أعظم فتن الدنيا
الإنسان الجريء في طرحه، في كتاباته، في عرض آرائه، في فنه، هو خطر كبير على أي نظام حكومي يقوم في لبه على فكرة التحكم والضبط والتسيير القطيعي والذي يبنى على قواعد محددة تضمن استمرار القوى في أيادي القابضين عليها.

الرقابة في الواقع هي أسلوب عقوبة، وربما أسلوب إهانة، وضع هذا المتحرر الجريء في مكانه وتذكيره الدائم بقدرة صاحب السلطة عليه. في ذات الوقت هي أسلوب برمجة، فهي تصنع رقيباً من صانع المادة على نفسه، يراقب هو نفسه قبل أن يراقبه أحد، يراجع ما يكتب، ما يرسم، ما ينحت، ما يصنع، يدقق مفردات مادته، يحاول تخفيف وسائل تعبيره، يلتف على المعنى الحقيقي الذي يود إيصاله، أغطية وتلميحات وأقنعة كلها لتفادي المنع والعقوبة، حتى تتشوه دواخل الموهوبين، وتتغير عقليات المبدعين، ويتبرمج رقيب صارم داخل كل منا ليذكرنا بخسائرنا التي ستكون إذا ما خرجنا عن الصراط، ليتحول المجتمع بأكمله إلى كتلة بشرية من النفاق لصالح أوامر ونواهي أصحاب السلطة وحلفائها أياً كانوا، دينيين، سياسيين، أو تجاراً. هذه النتيجة هي انتصار سياسي بحت لا انتصار أخلاقي، فالحكومات الرقابية لا تأبه بدخولك جنة أو ناراً، لكنها تخشى صوتك ومقاومتك وتساؤلك، هي لا تود أن تخلق منك شخصاً ورعاً، لكنها تود تشكيلك شخصاً مطيعاً سهل الانقياد. تلتف ساعتها هذه الحكومة إلى أقرب حليف، عادة ديني حتى يسندها بالفتاوى ويعزز منعها بالأمر الإلهي، لتعزز قواها وسلطتها وتعيدك، إن خطر لك غير هذا، إلى صف القطيع. الرقابة هي أذكى خدعة سياسية تستخدمها الدولة الشمولية بحجة المحافظة على الأخلاق والعادات والتقاليد وحماية النشء، فواقعياً، الأخلاق آخر همها والنشء همّ على قلبها، ولو كان للأخلاق قيمة لما كانت أكبر مشاكل بلدنا الوساطة التي أدت إلى تزوير الشهادات والجنسيات (على حد شكوى الحكومة ذاتها) ولو كان للنشء قيمة لما كانت المناهج تعلمهم حرمة الديمقراطية، وأن فتنة النساء "من أعظم فتن الدنيا"، إنما القيمة اليوم للقوة والسلطة والمال، وكلها تتأتى وتكبر وتستمر بصمت الشعب وانقياده وطاعته. لن تحمي الرقابة الأخلاق في يوم، هي فقط تضعها في مكان معتم رطب مغلق، ولا شيء ينمو في هذا المكان سوى... العفن.