هل تستطيع أميركا العيش مع كوريا الشمالية النووية؟

نشر في 25-01-2019
آخر تحديث 25-01-2019 | 00:00
سيتطلب نزع سلاح بيونغ يانغ النووي بالقوة على الأرجح التضحية بأرواح آلاف الأميركيين والكوريين، وإليك مقياساً بسيطاً: كلّفت الحرب الكورية، وهي حرب تقليدية هدفت إلى الحفاظ على استقلال كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة حياة نحو 37 ألف جندي، وتعرض عدد أكبر من الجنود لإصابات، فما بالك بجرب نووية؟!
هل تستطيع الولايات المتحدة العيش مع دولة كورية شمالية ذرية؟ أو هل بإمكان إدارة رئاسية الإقرار بذلك علانية؟ نعم تستطيع، وكلا لا يمكنها. سيتطلب نزع سلاح بيونغ يانغ بالقوة على الأرجح التضحية بأرواح آلاف الأميركيين والكوريين، وإليك مقياساً بسيطاً: كلّفت الحرب الكورية، وهي حرب تقليدية هدفت إلى الحفاظ على استقلال كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة حياة نحو 37 ألف جندي، وتعرض عدد أكبر من الجنود لإصابات، ويفوق هذا الرقم بخمسة أضعاف حصيلة وفيات الجيش الأميركي من جراء حروب العراق وأفغانستان مجتمعة منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، ولم نذكر بعد الأعداد التي لا تُحصى من القتلى الكوريين العسكريين والمدنيين الذين ذهبوا ضحية القتال وصولاً إلى حالة الجمود الراهنة على الحدود بين الكوريتين.

باختصار، لن تشكل حرب كورية جديدة مسألة عابرة، ويرتكز هذا التوقع بثبات على الأسس التقليدية لبناء الاستراتيجيات، بالإضافة إلى ذلك لا يبدو واضحاً أن الفوز بالسيطرة مهم جداً في شمال شرق آسيا، على سبيل المقارنة، لنعتبر القوة النووية الباكستانية عام 2004 مقياساً بسيطاً لطموحات كوريا الشمالية ورد الفعل الدولي. ولكن لماذا اخترنا 2004؟ في هذه السنة كانت قد مرت ستة أعوام على تطوير إسلام آباد قنبلة ذرية وعلى بدء إسلام آباد بتصنيع الأسلحة النووية بدأب، ويمكننا أن نعيد انطلاق مؤسسة بيونغ يانغ لتصنيع القنابل إلى شهر فبراير عام 2013 حين فجّر علماء الأسلحة الكوريون الشماليون «سلاحاً نووياً مصغّراً أخف»، حسبما ذكر تقرير «مبادرة التهديد النووي» العالي المصداقية.

تعزيز الردع الذري

لنفترض أن بيونغ يانغ نجحت في بناء قوة مشابهة من حيث العدد والقدرة لما امتلكته باكستان قبل ست سنوات، فهذا يعني أن الحصيلة الأخيرة لما طورته تقارب 75 سلاحاً نووياً تكتيكياً، فاضطرت واشنطن على مضض إلى تقبّل آنذاك القنبلة الباكستانية، ولكن هل يستحق اليوم نزع السلاح بالقوة الكلفة التي ستترتب على الأرجح على إرسال المتحدرين من فيالق فهرنباش إلى كوريا الشمالية؟ أشك في ذلك. لذلك سيتعلم الأميركيون العيش مع ما عليهم التعايش معه، وينبغي للولايات المتحدة في المقابل التفكير في سبل إلى إعادة تعزيز الردع الذري في وجه كوريا الشمالية، تماماً كما تعلّمت التكيّف مع كل دولة جديدة انضمت إلى النادي النووي بدءاً من الاتحاد السوفياتي ومَن تلاه.

لكن السياسة الخارجية معقدة، وتتطلب غالباً مقداراً من المراوغة، صحيح أن إدارة ترامب قد تُضطر إلى التكيف مع واقع مرير جديد، إلا أنها تعجز عن الإقرار بأن مؤسسة بيونغ يانغ لتصنيع القنابل ستستمر مخافة أن تقوّض سياسة أميركية صمدت طوال عقود. فقد اعتبرت الإدارات المتتالية «عملية نزع السلاح الشاملة، التي يمكن التثبت منها، والتي لا عودة عنها» هدفاً أساسياً من أهداف سياسة الولايات المتحدة تجاه شبه الجزيرة الكورية، وأعاد الرؤساء وقادة جيشهم التأكيد مراراً التزامهم بنزع السلاح علانية وبوضوح.

تُعتبر العودة عن الالتزامات العلنية التي يؤيدها كلا الحزبين مهمة شبه مستحيلة، إذ يخبرنا خبراء التفاوض أمثال الرحال توماس شيلينغ الغني عن التعريف أن أي قائد يلتزم علانية بسياسة أو استراتيجية ما ويكرر التزامه هذا مراراً بلغة واضحة راسخة يُلزم نفسه بالوفاء بهذا الالتزام، أما إذا أخفق فسيبدو ضعيفاً ومتقلباً في نظر قاعدته الشعبية، ولا أحد يرغب في أن يبدو عاجزاً وغير كفء.

القبول بالتسويات

يُعتبر «تكتيك الالتزام» هذا قوياً جداً، حتى إن شيلينغ حض رجال الدولة على استخدامه لردع خصومهم أو الضغط عليهم. يتعمد مَن يتقن حقاً عقد الصفقات تقييد حريته على القبول بالتسويات، فعندما تطلق تهديداً رادعاً أو مرغِماً علانية، تُلزم نفسك بتنفيذه، وإذا قمت بذلك بشكل مقنع فإن خصمك يعد هذا التهديد تهديداً يُنفَّذ تلقائياً: يعي أن التهديد سيدخل في الحال حيز التنفيذ إذا عصاك، وهكذا يلقي تكتكيك الالتزام العبء بالكامل على كاهل خصمك. لكنك لا تستطيع التفوه بتفاهات كي لا تقوض سمعتك كشخص صارم بشكل كامل على الأرجح. إذاً، التزم الرؤساء الأميركيون بالسعي وراء عملية نزع أسلحة شاملة، يمكن التثبت منها، ولا عودة عنها في شمال شرق آسيا.

علاوة على ذلك، سيؤدي التخلي عن نموذج نزع الأسلحة إلى تقويض مبادئ منع انتشار الأسلحة النووية المحفورة في النظام الدولي منذ ستينيات القرن الماضي والمصونة في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، فبموجب المادة السادسة من هذه المعاهدة، يتعهد موقعوها بـ»خوض مفاوضات، بحسن نية، بشأن تدابير فاعلة ترتبط بوقف سباقات التسلح النووي باكراً ونزع الأسلحة النووية وبشأن معاهدة تتناول نزع الأسلحة العام والكامل تحت مراقبة دولية صارمة وفاعلة». لا تُعتبر هذه المعاهدة ملزمة فحسب للدول المتسلحة نووياً غير الرسمية، مثل كوريا الشمالية، بل أيضاً للقوى النووية المعترف بها مثل الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وتفرض عليها جميعها العمل لبلوغ مرحلة «الصفر الشامل»، إذا استخدمنا المصطلح الرائج الأخير لنزع السلاح الكامل.

الإصرار على نزع السلاح

دلا تطرح المادة السادسة نموذجاً مهماً فحسب، بل تشكّل أيضاً العرف السائد في الولايات المتحدة، فقد حدد الدستور الأميركي أن الاتفاقيات الدولية تمر بعملية مشاورات، وموافقة، وتصديق في البيت الأبيض والكونغرس تماماً على غرار القوانين الأميركية. قد يكون ممكناً إرجاء تطبيق قانون، إلا أن من غير الحكمة أن يندد به الرئيس علانية. لذلك، ستواصل واشنطن في الغالب إصرارها على نزع السلاح الكامل في شبه الجزيرة الكورية، غير أنها ستمتنع عن استخدام القوة لبلوغ تلك النهاية السعيدة. سيبقى النموذج قائماً، إلا أن البشر قلما ينجحون في تطبيق الأفكار النموذجية ويكتفون بالاقتراب منها عموماً.

إذاً، هذا هو جوابي القاتم نوعاً ما عن السؤال المطروح: ستتخلى واشنطن على الأرجح عن العمل العسكري للقضاء على أسلحة بيونغ يانغ الكارثية، متوصلةً في الوقت عينه إلى طريقة لردع كوريا الشمالية والالتزام بخطها الدبلوماسي. ومَن يدري؟ إذا استيقظ كيم يونغ أون كل صباح وقرر عدم السير إلى الحرب واختار بدلاً من ذلك ضبط النفس أياما كثيرة على التوالي، فقد نشهد تطورات إيجابية في عالم نزع الأسلحة. نأمل ذلك.

جيمس هولمز- ناشيونال إنترست

لن تشكل حرب كورية جديدة مسألة عابرة ويرتكز هذا التوقع بثبات على الأسس التقليدية لبناء الاستراتيجيات

إذا قرر كيم يونغ أون عدم السير إلى الحرب واختار ضبط النفس فقد نشهد تطورات إيجابية في عالم نزع الأسلحة
back to top