها الدافئة، أو تسمّي المعشوق باسمه، كي تنفحه ريحها، وَيُحاكيه نسيمها، وتعطّر جِواءَه حدائقها، وتزيّن حضوره بأَلوانها وألحانها ومَعانيها الغريبة المُدهشة.

أَمضيتُ خمسين سنة لا أَهجرها ولا تهجرني، صامتة كي تسمعني، وأُصيخُ بصمتٍ كي أَسمعها، أُناديها في اللَّحظات الحزينة فَتُلبسني عباءَة الفرح، وتُناديني بفم مينرفا، فَننتقل معاً من جزيرة إلى بحر وإلى غابة، وإلى صحراء وإلى مدينة وإلى جبل، وهي تجعلني عصفورا أَو زنبقة أَو سنونوة، أو طفلا... كما أَجعلها كالعروس أَو كالورود أَو كحاملات الطيِّب، أُفيض عليها من روحي، وتفيض عليّ من خيراتها، وهي كثيرة لا تُحصى، وأمنحها عينيّ ونبض قلبي لتمنحني تعزية، وحريّة وأَملا وأَجنحِةً لا تتعب!

عندما كنت أَفقد معنى الحبّ، في غربة العالم، كان الحبر يَسحرني بحبّه، وكرمه، ورقيّه، وعندما كنت أَشعر بالوحدة والكآبة، كانت الأَحرف تنضمّ بعضها إلى بعض وتشكّل سنفونية رائعة لتؤنس حضوري وتحضن حزني وتردّني جديداً. وعندما كنت أَبحث عن المعنى والنور، وتَسْودّ الدّنيا أَمامي ومن حولي، كانتِ الرّموزُ تتداعى، تحملني نحو الملاحم والأَساطير والبطولات والمغامرات، وتُشعل ما في ذاتي من طموحات وقيَم وتقاليد، وحياة، فأُدرك مدى أَمانة النّص ووفائه، وفاعليته، ودوره البنّاء في إعادة بناء الذات، وسط الرّكام والآلام!

● وضعتَ عشرات المؤلّفات ولم ينضبْ قلمُك! فما الذي تبغيه من خلال استمرارك؟

- الكاتب أَو الفنّان الذي يرسم أَو ينحت أَو يُلَحّن، لا يقرّر بملء إرادته أَن يوقف الإبداع أَو أَن يستمرَّ فيه، فالمواهب الفنيَّة التي كتبت سفر أيّوب وقصائد بودلير والموناليزا وسلطانة جبران، وموسيقى موزار، تغدو اليوم، شبه غائبة بعد سيطرة الأَرقام والتّكنولوجية والعلوميّة والماديّة، على العقول والقلوب والشّعوب، وبعد تدمير البيئة وموت الطّبيعة، وإحداث الخلل الهائل في نظام الأَشياء والعناصر... المهمّ الآن، هو السُّؤال: هل سَتُعطي الحياة ميكالانج آخر، وغوتي آخر، وأبَا تَمّام آخر، وبالزاك، وهوجو، وأَبا حيّان، والجاحظ؟!

أَستبعد وسط ما نشهد وما نرى وما نقرأ، أَن نُقبل على طبقات متجدّدة في الفنّ والتّخييل والخلق والتأويل والزّيادة والرّيادة. من هنا تَمسُّكي بالطَّريق الذي اختارته لي الحياة ونظامها، وما انتظامي في مشروع الكتابة، وأَنا في الثامنة والستّين، سوى محاولة منّي للانسجام مع الرّسالة التي اختيرت لي، ومع الصَّوت الذي ناداني صغيرا، وأَخذ بيدي، وحرسني، وأوحى إليّ بما كان، وبما يجب أن يكون، وأَنقذني مرّات من الموت، وأَلهمني أَنّ الألم خير والسّعادة خير، والهمّ خير والراحة خير، ولا ثنائيّات ومآسي، بل وحدة حياة يُصفّيها الفهم المبارك، والسّلام في الذات برغم المعوّقات!

وإنّي أَحمل القلم وفي نفسي فخرٌ عزيز لكون رسائل وأَطاريح أُنجزت في بعض جامعات لبنان، حول أَدبي، إلى جانب أُدباء آخرين، وكون دراساتٍ وكُتباً صدرت حول شعري، ونتاجي القصصيّ الريفيّ، وفي نفسي اعتزاز لأَنّي ساهمت في تخريج عشرة دكاترة بعد الإشراف عليهم، ومعظمهم أَهل جدّ وكَدّ ورزانة. كما أنّ عدداً من نصوصي تُرجم إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة، وتُترجم نصوص أُخر، وهذا الأَمر يعني لي الكثير.

وحاولت منذ سنتين أَن أكتب بالمحكيّة المطَّعمة بالفُصحى، وهي تجربة شائقة، ومسؤولة، لخلق روح جديدة في اللّغة. فلغة الحياة التي نتداولها تُغني الفصحى، وهذه الأَخيرة تستوعب الكثير لأَنَّها أُمّ. على أَنّ الأُمّ لا تُطيق أَن تحيا في الهواء، بل تستمدُّ نَسغها وطاقتها وسحرها، من شعبها وهمومه وتعابيره!

● كثير من الفلاسفة والصوفيّين صرفوا عمرهم في البحث عن الحقيقة، وأنت أحدهم، فإلى ماذا انتهيتم؟

- بعض المتصوِّفين انتهى إلى نصٍّ مُبعثرٍ مهجور، عاجزٍ، مُقفَلٍ، وإِلى كائنٍ صامت، هائمٍ على وجهه، يقفُ ولا يقف، يعرف ولا يعرف، يرى ولا يرى. وبعضهم انفصل عن، وشرعَ في رحلته، تاركًا الجهل، والزَّمان، والرّفاهية، عابراً جسر المعرفة، ناسيا ما وراءه، متطلّعا إلى الأَمام. النّمطان يطمحان إلى كسر الغربة بالقرب، والحجاب بالرؤيا. الأَوَّل ترك ولم يجد، والثاني وجد، وشعر بالأُنس، ولو لم يصل، لأَنّ الوصول يعني أَنّي هو. والحقيقة أَنّي أَنّي وهو هو، ولا حلوليّة، ولا إلغاء لحدودٍ بين خالق ومخلوق، وروح كبرى وروح صغرى، وذات تحيا وتموت، وذات تصنع الحياة والموت، والقيامة والحياة.

إنّ تجربتي الشعريّة ليست صوفيّة بالمعنى الطّقوسيّ، الحرفيّ، ولا تدَّعي أَنّها عرفانيَّة تتلقّى الإشارات والإِيحاءات من الحيّ الذي لا يموت. هي تجربة تاقت إلى الحقيقة أَو إلى الجمال والخير، والمثال، وحاولت المعرفة بالقلب إلى جانب العقل، والتحرُّر بالسّلوك إلى جانب النّص. وتجربتي بالعين، والأذن، والذَّوق، والكيان، استعارت ما استطاعت من رموز تُشير إلى طريق المطلق، من "جزر الأنبياء" إلى "عطشان يحنو على الينبوع"، إلى "هَمَسات روح" إلى "عودة الحلاّج" إلى "صوت السَّكينة"، إلى "شيخ العزلة"، إلى "وحدها الحكمة"، إنّما كنت أُصغي إلى أَلحان الأَبد، في الأَعماق، وإلى عذوبة المعرفة، في الشّوق إلى الوحدة. وأَنا لم أُنهِ المحاولة، لكونها لا تصل، ولا تنتهي، ما دمت في لباس الجسد، وأَلعب في الزّمان، ويلعب بي!

● هذه الجامعة حيث أمضيتَ ربع قرن، ماذا تقول لك اليوم؟

- هذا سؤال مهمّ أَودّ أَن أُفرِّعه إلى مسأَلتين: الأُولى أَنَّ المعرفة يجب أن تُغيِّر الحياة، الثانية: أَنَّ المعرفة انفتاح، وانتظام، وتطوُّر دائم. والجامعة هي الحضن، أَو الرّحم، أَو المصنع الذي يرعى التفكير النّقديّ، والتنّوير الثقافيّ، والتعالي على الفرديّة لبناء مجتمع منفتح عادل متحرّر متكامل، ووطن تنصهر فيه المُتناقضات، وتتراجع صراعات المذاهب، ويبرز دور المُتَّحد المُتَراص، خارجَ التَّحدَيات.

● هل أخفق الإنسان على مدى تاريخه في تحقيق رسالته؟ وما كانت العوائق؟

- ما هي رسالة الإنسان في هذا العالم؟ أن يُضحِّي ويُحبّ ويُسهم في سعادة المخلوقات، والكون. مارس اللَّعب، في بعض الحضارات، على قاعدة أنّ كلّ العناصر تلعب، وهي في الوجود، من الزَّهرة إلى المجرّة. وأَخضع الحياة للعقل، في حضارات أُخر، فبنى العقلُ برجه العلميّ، ووضع الكائن أَمام تحدّيات وأَزمات لا نهاية لها. وفي ثقافات أُخر، أَشاح عن حضارة الخارج، وعاد إلى القلب بحثا عن حقيقة ذاته، وما يحوط به من تطوّرات ومستجدَّات وحياة. اللّعب والعلم والتصوّف، ثلاث حالات من مجموعةٍ لا حَدَّ لها، تُخضعها البشريَّة للتَّجريب. اللَّعب كشف الحلوليّة، والتكنولوجيا كشفت الذّكاء الراعب، المدمّر للبيئة، وللإنسان، ولنظام الطبيعة. بقي القلب العارف، فهو ضمانة تماسك الحياة، واستمرارها، واحتضانها الجوهر الروحيّ للحقيقة.

علَّمتنا الأُسطورة، ومعها الملحمة، كما القصص الدينيّة، أَنّ غلغامش الباحث عن الخلود، عاد حزينا برغم بطولاته، واقتنع بأنّ الآلهة وحدها، تمتلك نعمة الخلود، وسلطة الحياة. وأَنّ أَيّوب لحظ مدى حدوده، ومدى طاقته، فرأى في التّسليم حِلما، وفي الصَّبر مودَّةً وحُلما، واختار طريق المصالحة مع الآلهة، وتسييرها شؤون الوجود.

وهكذا، عندما بحث أُورفيوس عن أُوريديس، وتحوّلت أمام عينيه إلى رماد، رأى مساحة قدرته، ومسار مصيره، فاكتفى بالألحان، والغناء. الأَوّل وجد ضالّته في المجتمع، وأَدرك أنه إلى موت، والثّاني مات ألف ميتة قبل أن يموت، على طريقة مونتاني القائل بالموت قبل الموت، لكنّه رأى في موته الحياة، والثالث انتصر على الموت بالفنّ، ونشر الفرح، في عناصر الطَّبيعة، والكون. لا شيء يوازي رسالة هؤلاء الأبطال: أن ننتمي إلى الحياة، ونساعد على ارْتقائها، وندع الميتافيزيق للآلهة!

انتظامي في الكتابة محاولة للانسجام مع الرّسالة التي اختيرت لي
back to top