فريدا كاهلو في مرآة رسائلها

نشر في 14-01-2019
آخر تحديث 14-01-2019 | 00:02
No Image Caption




تكتسبُ الرسائلُ المتبادلة بين مشاهير الأدب والفن أهمية باعتبارها وثيقةً تكشفُ جوانب مُعتمةَ في حياتٍهم، إضافة إلى القيمة الأدبية لتلك المُراسلات بين الأصدقاء أو المحبين وما يفصحُ عنه هؤلاءُ من أفكار وآراء إلى جانب البوح بهمومهم من دون المواربة والتبهرج الكلامي.

تبدوُ هذه التدوينات أكثر عفوية ومعبرة عن الحالات الوجدانية، والمشاعر العميقة. لذلك يفاجأ قارئ رسائلَ كافكا إلى فيليس بأنَّ غرابة تركيبة صاحبِ «المُحاكمة» تفوق سريالية شخصياته الروائية. دعك من رائد الأدب الكابوسي، فإنَّ الفيلسوف الألماني مارتن هاديغر يتحولُ إلى عاشق لا يسعهُ الشوقُ عندما يخاطبُ طالبته حنة آرندت ، ولذلك يجب مراجعة أدب الرسائلِ وعدم الاكتفاء بمتابعةِ نتاجات الكُتاب وأعمال الفنانين لأنَّ ما تحملهُ الرسالةُ من الخصوصية يُعينكَ على معرفة رؤية كاتبها، وخطوط حياته المُتشابكة.

ومن المعلوم أنَّ الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو كانت شخصيةً مُغامرةً ولم تمنعها المعاناة وأزماتها الصحية والعاطفية من الخوض في غمار الحياة، وإقامة شبكة واسعة من علاقات الصداقة. ولكن بعدما تدهورت صحتها الجسدية وتضاعفُت آلامها نتيجة حادث اصطدام الحافلة التي تقلها برفقة صديقها أليكس (أليخاندرو غوميز أرياس) إلى كويكان، تُصبحُ معزولةً عن الأوساط الجامعية والثقافية ولا تستطيعُ أن تنظرَ إلى العالم وجهاً لوجه وترغم على مشاهدته وهي مُسْتَلقية. إذ قيدتِ الأجهزة والمشدات فريدا كاهلو في مساحةٍ محدودة جداً، انصرفتْ ابنة البيت الأزرق إلى الفن وكتابة الرسائل للتأقلم مع مصيرها.

نجحتْ فريدا كاهلو في التواصل مع الأصدقاء ومراسلتهم، وبذلك خففت وطأة العزلةِ التي كانت تعيشها في المستشفى وكويكان. تناشدُ في الرسائل التي كتبتها إلى صديقها أليكس ونشرت ضمن كتاب بعنوان «رسائل فريدا كالو» صدر أخيراً من دار «نينوى»، بأنَّ لا يتوقفَ عن مُراسلتها. ونستشفُ مما سطرته بأنَّها تُعلي من قيمة الصداقة وتعتبرها ركناً أساسياً في الحياة، ولولا تلك القيمة الإنسانية الرفيعة لخلت أيامنا من المذاق. فبرأي كاهلو وفقاً لما جاء في رسالتها إلى ألكيس، أنَّ الأصدقاء يجبُ أن يحبوا بعضهم بعضاً حباً جماً. وتسترسلُ واصفةً هذا الكلام بفرضيتها للحياة.

وفي رسالة أخرى تعبرُ عن حزنها لألكيس عندما عرفت بأنَّ الأخير مريضُ. وتقولُ له إن الأولويات من الأولى حتى الرابعة هي أن يتماثل للشفاء، وتشكوُ من أجواء المُستشفى الكئيبة متسائلةً «أهذا السريرُ هو المكان الذي ينبغي أن أكون فيه بعد أن كنتُ جوابةَ الآفاق أطوف الشوارع والطُرق طوال حياتي؟». يصلُ سأم فريدا إلى حدٍ تريدُ الموتَ: «لا أحتملُ الألم أكثر من ذلك»، وتخبرُ أليكس بأن انعدام السلوى يزيدُ من عذاباتها. إلى جانب ذلك تعبرُ عن سخطها على الأطباء الذين أشرفوا على علاجها. ولا تنسى في السياق ذاته أن تسألَ أليكس عن المدن التي يسافر إليها باريس، وبرلين، ونابولي، وما تعلمه، مستفسرة عما يعرض في دور السينما.

أكثرُ من ذلك، تشيرُ فريدا كاهلو في بعض الرسائل التي خطتها قبل حادثة الحافلة إلى قراءاتها الأدبية والدينية والعلمية. وتختمُ الفنانة، التي وصفها أندريه بريتون بقنبلة ملفوفة بعباراتٍ فائضة بالشوق والحب، رسائلها وتوقعها باسم حبيبتك مرة أو أختك أو صديقتك مرة أخرى. كذلك تكتبُ في إحدى الرسائل الدموع توقِّع نيابة عني. هذا ما يؤكدُ شدة حزن فريدا نتيجة بقائها بين أربعة جدران، فضلاً عن سوء الوضع المالي للأُسرة.

قهر المسافة

لا يقتصرُ هذا المُؤَلفُ على ما كتبتهُ فريدا كاهلو لغوميز أرياس، بل يضمُ مراسلاتها إلى من تعرفت إليهم خلال رحلتها إلى أميركا بصحبة زوجها دييغو ريفيرا، إذ أرادت قهر المسافات التي تفصلها عن الآخرين وبثت كثيراً من الأحزان المضة لأصدقائها المُقربين.

وعندما أقامت في أميركا راسلت والدها «غيليرمو»، مُبلغةً إياه بتحسن حالتها الصحية وأبدت ثقتها بطبيبها المُعالج إلويسر كما تطالبه بضرورة ضبط نفسه والابتعاد عن الغضب، وإخبارها بكل جديده. وتراسلُ صاحبةُ أشهر بورتريهات أيضاً صديقة الطفولة إيزابيل كامبوس، والظاهر مما تحمله رسالتها إلى الأخيرة أنَّ كالو سعيدة بإقامتها في الحي الصيني غير أنها تعلنُ صراحةً عدم إعجابها بمواطني الولايات المُتحدة لذا ظلَّ أصدقاؤها محدودين في هذا البلد.

ولا تفوت فريدا كاهلو الإشارة إلى تنظيمِ باكورة معارضها في نيويورك. وعقبَ عودتها إلى المكسيك تبدأ بمراسلة طبيبها ليو إلويسر، فالأخير أدى دوراً كبيراً في المصالحة بين دييغو وفريدا. لذلك يهمُ الأخيرة التواصلُ معه معبرةً عن شكرها لصنيعه الجميل وتعهده بها إلى أن تعافت. وتخبره في رسالة أخرى عن أحوالها الصحية، مستشيرة رأيه حول احتمال إنجابها الطفل وتأثير ذلك في وضعها الصحي. وما تذكرهُ كاهلو يوحي بأنها واثقة جداً من إلويسر لدرجة تضعهُ في صورة الظروف التي تمرُ بها وتحدد إيقاع حياتها المليئة بالتحديات. ولا تخلو الرسائلُ مما يبينُ أزمة الفنانة العاطفية مع دييغو ريفيرا. أمرُ تراهُ بوضوح في رسالتها إلى كل من إيلا وبيرترام وولف، مؤكدةً بأنَّه لا أحد يعرفُ حجمَ معاناتها مثل الاثنين، وتلمحُ إلى علاقة دييغو بأختها كريستنيا، وتعتقدُ بأنَّ ذلك الموضوع أعقد من أن يوصف بحماقة عاطفية، لافتةً إلى أن بعد مرور ست سنواتٍ أدركت عدم جدوى تضحياتها والتحامل على النفس من أجل ريفيرا. فبرأي الأخير أنَّ الوفاء فضيلة برجوازية وُجدت لاستغلال الشعب وجني منافع اقتصادية. ولكن رغم ذلك التوتر بين الزوجين، ما أن يُصاب دييغو بالالتهاب وتتدهور صحته حتى تراسلُ فريدا صديقها كارلوس تشافيز مُطالبة نصيحته حول ما يجبُ أن تقوم به لمُساعدة دييغو ريفيرا.

لا يُفارق شبحُ الملل حياة فريدا، وما تمررهُ في رسائلها يؤكدُ ذلك الإحساس. تفضي لصديقتها إيلا وولف تبرمها من رتابة أيامها قائلةً: «فإنَّ حياتي مثل قصيدة الشاعر لوبيث بيلاردي التي جاء فيها «ظلي كما أنت وفية لمرآتك اليومية».

عطفاً على كل ما سلف، فإنَّ فريدا كاهلو لم تتجاهل صوت قلبها. أخبرت في رسالتها إلى إيلا وولف بحبها للرسام الإسباني جوزيب بارتولي، مشددةً على ضرورة كتمان هذا السر. جزءُ آخر من الرسائل يوضحُ معاناة فريدا المادية إذ تلحُ على إيمي لو باكار القيام بتسويق لوحتها «الولادة» لدى محبي التحف الفنية. كذلك تكتب إلى الرئيس المكسيكي مستهجنةً الاستخفاف بأعمال شريك حياتها. وفضلاً عن الرسائل يتضمنُ الكتاب مداخلة الفنانة المكسيكية حول لوحتها «موسى» وشذرات من نصها الشعري.

ما تتوصل إليه من متابعة هذه المحتويات أن فريدا كاهلو لم تكنْ فنانة تشكيلية فحسب، بل أديبة متمكنة وامرأة مثقفة.

back to top