صيادون في شارع ضيّق

نشر في 22-02-2019
آخر تحديث 22-02-2019 | 00:00
No Image Caption
عندما وصلت إلى بغداد كان لديّ ستة عشر ديناراً فقط، وكان مقدًّراً لهذا المبلغ أن يكفيني فترة أسبوعين. وقد ثبت فيما بعد أنَّ ذلك التّقدير كان مبالغاً في التفاؤل، إذ إِنَّ السّلفة الأولى على راتبي لم تُدفع إِلّا بعد مرور ستة أسابيع. بل إِنَّ ستّة عشر ديناراً ليست بالمبلغ الكبير بالنّسبة لغريب في مدينة كبيرة حتّى لفترة أسبوعين. لذا فكّرت بوجوب الحيطة في مصروفاتي، وبالذهاب إلى فندق رخيص.

طلبت من سائق التكسي أن يأخذني إلى فندق جيّد، ففعل. أخذني إلى «فندق شهرزاد» الذي كانت له واجهة لطيفة تتقدّمها حديقة. فتركت متاعي في السيّارة، وذهبت إلى منضدة الاستقبال. كان الجوّ حارّاً جداً في الشارع، ولكن ما إن دخلت ردهة الفندق حتّى هبّت على وجهي نسمة باردة رطبة، فساورتني على الفور بعض المخاوف فيما يتعلّق بالأجور، الأمر الذي أكّده لي الموكل بالاستقبال.

لم يدهش السائق حين عدت إلى سيارته ثانية، وقلت: «أجوره مرتفعة جداً. خذني إلى فندق جيّد، ولكن أرخص». فقال: «أمرك يا سيّدي». ومضى . وبعد حوالى مائة ياردة استدار إلى شارع جانبيّ، ووقف. فنزلت من السيّارة ورأيت باباً لم يكنس خلال عام على الأقلّ. فعدت للسّائق وقلت له وأنا أدخل السيّارة مرّة أخرى: «هذا قذّر. خذني إلى أحسن منه».

فقال حين تحرّكت السيّارة: «إِنَّه فندق جيّد. وأنا آتي بالكثيرين إليه».

ثمّ ساق السيّارة لبضع دقائق أخرى، وأنزلني في مدخل فندق يشبه المدخل السّابق شبهاً كبيراً، وقال ناصحاً: «إسمع يا سيّد. إِمّا أن تذهب إلى «شهرزاد» وإماً إلى واحد من هذه الفنادق. ليس ثمّة شيء وسط ستدفع 150 فلسًا فقط ههنا».

ونزل من السيّارة بحركة قطعيّة، ووضع أمتعتي على الرّصيف، وصعد معي على درج شديد الانحدار إلى منضدة الاستقبال.

وأفزعني أن يستقبلني رجل حافي القدمين، لم يحلق منذ عدّة أيّام. ابتسم للسّائق أوّلاً ثمّ لي.

قال السّائق: «أتيتك بصديق يا شكري: فاعتن به عناية حسنة».

فأجاب شكري: «بالطّبع. أين الأمتعة؟»

وجيء بالأمتعة في دقائق، وطلب السّائق ديناراً فأعطيته نصف دينار، ورغم احتجاجه فإنّه لم يكن مستاءً. ولربّما كان ربع دينار يكفيه!

قلت لشكري: «والآن، قدني إلى غرفتي رجاءً». كانت ليلة السفر عبر الصّحراء ليلة غبراء، ممّا جعلني بحاجة إلى حمّام وإلى وجبة طعام جيّدة. أخذني شكري إلى غرفة فيها سريران، ولكنّه أكّد لي أنّ السرير الآخر لن يستعمله أيّ «مسافر» آخر طيلة مكوثي فيها. كان الضيوف يُدعون «مسافرين»، وكان شكري حين يشير إلى الفندق يدعوه «المسافر خانة».

قال : «هناك الكثير من «المسافر خانة» في هذه المنطقة، ولكن قليلًا منها توفّر لك الرّاحة التي ستجدها هنا».

وحين تُرِكتُ لوحدي اكتشفت، لفزعي، أنَّ الشراشف كانت مستعملة. بوسعي أن أحتمل الكثير من أشكال الفقر، أمّا النوم في شراشف استعملها «مسافر» آخر فأمر أكثر ممّا يطيقه احتمالي. لذا هرعت عائداً إلى شكري بقدميه الحافيتين، فوجدته يتحدّث مع امرأة سمراء ذات عينين مثقلتين بالكحل، ترتدي عباءة سوداء جميلة تنحدر من رأسها حتَّى القدم.

قلت لشكري: «هلّاَ بدّلت الشراشف؟»

فقال: «آسف يا أستاذ، لا أستطيع إبدالها اليوم».

- «ولكنّها مستعملة».

- «مرّة واحدة، في اللّيلة الماضية. مجموعة الشراشف الجديدة تعود من الغسيل غداً».

- «هل تتوقّع منّي أن أستعمل تلك الشراشف القذرة؟»

- «ليست قذرة جدًا يا سيّدي».

فقالت له الفتاة ذات العباءة السّوداء أن يبدّلها، ولكنّه أقسم باللَّه أنّه لا يستطيع. ودُقّ في هذه الأثناء جرس، فاندسّ شكري في إحدى الغرف.

سألتني الفتاة: «غريب؟»

- «نعم».

- «من دمشق؟»

- «لا. من القدس».

-«لا تقلق. نحن نعتني كثيراً بالغرباء».

كان لها سنّ ذهبيّة في فكّها الأعلى تلتمع كلّما فتحت فمها.

قلت لها: «شكراً». وعدت إلى غرفتي. وهناك قرعت الجرس، وطلبت الأمتعة، فجاء بها صبيّ. وأدركت أنّ عليّ أن أجد محلًّا آخر أسكن فيه على الفور. كانت تنبعث من ذلك المكان المظلم، وسط إشعاع شهر تشرين الأوّل، رائحة الانحطاط الذي تتّصف به اللّيالي الملوّثة والنهارات المتلصِّصة. وتصوَّرت حالة غرفة الحمّام في مكان كثيب كذلك. لذا، وقبل أن آخذ الحمّام الذي كنت بحاجة ماسَّة إليه، خرجت وأقفلت الباب، والتقيت في طريقي إلى الدَّرج الشّديد الانحدار بالفتاة ذات السنّ الذهبيّة وهي واقفة إزاء المنضدة. كان لها أن تكون تمثالاً من الأبنوس أو «عذراء» بلا طفل، أو عشتار بابل: فقد كان لوجهها من الجمود، ولوقفتها من السّكون، ولعينيها من الاتّساع والسّواد ما أثار بي ألف صورة وإحساس.

ونزلت الدّرج، وعند المدخل نظرت إلى الأعلى لأرى اسم الفندق. كان الاسم «ملكة سبأ» مكتوباً بالعربيّة والإنكليزيّة على قطعة صفراء. ما الذي كان الملك سليمان سيقول لو رأه؟

كانت الأعمدة قائمة على جانبي الشارع في رواقين لا ينتهيان. وهي بمظهرها السَّقيم وعدم انتظامها تمتدّ عنيدة على طول الطّريق، تظلّل دكاكين حادّة الزوايا يجلس أصحابها في أبوابها يشربون الشاي في أقداح زجاجيّة صغيرة، والناس يمشون ببخترة بالعباءة العربيّة التي كان قليل منهم فقط يرتدونها. لقد أدهشتني الوجوه الغريبة السّمراء تشوّهها الخدوش أو بثور الجدري، أو تحفرها «أختٌ» رهيبة تأكل الجلد فوق الخدّ أو في منتصف الجبين أو على جانب الأنف: أشبه بطبقة عميقة من زهرة شرسة. ولقد سمعت بعد أيَّام شابًّا يعبّر عن شوقه إلى أن «يراكم قبلاته على تلك البشرة الرّائعة التي تزيَّن فك حبيبته»!

كان الشارع بألوانه وتصميمه المضطرب يبدو مرقًّعاً، كما لو أنّه بنيَ ارتجالًا - فالأعمدة لا تبقى متشابهة لمسافة طويلة. ورأيت شرطيًّا طويلاً أسمر، له وجه نحيل، يقف بجانب أحد الأعمدة. فسألته: «أين الشارع الرئيسيّ من فضلك؟»

- «هذا هو الشَّارع الرئيسيّ!» قال ذلك بلهجة الدَّهشة، كما لو أَنَّهِ يريد أن يقول : «ألا تظنّه يعجبك؟»

وأخذت أبحث عن اللّافتات التي تحمل أسماء الفنادق، فلاح لي على الفور صفّ طويل منها: «فندق الزهور»، «فندق السّعادة»، «فندق زهرة الصٌّباح»، «فندق صباح الخير»؛ ثمّ قطعة متواضعة جداً: «فندق المدينة». كانت له شرفة طويلة على الشّارِع، وراقت لي فكرة الجلوس هناك في الأماسي لمراقبة طوفان المرور وهو يتراكض في الأسفل.

لم تكن الدّرجات التي صعدتها من الانحدار والكثرة كدرجات «فندق ملكة سبأ». وتساءلت لماذا لم تكن لتلك الفنادق ردهات في الطابق الأرضيّ، ولكنّني أدركت أَنّها لا تشغل إِلّا الطوابق العليا، لأنَّ ما تحتها تشغله الدَّكاكين. وعلى أيّ حال، لم أكن أدخل «فندق شهرزاد» بهوائه المبرّد، حيث تخيّلت حديقة تطل على النهر، وخدماً يتميّزون بالنّظافة، وفتيات جميلات يرتدين فساتين بلا أردان.

كانت هناك منضدة ينعس خلفها رجل في منتصف العمر. لم يكن حافياً فحسب، وإِنّما كان بملابسه الداخليّة أيضًا. وعندما تنحنحت هبّ واقفاً على قدميه. فقلت باختصار: «أريد غرفة بسرير واحد».

back to top