«البريكست»... أزمة سياسية عصية على الحل

نشر في 22-12-2018
آخر تحديث 22-12-2018 | 00:00
إحدى المسيرات المؤيدة للبريكست
إحدى المسيرات المؤيدة للبريكست
أكد دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للمقترعين أن بلادهم تمثل «حالة خاصة»، ولكن في العامين الأخيرين ظهرت أشياء مختلفة، فلأول مرة في التاريخ الحديث تبين أن بريطانيا دولة صغيرة رغم بدايتها القرن العشرين على شكل إمبراطورية، إذ تخلت عن كل مستعمراتها على وجه التقريب في النصف الثاني من ذلك القرن، ونتيجة لذلك فقدت الكثير من قوتها الاقتصادية والعسكرية.
وصلنا أخيراً الى جرف «البريكست» الذي يمثل أزمة سياسية ودبلوماسية في آن معاً، وأود أن أعترف أنني سئمت تماماً هذه العملية وأظن أنني لست الوحيد الذي يتملكه هذا الشعور، ويمكن لسوق النفط العالمي التقدم نحو عجز بصورة أسرع من المتوقع بسبب الاتفاق الذي توصلت اليه منظمة أوبك مع روسيا حول خفض الانتاج، وقرار كندا تقليص انتاج نفطها، بحسب تقرير صدر عن وكالة الطاقة الدولية أخيراً. وقد أبقت الوكالة التي تتخذ من باريس مقراً لها توقعاتها للطلب العالمي على النفط في سنة 2019 عند 1.4 مليون برميل في اليوم من دون تغيير عن تنبؤاتها في الشهر الماضي، وقالت إنها تتوقع نمواً بـ 1.3 مليون برميل يومياً في هذه السنة.

وقد تقوض الشكوك حول الاقتصاد العالمي الناجمة عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين استهلاك النفط في العام المقبل نتيجة ارتفاع وتيرة نمو الامداد. وقالت وكالة الطاقة الدولية «: يظل تصورنا لنمو الطلب عند 1.4 مليون برميل في اليوم على الرغم من هبوط أسعار النفط بشكل كبير منذ بلوغها الذروة في مطلع شهر أكتوبر الماضي، وسوف يعوض البعض من الدعم الذي قدمته الأسعار المتدنية النمو العالمي في الاقتصاد وخاصة في البعض من الدول الناشئة». وكانت منظمة أوبك وافقت مع روسيا وسلطنة عمان ودول منتجة اخرى على خفض انتاج النفط بـ 1.2 مليون برميل في اليوم اعتباراً من يناير المقبل بغية احتواء الزيادة في الوقود غير المستخدم في المخزون. كما أن القرار الذي اتخذته حكومة اقليم ألبرتا في كندا بشأن ارغام منتجي الخام على تقليص الامداد سوف يفضي الى أكبر خفض في انتاج النفط في العام المقبل، بحسب وكالة الطاقة الدولية. وسوف ينخفض انتاج اقليم ألبرتا ورمال الزيت بحوالي 325 ألف برميل في اليوم اعتباراً من شهر يناير المقبل بغية خفض المخزون الكبير الذي تجمع نتيجة قيود واختناقات سعة خطوط الأنابيب.

وهذه نصيحة الى الأطراف خارج بروكسل ولندن: تخلصوا من أي أوهام تقول بأن هذه الدراما تتعلق ببروتوكولات تجارية وحقوق الاقامة أو وضع الحدود الايرلندية، والتداعيات التي تشهدها المملكة المتحدة ليست حقاً حول خروجها الوشيك من الاتحاد الأوروبي أو حول محاولات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التشبث بالسلطة.

والبريكست هو قصة قوة استعمارية سابقة تعيش أزمة منتصف العمر، وقد ترك بقية العالم للاستماع الى جلسات علاج بريطانيا وهي تخرج من الاتحاد الأوروبي: متى سوف يكفون عن الحديث ويتقدمون نحو حل؟

وقد تمثل وعد البريكست عندما تم اقراره بأغلبية طفيفة في استفتاء شعبي في شهر يونيو من عام 2016 بأنه سوف يعيد أمجاد بريطانيا وإبعادها عن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وأنه سوف يمثل طريقة لعدم النظر الى بريطانيا على أنها مجرد واحدة من 28 دولة في ذلك الاتحاد.

حالة خاصة

وأكد دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للمقترعين أن بلادهم تمثل «حالة خاصة» ولكن في العامين الأخيرين ظهرت أشياء مختلفة، فلأول مرة في التاريخ الحديث تبين أن بريطانيا دولة صغيرة رغم بدايتها القرن العشرين على شكل امبراطورية ولكنها تخلت عن كل مستعمراتها على وجه التقريب في النصف الثاني من ذلك القرن، ونتيجة لذلك فقدت الكثير من قوتها الاقتصادية والعسكرية.

ولكن ذلك لم يؤثر على بريطانيا الى حد كبير نظراً لأنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وهي قوة نووية وتتمتع بعلاقات وثيقة مع حليفتها الولايات المتحدة، واضافة الى ذلك كانت المملكة المتحدة تحظى بقوة اقتصادية وسياسية ناشئة تتمثل في الاتحاد الأوروبي.

وتمكنت المملكة المتحدة أخيراً من اعتراض فرنسا وانضمت الى الاتحاد في سنة 1973 قبل سبع سنوات من انزال علمها عن آخر مستعمرة إفريقية وأكثر من عقد من الزمن على توصلها الى اتفاقية مع الصين للتنازل عن هونغ كونغ.

وكان تاريخ بريطانيا الاستعماري و45 سنة من العضوية في الاتحاد الأوروبي – حيث كانت تتمتع بصوت مهيمن – السبب الذي دفعها لمحاولة العمل بطريقة دبلوماسية على شكل القوة التي وصلت اليها الآن. ولكن المملكة المتحدة ببساطة وقد اعتادت على اصدار الأوامر في القضايا المتوسطة الحجم والأهمية لا يبدو أنها تعرف كيفية التعامل بطريقة الأخذ والعطاء اللازمة من أجل التفاوض مع شريك أكبر.

الدور التاريخي البريطاني

وربما كان هذا التاريخ البريطاني وراء عدم تكيف الكثير من سكان المملكة المتحدة مع ظروف الاتحاد الأوروبي كما أن الطبقات السياسية والصحافية فيها ليست معتادة على النظر الى آراء الآخرين.

وليس في وسعي القول أنني فوجئت بذلك، ومن أكثر من منظور – كصحافي الآن وكمستشار سابق لحكومة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكعضو دائم في رابطة الكومنولث – فقد انخرطت في تعقيدات البريكست وهوية بريطانيا سنوات طويلة.

وبينما لدى الكثير من البريطانيين عاطفة قوية ازاء الاتحاد الأوروبي فإنهم نادراً ما يفهمونه بشكل جيد، وأنا أشعر مثل معلم في دار حضانة في كل مرة أتحدث فيها معهم حول هذا الأمر.

ومن الطبيعي توجيه اللوم الى وسائل الاعلام غير المسؤولة في المملكة المتحدة ( بما في ذلك رجل الصحافة الأكثر شهرة في البلاد المؤيد للبريكست بوريس جونسون ) بسبب سوء الفهم هذا نحو الاتحاد الأوروبي طوال عقود من الزمن.

ولكن ماذا عن الملايين من الأشخاص الذين اسستهلكوا تلك الروايات ورجال السياسة الذين لم يتكبدوا عناء تصحيحها؟ نحن نوجه اللوم الى المواطنين اليونانيين بسبب تدميرهم لاقتصادهم ونحمل الإنفاق الحكومي الواسع مسؤولية ربط أجيال المستقبل بديون زائدة، ولا يستحق المواطن البريطاني الاعفاء من المسؤولية: وقد حان الوقت كي يحاسب على ما زرعه طوال 45 سنة من الجدال الأجوف حول الاتحاد الأوروبي.

ويرجع كون بريطانيا مملة على هذا النحو الى جهلها الفريد، وهو ما جعلها تجهل حدود نفوذها ووضع الاتحاد الأوروبي أيضاً.

ولا شيء يروي القصة بشكل أفضل من دبلوماسية تيريزا ماي التي تتحمل مسؤولية انكماش بريطانيا وذلك بسبب عدم تمتعها برؤية واضحة أو متناسقة والتي تبدو جهودها في تمرير البريكست واستمرارها في السلطة مدفوعة بارتجال بغيض.

كما أن اندفاعها الجنوني في أوروبا يبرز كيف فقدت المملكة المتحدة المفاوضات حتى قبل أن تبدأ. وكانت رحلاتها مدفوعة دائماً بضغوط داخلية وليس الرغبة في التوصل الى أرضية مشتركة مع المفاوض الآخر.

وفي غضون ذلك، قامت الوفود المفاوضة من الاتحاد الأوروبي بهدوء ومن دون ضجة بزيارة كل عاصمة وحشدت جبهة متحدة قبل أن تبدأ المفاوضات.

وتمثل التقلبات السياسية البريطانية الافتقار الى الفهم، ولا تعرف المملكة المتحدة ما الذي تريده من الاتحاد الأوروبي كما أنها لا تعرف أيضاً ما الذي تريده من الخروج من ذلك الاتحاد.

وقد ضمنت لندن – كواحدة من أكبر أعضاء الاتحاد وأكثرهم اثارة للمتاعب – طوال عقود من الزمن اتفاقاتها ضمن الاتحاد الأوروبي، وحصلت على خصومات في مساهماتها في ميزانيته اضافة الى المكاسب المتعلقة بالخروج من اليورو وقوانين الشنغن التي تحكم نقاط تفتيش الحدود.

وتريد بريطانيا الآن ما كانت تتمتع به (عدم الاحتكاك التجاري مع الاتحاد الأوروبي) من دون الاستمرار في دفع الثمن الذي تدفعه الدول الاخرى الأعضاء من أجل الحصول عليه والذي يتمثل في قيود قانونية واقتصادية وسياسية تنطوي عليها عضوية الاتحاد الأوروبي.

مطالب غير واقعية

وببساطة فإن مطالب لندن ليست واقعية وتوازن المصالح المتضاربة على قدر من الصعوبة بالنسبة الى الدول الأفراد، ولننظر الى الكونغرس الأميركي والنظام الفدرالي الألماني وحتى الرئاسة الفرنسية القوية التي تحاول مواجهة احتجاجات السترات الصفراء، ثم إن عمل الشيء نفسه في 27 دولة يعتبر أكثر صعوبة، كما أن المفاوضات تحتاج الى وقت وأي تغير حاد مفاجئ في السياسة ينطوي على مخاطر احداث اضطراب في توازن الاتحاد الأوروبي.

المملكة المتحدة لا تعرف ما الذي تريده من الاتحاد الأوروبي كما أنها لا تعرف ما الذي تريده من الخروج من ذلك الاتحاد
back to top