المُفكّر المَغربي سعيد ناشيد: عندما يرقد العقل تستيقظ الغرائز البدائية وتضمر طاقة الإنسان

نشر في 27-11-2018
آخر تحديث 27-11-2018 | 00:03
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
ارتبط تطور الحضارة والخروج من القصور العقلي بالحراك الفلسفي الذي يحثُ على إعمال العقل وطرح الأسئلة بشأن ما يهمُ الإنسانُ ومصيره.
حول رهانات الفلسفة في ظل تحديات العصر وتأثير ضمور التيار العقلاني في انحطاط المشروع الحضاري، كان لنا حوار مع الباحث والمُفكر المَغربي سعيد ناشيد.
عندما يدور الحديث حول نكوص المشروع الحضاري بنسخته العربية والإسلامية يُعزى السبب الأساسي إلى ضمور التيار الفلسفي واستئثار تيارات أخرى بالحضور. هل يُمكنُ تفسير أزماتنا فقط بهزيمة الفلسفة مُمَثلة بابن رشد؟

بلا شك، فإن غروب الفلسفة في عالمنا انطلق من المغرب الأقصى في القرن الثاني عشر الميلادي، وفيه تزامنت سيرورة الهجوم الكاسح على الفلسفة، مع سيرورة سقوط الأندلس، وبداية الانغلاق اللاهوتي الذي دخل إليه العالم الإسلامي منذ وفاة ابن رشد، ولم يخرج منه لغاية اليوم.

ظاهرة تكفير الفلسفة التي انتشرت لأسباب شعبوية وأخرى تسلطية، معناها تكفير التفكير، وتعطيل النظر العقلي، وانتفاء الجرأة على طرح السؤال والمساءلة، وممارسة الشك والإبداع، فضلاً عن دخول العقل في سبات طويل الأمد. وبالتأكيد عندما يرقد العقل تستيقظ الغرائز البدائية، والانفعالات السلبية، فتضمر الطاقة الحيوية في الإنسان، وتشرع الحضارة في الانحطاط.

بادر جمع من الكُتاب الغربيين إلى تناول الأسئلة الوجودية والمشكلات الحياتية على ضوء مفاهيم فلسفية إلى جانب استعادة تجارب الفلاسفة وتقديمها في صياغات غير مُعقدة، كما حاولتَ أن تقوم بذلك أيضاً في «التداوي بالفلسفة». كيفَ يمكن فهم هذه العودة إلى الفلسفة؟

يناط بالفلسفة أن تمارس دورها في المقاومة، وتستعيد وظائفها الأكثر أصالة لنأخذ مثلاً مفهوم الأتراكسيا، والذي يعني باليونانية السكينة الروحية، أو طمأنينة النفس، أو أحب أن أترجمها ببساطة هكذا، الطمأنينة. يتعلق الأمر بإحدى الوظائف الأساسية للفلسفة وفق التقاليد الأبيقورية والرواقية. عموماً، ليست الفلسفة رحلة بحث عن الحقيقة وفق التصور الشائع لدى عموم الناس، وإنما دورها بالأساس تحسين قدرتنا على الحياة حيثما نحن، في مختلف الظروف، وحتى في أسوأ الظروف.

في كتابك «التداوي بالفلسفة» تشيرُ إلى الفلاسفة الذين اقتنعوا بأقدارهم واختاروا الاستسلام لما يُفرض عليهم أمثال «إبكتيتوس». كيفَ يمكنُ التوفيق بين فهمنا للفلسفة بوصفها ممارسة نقدية تأملية تضطلعُ إلى تغير الواقع والاقتناع بما هو قائمُ؟

خلاصة تاريخ الفلسفة برمته، منذ الأبيقورية والرواقية مروراً بمونتين وسبينوزا ونيتشه وبرغسون، وغيرهم، أن الإنسان يمتلك إرادة للنمو، وعليه أن يحقق نموه الخاص. بل بوسعنا القول إن النمو لهو الحاجة الروحية الأكثر جذرية بالنسبة إلى الإنسان. لأجل ذلك على الإنسان ألا يستنزف طاقته الحيوية في الانفعالات السلبية، من قبيل الحزن، والخوف، والأسى، والندم، والذنب، والضغينة، وغير ذلك. وكي لا يستنزف طاقته الحيوية التي يحتاج إليها للنمو عليه أن يكون قادراً أيضاً على مسايرة ضربات القدر.

كم هي بليغة تلك الصورة التي يذكرها كثير من الرواقيين حول الكلب المربوط بحبل إلى عربة بحيث لا يستطيع الانفكاك، فإن هو عاند اتجاه سير العربة فلا محالة سيستنزف طاقته قبل أن يجد نفسه مجروراً بذل وهوان، ويبقى الخيار الحكيم أمامه أن يساير اتجاه العربة كي يحافظ على طاقته الحيوية التي يحتاج إليها، كي يحافظ على نموه الخاص في كل الظروف. أما إن كانت العربة ستجره إلى الموت المحقق فإن مسايرة الاتجاه ستضمن له التقليص من دائرة الألم والشقاء حتى ولو في الثواني الأخيرة. ثوان قليلة من الحياة تسمى الحياة.

الشك والعِلم

يضمُ «التداوي بالفلسفة» مُقتبساتِ مما قاله الفلاسفة والشعراء، ألا تعتقدُ بأنَّ ثمة تناقضاً بين غاية هذه الآراء والأفكار، على سبيل المثال تتوقف عند رأي المعري وديكارت حول فضيلة الشك واللايقين من جانب وما تذكره

من جانب آخر بأنَّ أولوية الفلسفة هي التخلص من التوتر؟ هل تتسنى لنا ممارسة حياة بسيطة بعيدة عن التوتر من دون التخلي عن شكوكنا؟

ليس الشك نقيض الطمأنينة. بل من وجهة نظر فلسفية أصيلة وأصلية، الشك هو المدخل الضروري إلى الطمأنينة. الإيمان بالثوابت المطلقة، أو التمسك بها، أو البحث عنها، هو أساس الشعور بالتوتر والاضطراب، ما دام أن الثوابت سرعان ما تتحول إلى معوق إزاء النمو الطبيعي والحر للذات. لذلك نجد أن مصطلح الأتاراكسيا (الطمأنينة) لم يستعمله فقط الأبيقوريون والرواقيون، وإنما استعمله أيضاً التيار الفلسفي اليوناني الذي كان يحمل اسم الشكاكين. كان الشكاكون يعتقدون بأن أساس الطمأنينة هو إزالة أحكام القيمة حول الأشياء. ليس المرض هو ما يجعلنا متوترين ولكن حكمنا على المرض بأنه سيئ هو ما يدفعنا إلى التوتر. الأحكام كافة قابلة للتشكيك والتنسيب. وكذلك هي الحال في تجارب الطلاق والإعفاء والاستقالة والتقاعد والشيخوخة والموت، والتي لا تمنحنا الشعور بالشقاء إلا لأننا نحكم عليها بأنها أفعال سيئة.

فيما تؤكدُ نهاية الآيدولوجيات الخلاصية وضرورة عدم الرهان على ما يبشرُ به منظروها فأنتَ، كما يلاحظُ القارئ، تعولُ كثيراً على العلم ليحقَقَ ما نشده أصحاب الآيدولوجيات. ألا يعتبر ذلك نوعاً جديداً من اليوتوبيا؟

لا أعول على العلم لوحده، بل أعول على العلم والفن والشعر والموسيقى والفلسفة. أعول على الإنسان، على ما هو إنساني في الإنسان. أعول على النمو المتكامل للإنسان سواء في مستوى الذات الفردية، أو في مستوى النوع البشري. فعلاً، يفتح العلم إزاء البشرية آمالاً كبيرة يجب أن نسايرها بلا خوف ولا تردد، ولكنه على القدر نفسه يطرح مزيداً من التحديات إزاء مصائر النوع البشري، سواء في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، أو الهندسة الوراثية، أو تقنيات النانو، أو استيطان الفضاء، أو نحو ذلك من تحديات علمية يطرحها القرن الواحد والعشرون. لكني أعتقد أن أكبر تحدٍ يتعلق بالسؤال التالي: كيف نجعل العلم في خدمة نمو الإنسان في كل أبعاده الجسدية والعقلية والروحية؟ يجب على الفلسفة أن تطرح هذا السؤال حتى لا نجد أنفسنا في وضع يتقدم فيه العلم ويتخلف الإنسان.

الفلسفة عزاء الإنسان المعاصر

حول علاقة الفلسفة بالدين يقول سعيد ناشيد: في الأحوال كافة يبقى الخروج من الدين سيرورة طويلة الأمد، قد لا تكتمل بالضرورة.

تصدق على العلمانية العبارة التي قالها هابرماس عن الحداثة، «الحداثة مشروع لا يكتمل». على المنوال نفسه يمكننا أن نقول، العلمانية مشروع لا يكتمل. ذلك أن ما يسمى بالدين ليس سوى القشرة الخارجية لما يمكننا أن نصطلح عليه باسم الظاهرة الدينية، والتي تضرب بجذورها في أعماق اللاوعي الجمعي، وهو ما يفسر كيف أن العلمانية تصبح في بعض التجارب مجرد علمنة لبعض المظاهر الدينية، على منوال «عبادة الزعيم»، و«الولاء الحزبي»، وغير ذلك».

يتابع: «لكن ثمة تحد من نوع آخر، في العالم القديم كان مركز الثقل هو الآخرة، أي عالم ما بعد الموت. كان معنى الحياة مرتبطاً بعالم ما بعد الموت. المعطى الذي كان يمنح للحياة معنى هو اعتبارها مجرد قنطرة للعبور إلى عالم الخلود. إذا كنت أعتبر الإصلاح الديني مهمة الفلسفة فلأن المهمة الأساسية للفلسفة هي إصلاح الخلل في حياتنا في كل أبعادها الثقافية. وهنا يكون للفلسفة ثلاثة محاور أساسية: أولا، إصلاح الجهاز المفاهيمي لكل الحقول المعرفية والاجتماعية، بما فيها الحقل الديني. ثانيا، إصلاح منظومة القيم المرجعية داخل كل المجالات والفضاءات بما فيها الدين. ثالثا، إصلاح الغرائز، بمعنى تغيير أهداف كل أنظمة الخطاب لأجل دعم ما يسميه نيتشه بغرائز السمو بدل غرائز الانحطاط، وما يسميه سبينوزا بالانفعالات المبهجة بدل الانفعالات الحزينة، وذلك لأجل إصلاح الكينونة، ومن ثم إصلاح الحضارة، والمساهمة في نمو النوع البشري، كي لا نبقى مجرد عالة عليه».

دور الفلسفة تحسين قدرتنا على الحياة حيثما نحن في مختلف الظروف

أعول على النمو المتكامل للإنسان سواء في مستوى الذات الفردية، أو في مستوى النوع البشري
back to top