لطفيّة الدليمي في حوار افتراضي مع سحرة السرد

نشر في 16-09-2018
آخر تحديث 16-09-2018 | 00:10
No Image Caption
تفتحُ المادة الروائية مجالاً لافتراضات القُراء، وتوفر مساحة أوسع للتصوّر. بالطبع، يصلُ التفاعلُ بين النص الروائي والقارئ إلى أقصى درجاته عندما ينجحُ المؤلفُ في إعادة تشكيلِ ما استقاهُ من الواقع وفقاً لأنظمة سردية مُحكمة تتسعُ لرؤى فكرية عميقة متضمنة ما يتطلعُ إليه الإنسان من الارتياد نحو أفق أرحب. وعندما يُعبِّرُ النصُ الروائي عن القيم والمبادئ الشاملة يتنقلُ بين سياقات أخرى ويُتابَعُ من خلال وسائط مُتعددة. ومن المَعلومِ أنَّ الأعمال الإبداعية تدفعُ القُراءِ إلى الاهتمام بحياة أَصحابها وتفاصيل الظروف التي أنجزوا فيها مُؤلفاتِهمْ.

لذا فإنَّ مُتابعة الحوارات الصحافية مع هؤلاء المبدعين تُعينُ القارئ على فهم النص أكثر وإدراك دلالاته، فضلاً عن معرفته مُكابدات من نجحوا في شق طريقهم نحو المجد الأدبي. في هذا المجال، سدت الكاتبة والروائية العراقية لطفيّة الدليمي بترجماتها الحوارات المُختارة مع الروائيين والمؤلفات الإبداعية والفكرية والنقدية ثغرة كبيرة في المكتبة العربية. غير أنَّ ما قدمته في إصدارها الجديد «مملكة الروائيين العظام» (دار المدى 2018) ليس ترجمة للحوارات مع نخبة من الأُدباء العالميين كما فعلت في مُؤَلفها المعنون «أصوات الرواية» أو في «فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة»، بل أرادت اختبار أسلوب جديد لإيجاد التواصل بين القارئ ومملكة الروائيين على حد تعبيرها.

يضمُ كتابُ «مملكة الروائيين العظام» حوارات افتراضية بين صاحبة «من يرث الفردوس» لطفيّة الدليمي وثلاثة روائيين عالميين. وتأتي كل حلقة حوارية مُرفقة بِما يُشبه مُقَدِمة حول دور وموقع الشخصية المُختارة على المستويين الأدبي والإنساني.

أكثر من ذلك، فقد أوردت الدليمي في مدخل كتابها ما يُلقي الضوء على نظرة كل من نيكوس كازانتزاكي، وهيرمان هيسه، وغابريل غارسيا ماركيز إلى الحياة.

صاحب «زوربا»

تستهل لطفيّة الدليمي حواراتِها الافتراضية بِمُحاورة الكاتب الإغريقي نيكوس كازانتزاكيس مُسائلة إياه حول ما يقوله في كتابه «الحديقة الصخرية» عن اصطدام الكائن الإنساني بجدولين مُتضادين يرمزان إلى الفناء والحياة. ويأتي ردُّه مبدياً نظرته عن وجود صراع مُحتدم بين تيارين الأول هو شهوة الارتقاء نحو التكوين والتشكيل الروحي، أما الثاني فهو انحدار في هوة الماديات والتفكك.

ويُحددُ صاحبُ «زوربا» ثلاثة واجبات لا بدَّ للإنسان ألا يهملها إذا أراد عبور الهاوية مُتماسكاً وليس منهاراً. ويمكن هنا الإشارة إلى أن الواجب الأول هو ضرورة الاقتناع بأن كل ما حولنا هو صنيع أذهاننا، والواجب الثاني توحيد القلوب والإرادة كي نمنح معنى إنسانياً للصراع المتواصل. أما الواجبُ الثالث فهو التمسك بالأمل.

كذلك ينصحك كازانتزاكيس بضرورة خرق العادة دوماً. والأهمُ من ذلك ما يسردهُ هذا العاشق للحياة عن تجربته الذاتية ومعاناة جيله مع تداعيات الحرب العالمية الثانية على بلده اليونان، إذ تقاضى في غضون سنوات الحرب مقابل ترجمته ملحمة «الألياذة» صفيحتين من زيتون. وهو حين كان ينعزلُ في جزيرة «إيجين» لا ينقطعُ عن مراسلَة حبيبته «إيليني»، مؤكداً مواظبة العمل والنضال لتحرير اليونان.

وتنقل لطفيّة الدليمي عن الأبيقوري المعاصر إعجابه بلينين. فقائد ثورة أكتوبر كان يترجم في أوقات الاستراحة القواميس أو يتعلم اللغة الأجنبية. وتسألُ عن رأيه في السعادة، فيأتي جوابه بأنَّ السعادة هي أن تعيش أنواع التعاسة كافة. وهو أبان عن حسه الإنساني الرفيع عندما هنأ ألبير كامو بفوزه بجائزة نوبل عندما تقدمَ عليه بفارق صوت.

يُذكر أن كازانتزاكيس شغل منصب وزير الثقافة بعد الاستقلال، وواجهه بعض المثقفين بمواقف مناوئة. ويصفُ نفسه بالدرويش صانع العجائب. وهذا ما يَكشفُ عن جذوره الشرقية ولا ينكر انتسابه إلى ثقافة الشرق وإعجابه بفلسفة كونفوشيسية.

لعبة الاختفاء

ينفتحُ الحوارُ في القسم الثاني على تجربة روائية مميزة، وتبدأُ لطفيّة الدُليمي باستجواب الكاتب الألماني هيرمان هيسه، واصفة إياه بالساحر. كذلك تحاول استنكاه السر وراء رغبة مؤلف «ذئب البراري» بأن يكون مُختفياً وصاحب قدرات خارقة، إذ يعترفُ هيرمان هيسه بأنَّه قد مارس السحر وبعدما لا يتمكنُ من الاختفاء بواسطة الطلسم يحقق هذه الأمنية من خلال شخصيات روائية ويختبئ وراء كل من هيرمان هالنر وإميل سنكلير وهاري هالر. وبذلك امتزجت سيرته الذاتية في متن نصوصه السردية. ويقر بأنَّ الشخصيات التي تتحركُ في رواياتهِ تُعبر عن أحلامه وحزنه المرير ورغباته السرية.

ويكشفُ سياق الحوار أنَ هيرمان هيسه يرفض الواقع كونه أمراً عرضياً وماهو إلا عبارة عن فضلات الحياة، بل في رأيه أن قوتنا تكمن في عدم الاستسلام للواقع. وفي ملمح آخر من حديثه يستعيدُ ما تعرَّض له في إثر مهاجمته ذهنية الحرب، وما أعقب ذلك الموقف من وصمه بالخيانة ومُخاصمة الأصدقاء والقراء له.

ويسترسلُ هيسه في إجاباته قائلاً إنه يفضل الطرق الوعرة ويكره الخطوط المُستقيمة، لافتاً إلى استحالة تحول الحربة إلى عقيدة لأنَّ كل عقيدة جاهزةُ لُتصبح فخاً لإرادة وروح حرة. ويُعلنُ غياب المركزية في حياته فهو متأرجح بين الأقطاب على حد قوله. ولا يتسترُ المُناهض لحدود مُصطنعة على استسلامه للاكتئاب لمدةٍ من حياته، إذ يساعده برنهارد لانغ لتجاوز هذه المرحلة، من ثم يفتحُ أمامه السبيلُ لمعرفة التحليل النفسي.

وفي رده على سؤال المحاورة عن طريق الخلاص، ينصرفُ هيرمان هيسه عن اليسار واليمين، موضحاً أن سبيل الخلاص لن يتجه إلا إلى القلب.

تستشهدُ لطفيّة الدليمي برأي المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي عن وقع أدب هيرمان هيسه إذ يقولُ مخرج «طفولة إيفان» بأن رواية «لعبة الكرات الزجاجية» كتاب روحي ترك أكبر أثر في حياته.

غابو

عاش الروائي الكولومبي غارسيا غابريل ماركيز حياةً صاخبةً، وشهدَ مواقف صعبةَ قبل أن يتحوَّل إلى ظاهرة أدبية وتجذبُ أعماله القُراء من الشرائح كافة والفئات. أعطى أسلوبه أبعاداً جديدة لفضاء الواقعية السحرية، ثُمَّ تبعتهُ موجة الكتابة على هذا المنوال خارج أميركا اللاتينية.

هنا وفي القسم الأخير، تديرُ لطفيّة الدليمي حوارها الافتراضي، مشيرةً إلى قدرة غابو على المزاوجة بين الموروث الشرقي وبين الثقافة اللاتينية في رواياته، خصوصاً في «مئة عام من العزلة». كذلك تستشفُ مدى تأثر المُحاوِرة بعالم هذه الملحمة وكيف عاشت مع وقائعها. وعندما تطلبُ إلى ماركيز أن يسدي لها بنصحية يجيبُ «لا أحد يستطيعُ تعليم الحياة للآخرين»، ثُمَّ يبدي قناعته بأنَّ ما يدفع بعالمنا إلى التجدد وينقذه من الفناء والتحلل هو القصص والأحداث التي تقترن بالمآسي.

أكثر من ذلك، ترى ماركيز مهووساً بالفأل والشؤم مُحباً لزهرة صفراء. وما زاد هذا القسم تشويقاً هو حديثُها عن المشتركات الموجودة بينها وبين ماركيز، فكلاهما من برج الحوت، وصاحب «الجنرال في متاهاته» لم يعجبه اسمهُ، كذلك لطيفة الدليمي. وتقارنُ الأخيرة بين أنظمة الحكم في أميركا اللاتينية وفي العراق، إذ فاق فساد السياسيين في بلدها ما تورط فيه حاكم كاراكاس بيريز خيمينيز، ما يدفعُ بماركيز إلى أن يقول إن ديكتاتورنا تلميذ فاشل في اللصوصية. كذلك تسترجعُ مؤلفة «سيدات زحل» التهديدات التي حامت حولها عقب احتلال العراق متحسرةً على مغادرة مكتبتها في بغداد.

ما يجبُ قوله في هذا المقام إنَّ هذا النمط من الكتابة يتطلبُ دراية وإلماماً بفن الرواية والحوار وخيالاً نافذاً ومعلومات غزيرة عمن تحُاورهم افتراضياً. وكل هذه المواصفات لا تجتمع إلا في كاتبة من طراز لطفيّة الدليمي.

تسترجعُ مؤلفة «سيدات زحل» التهديدات التي حامت حولها عقب احتلال العراق

هذا النمط من الكتابة يتطلبُ دراية وإلماماً بفن الرواية والحوار وخيالاً نافذاً
back to top