الفن مرآة السياسة

نشر في 06-10-2018
آخر تحديث 06-10-2018 | 00:09
 د. محمد بن عصّام السبيعي في العالم العربي تتخذ علاقة الفن بالسياسة نموذجا يشغل جانب السياسة منه في المعتاد دور الفاعل، فيما يأتي الفن انفعالاً على ذلك. فأن يقود الفن رسالة أصيلة يجبر السياسة على الانفعال عليها، يبدو لي ذلك سابقاً لأوانه في هذه الناحية من العالم. فمثل تلك الجرأة للفن في تطويع السياسة لا تكون إلا في مجتمعات استكملت تشييد بنائها الديمقراطي واستقرار هياكلها الاقتصادية، وتجاوزت بذا مرحلة تلبية الاحتياجات الأساسية، اقتصادية كانت أو سياسية.

نعود إذن إلى الحال المعتاد لآصرة تجمع بين الفن والسياسة في العالم العربي. هنا لا يخرج انفعال الفن عن ضربين: الضرب الأول هو ذلك الفن الملتزم بالخط السياسي السائد. فهنا تتشكل منتجات الفن إما نتيجة إملاء من صانع القرار أو لاعتناق الفنان ذاته لقيم الصفوة الحاكمة، أو على الأقل لإفادته من قربه منها أو تزلفاً إليها. أو لعل ذلك لإيمان صادق بأن ظروفا دقيقة تتربص باستقرار المجتمع الذي تكفله الصفوة وإن لم يشاطر هذه قيمها. هنا يأتي الفن على اختلاف صوره ترجمة لمسار اختطته السياسة، ليتجلى ذلك في صور شتى، إما داعيا إليها أو مبرراً لها أو هما معا. ولا يندر أن يقدم الفن نقدا حميدا أو أفكارا تصحيحية من شأنها أن ترسخ الأيديولوجية السائدة.

الضرب الآخر هو الفن الناقد. هنا ينصرف الفن نحو تمرير رسائل، سواء إلى الصفوة أو إلى الجمهور، إلى الجمهور بقصد التوعية وفضح مسالك السلطة في الفساد وإهدار الحقوق، وكذلك إلى السلطة بقصد الكشف عن مستوى وعي الجمهور أو سوء منقلب سياسة تتبعها. الحق أنه لضيق صدر الأنظمة العربية بمثل هذا الضرب من الفن فإن الخبرة تدل على أن مثل هذا لم ير النور إلا خارج حدود تلك الأنظمة، ولذا كان ذا تأثير محدود. أو أنه قد حدث في إطار هيمنة السلطة المعنية لكن ذلك عند زوال جيل من تلك السلطة، ووراثته من جيل مغاير له في توجهاته، أو لعله جناح من ذات الصفوة لكنه لا يشاطر سلفه كل قيمه، فتجده يتوسل توجيه الفن نحو نقد النظام البائد بغية حصد تأييد لدى الجمهور. وفي كل هذا يأتي النقد لاحقاً زمنياً لموضوعه، معدوم القدرة على الإلهام والتغيير.

لكن السؤال الذي يثور هنا مؤداه: هل اكتفى الفن بتبوؤ دور الأداة الموجهة من قبل النظام السياسي أو أن هناك من خصال السياسة العربية ما انسحب على الفن، أي أن الفن قد تمثل شيئا من خصائص النظام العربي؟ الحق أنه بتأمل الإنتاج التلفزيوني في هذا البلد أو في بلدان عربية أخرى فإن مثل هذا من الجلاء بحيث لا ينكر، وسنقتصر هنا على إسقاطين.

الأول يأتي انعكاسا لطول حقب حكم الصفة العربية، حتى أن الزمن لا يضحي موضوعا يستلفت احساسا، بل يصبح نسيا. ولذا نجد أن كثيراً من الأعمال تتوزع على حلقات عديدة وتكشف عن إطالة غير مفهومة، وأغرب من ذلك أنها تلقى تجاوبا من قبل جمهور المشاهدين دون إعارة عامل الوقت أي أهمية. أجل غير مفهوم ومثير للغرابة إلا إذا كان الفن مسكوناً أيضا برغبة لا تنطفئ لوضع انتباه المشاهد قيد الأسر لأطول زمن ممكن.

الإسقاط الآخر يجسد تقمص فكرة الزعيم الأوحد كما في التاريخ الحديث للدولة العربية. هنا يرصد المراقب فيما يرصد مع تطور الإنتاج التلفزيوني تركز العمل الفني بكل عناصره من مشاهد وممثلين حول شخص، هو البطل بطبيعة الحال. إلا أن هذا البطل يتمتع بجلال من لا يخطئ ولا يهزم، يعلم ويعظ، يسخر ولا يسخر منه. على أن مبعث السخرية هنا أن فناني الكوميديا أو الساخرين قد تقمصوا هذا الإسقاط أكثر من غيرهم. فعوضا عن أن يجعل من ذاته موضوعا ساخرا ومن تصرفاته مظاهر فكاهة، يكيل الكوميدي عبارات الاستهزاء والسخرية بمن حوله دون دور لهؤلاء، تماما كما في السياسة، على فعل المثيل إلا نزرا. أجل يجلس الفكاهي أو المهرج في عمل فني هو لا غير محوره، مجلس حاكم إن لم يكن مستبدا، ليزاول عبر ذلك مشاهد أقرب إلى إذلال من حوله.

أجل يتمتع بجلال منقطع النظير إلا من السياسة، أكان ذلك في إطار العمل الفني أو في خارجه، أي في دوائر النقد. فرغم ما يسطره النقاد من إسفاف مزمن في مستوى الفن التلفزيوني وبمشاركة فنانين أمضوا أعمارهم في المضمار، أي لم يعودوا مستجدين، بل ينعتون بالنجوم في سماء الفن، إلا أن النقد يعرف له هنا حدودا. فحين يتطرق الأمر إلى تحديد المسؤولية وراء رداءة الفن ودور النجوم في ذلك، هنا ينقلب النقد تلمسا للأعذار وتذكيرا بمآثر هؤلاء ومشوارهم المديد في الفن، فيذهب النقد في أشد الأحوال مذهب العتب الوديع. أحوال لا تختلف عن مثيلاتها في عالم السياسة.

back to top