صفقة مع الشيطان!

نشر في 13-06-2018
آخر تحديث 13-06-2018 | 00:01
No Image Caption
كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة التي تسهم فيما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

كل من كان لديه مشكلة ولا يجد لها حلاً، وكل من كان يتشاجر مع زوجته باستمرار، وكل زوجة ترفض زوجها، وكل فتاة تنتظر قدوم العريس بلا أمل... كل هؤلاء وغيرهم، خصوصاً ممن يعيشون في مدينة المنصورة الجميلة التابعة لمحافظة الدقهلية (125 كيلومتراً شمال القاهرة) كان عليهم أن يتوجهوا لزيارة واحدة فقط للشيخ محمد وفي الحال... هذه كانت النصيحة!

والشيخ محمد ليس رجلاً صالحاً، أو إمام مسجد، أو حتى طبيباً نفسياً.. بل وليس رجلاً أيضاً! إنما مجرد امرأة في العقد الخامس من العمر، احترفت الدجل والشعوذة منذ فترة وجيزة، وأطلقت على نفسها اسم الشيخ محمد في إشارة إلى أن الجن الذي يحضر عليها ويساعدها في حل مشاكل الناس جن مسلم اسمه محمد!

والحقيقة أن الشيخ محمد كان في الأساس فلاحة بسيطة تدعى سيدة وكانت كما يقولون عنها «مقطوعة من شجرة»، لا زوج ولا أولاد ولا حتى أهل. وكانت فقيرة معدمة لا تملك قوت يومها حتى. ولكن بعد أشهر قليلة من احترافها الدجل والشعوذة أصبحت تملك العمارات والسيارات الفارهة، ولديها حساب في بنوك عدة بملايين الجنيهات. كذلك استخرجت جواز سفر طافت به معظم البلدان العربية والأوروبية في زيارات سريعة إلى علية القوم هناك من أجل حل المشكلات التي تواجههم مع العفاريت!

وهكذا في فترة زمنية وجيزة تكونت إمبراطورية الفلاحة البسيطة سيدة، أو كما تطلق على نفسها «الشيخ محمد»، وكما كان كل الناس يطلقون عليها بعدما نجحت في خداعهم وإيهامهم بقدرتها الخارقة على فك المربوط، وأعادة السعادة إلى الحياة الزوجية، وعمل الأعمال السفلية... الخ.

كرامات الشيخ

المعلومات السابقة كلها استمع إليها حسان الفلاح الذي تجاوز الخامسة والأربعين من العمر من صديق عمره المزارع شاكر والذي جاء لتوه من بيت الشيخ محمد... راح شاكر يحكي عن كرامات الشيخ محمد وهو مبهور بما شاهده هناك ومقتنع بأن مشكلته مع زوجته حُلّت على يد الشيخ المبروك... الشيخ محمد قاهر العفاريت!

لم يلتفت المزارع حسان كثيراً إلى ما سمعه من صديقه عن حل المشكلة، فهو لم يكن يؤمن في تسخير الجان والعلاج بالدجل والشعوذة. سرح حسان بخياله بعيداً في المعلومات القيمة التي سمعها عن الفلاحة البسيطة سيدة والتي أصبحت إمبراطورة بمعنى الكلمة وتملك الملايين والعمارات والأراضي من دون تعب أو مجهود... ذكاوها وقدرتها الفائقة على خداع الآخرين والبسطاء والسذج وضعاها في زمن قياسي فوق القمة... في قائمة أثرياء مصر!

في اليوم التالي، قصد المزارع حسان بيت الشيخ محمد أو الفلاحة المليونيرة سيدة، وبعد السماح له بالدخول وجد نفسه في مواجهة الفلاحة البسيطة التي بادرته قائلة:

• اقعد يا حسان... اتفضل!

لم يهتم حسان كثيراً بأمر مناداته باسمه من الفلاحة سيدة، وهي لا تعرفه حتى، ولم يبد دهشته مثلما يفعل زبائنها الذين تبهرهم هذه الحركات القديمة لأنه ببساطة أثناء فترة الانتظار قبل الدخول إلى الشيخة جلس يدردش متعمداً مع أحد اتباعها وذكر له اسمه وكان يعلم جيداً أن هذا الشخص الذي يتظاهر بأنه زبون ليس إلا أحد مساعدي الدجالة.

اعتدل حسان في جلسته وقال بابتسامة ساخرة:

- شوفي يا حاجة. أنا عندي لكِ صفقة العمر اللي هتخليني أنا وانت أغنى اثنين في الدنيا دي كلها مش في مصر بس.

وقاطعته الفلاحة قائلة بحدة:

الأول أنا مش حاجة. أنا الشيخ محمد. شكلك ما عندكش أي مشكلة. انت جاي ليه وعاوز إيه؟!

ورد حسان في ضيق وتبرم:

- اسمعيني كويس يا حاجة. الكلام الفاضي ده مش هيقدم ولا يأخر معايا. أنا جاي لك في حاجة محددة... شغل وشغل كبير أوي.

صمتت الفلاحة... وراح حسان يواصل كلامه قائلاً في ثقة:

- انتِ بتكسبي كام في اليوم؟ ألف جنيه؟ ألفين جنيه؟ أنا هأخليكِ تكسبي عشرة آلاف جنيه في اليوم الواحد.

وارتسمت ملامح الدهشة على قسمات وجه الفلاحة سيدة التي ظلت صامتة تستمع إلى ضيفها الغريب حسان وفكرته الجهنمية التي كان ملخصها أن يتقاسما عمليات الدجل والشعوذة معاً بحيث يصبح حسان دجالاً شهيراً ويتخصص في حل مشكلات الرجال، في حين تتخصص الفلاحة في حل مشكلات النساء ويقوم كل منهما بخدمة الآخر بإطلاق القصص الوهمية عن قدراته ومعجزاته.

وهنا قاطعته الفلاحة سيدة وابتسامة ساخرة على شفتيها قائلة:

• وأنا كده أبقى كسبت؟ ولا خسرت نص زبائني؟

وقال حسان في ضيق:

- من غير تريقة. أنا ممكن أشتغل لوحدي وآخد كل زباينك مش نصفهم بس لأن قدراتي على خداع البسطاء أكبر منك مئة مرة. لكن لما نتحد معاً الخير هيعم عليّ وعليكىِ.

وراحت الفلاحة البسيطة تقلب كلمات حسان في رأسها وتدرس عرضه وبعد فترة من الصمت قالت سيدة:

وأنا موافقة، بشرط أنت من النهارده هيكون اسمك الشيخة فاطمة!

وراحت الفلاحة البسيطة تضع مع شريكها في دنيا الدجل والشعوذة اللمسات الأخيرة على خطة امتلاك هذا السوق في مدينة المنصورة والمدن والقرى المجاورة أيضاً.

علاج وهمي

بعد أسبوع، اشترى المزارع حسان مستعيناً بقرض من شريكته الفلاحة سيدة البيت المواجه لبيت الشيخ محمد. ولم تمض ساعات حتى كان كل زبائن الفلاحة سيدة أو ما يسمى الشيخ محمد من الرجال في البيت المقابل يتلقون العلاج الوهمي تحت تأثير البخور والجو المرعب على يد من يسمونها الشيخة فاطمة أو الفلاح حسان الذي راح يتحدث لزبائنه بصوت حريمي مدعياً أنه صوت الشيخة فاطمة وهي جنية مسلمة، على عكس الفلاحة سيدة التي كانت تتحدث لزبائنها بصوت رجالي مدعية أنه صوت الشيخ محمد الجنى المسلم!

وتدفق البسطاء على البيتين المتقابلين في أحد أحياء مدينة المنصورة الجميلة التي شهدت حراكاً كبيراً وعدداً كبيراً من الزائرين من كل حدب وصوب. الكل يقصد إما بيت الشيخ محمد وإما بيت الشيخة فاطمة.

ولم ينس المزارع الدجال حسان وهو يضع روشتة علاج زبائنه أو ضحاياه من الرجال أن يقنعهم بضرورة عرض زوجاتهم على الشيخ محمد. كذلك لم تنس الفلاحة سيدة أو الشيخ محمد أن تطلب من النساء اللاتي تعالجهن أيضاً أن يقنعن أزواجهن بضرورة أن يعرضوا أنفسهم على الشيخة فاطمة كي يكتمل الشفاء، وإلا لن يتحقق.

أما المرضى غير المتزوجين، فقد كانت الخطة الموضوعة من الشيخ محمد أو الفلاحة سيدة والشيخة فاطمة أو الدجال حسان أن تقنع والدها أو شقيقها بالعرض على الشيخة فاطمة، وأن يقوم الشاب بعرض شقيقته أو أمه على الشيخ محمد!

كان هدف الشيخ محمد والشيخة فاطمة الربح، ولا شيء غير الربح من أكبر عدد من الزبائن أو الضحايا. ووضع الشيخ محمد والشيخة فاطمة تسعيرة موحدة لعلاج البسطاء. المس بألف جنيه، وحجاب المحبة بألفين جنيه، وفك المربوط بثلاثة آلاف جنيه، وكانت أكبر تسعيرة للأعمال السفلية بالفراق أو الكراهية بخمسة آلاف جنيه!

وهكذا يوماً بعد الآخر، أصبح لا حديث للناس في مدينة المنصورة وغيرها من مدن وقرى قريبة سوى قدرات الشيخ محمد والشيخة فاطمة الخارقة... ولحق المزارع الدجال حسان أو الشيخة فاطمة بركب الفلاحة الإمبراطورة سيدة أو الشيخ محمد وتدفقت الأموال عليه هو أيضاً وزادت حصيلة الفلاحة سيدة من المال والعقارات بعدما احتكر النصابان سوق الدجل والشعوذة في المدينة الجميلة... ولكن!

النهاية

كما يقولون: لكل شيء نهاية.

جاءت النهاية بعد عام كامل زادت فيه ثروة كل من الفلاحة النصابة سيدة والمزارع الدجال حسان الذي عرف أيضاً ارتداء الملابس الفاخرة وركوب السيارات الفارهة والسفر بالطائرة إلى علية القوم في البلاد العربية وأصبح مليونيراً ذا نفوذ!

رجال مباحث المنصورة بعدما تلقوا كثيراً من البلاغات من ضحايا زبائن الدجالين أقروا فيها باستيلاء محمد وفاطمة على أموالهم وفشلهما في حل مشكلاتهم أو علاجهم من امراضهم... بدأوا في الإعداد لانهاء ظاهرة الشيخ والشيخة من مدينة المنصورة.. ولكن!

قبل أن تنطلق قوة من رجال المباحث لإلقاء القبض على الدجالين الشيخ محمد وشريكها الشيخة فاطمة، كان حسان وسيدة علما بالأمر عن طريق أحد عملائهما الذي زرعوه داخل مديرية أمن الدقهلية، فانطلقا يختبئان في إحدى القرى الصغيرة المجاورة لمدينة المنصورة.

وهكذا عندما انطلقت القوة من رجال الشرطة إلى البيتين المتقابلين المملوكين للدجالين، لم يعثرا على أي من الدجالين ولا حتى زبائنهما. وقبل أن تعود القوة بخفي حنين أرشد أحد المصادر السرية لرجال الأمن عن اختباء الدجالين في إحدى القرى القريبة!

وعلى الفور انطلقت قوة رجال المباحث ومعها تعزيزات من قوات الأمن المركزي لمداهمة القرية خشية أن يكون الدجالين مسلحين أو تحت حماية مجموعة مسلحة من حرسهما الخاص. وبعد وصول رجال الشرطة إلى القرية تم تحديد البيت الذي يختبئ بداخله الدجال حسان وشريكته الدجالة سيدة. وفعلاً، ألقي القبض على الفلاحة الشيخ محمد وعلى المزارع الشيخة فاطمة اللذين انكرا ارتكابهما أية جريمة وأصرا على أنهما يقومان بأعمال خير لأهالي القرية من دون مقابل وأنهما يعالجان مرضاهما عن طريق قراءة القران الكريم فقط. وأحيل المتهمان إلى النيابة العامة التي قررت حبسهما واحالتهما إلى محاكمة عاجلة أمام محكمة جنح المنصورة التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار خالد الشباسي.

في قاعة المحكمة كان عدد الحاضرين بالآلاف، معظمهم من زبائن المتهمين والذين جاؤوا للإدلاء بشهادتهم في صالح الشيخة فاطمة والشيخ محمد.

بدأت الجلسة، وحاول المتهمان بث الرعب في قلب القاضي بادعائهما بأن بامكانهما قلب الطاولة على الجميع وأن العفاريت لن تتركهما ولن تترك من سيعاقبهما بالسجن!

وبدأ المتهمان في محاولة خداع الجميع، وراحا يرددان عدداً من التعاويذ والكلمات غير المفهومة التي لم تنطل على رئيس المحكمة والذي أصدر قراره في نهاية الجلسة بمعاقبة المتهمين بالحبس ثلاث سنوات بتهمة النصب والاستيلاء على أموال المجني عليهم بعد إيهامهم بقدرتهما على شفائهم من أمراضهم.

الفلاحة والفلاح أقنعا الجميع بقدرتهما على تسخير الجان

جمعا ملايين الجنيهات في أشهر قليلة

في المحكمة حضر الآلاف للشهادة في صف الدجالين

القاضي رفض تهديد العفاريت وأصدر حكمه بالحبس ثلاث سنوات
back to top