رحلة العودة إلى السجن!

نشر في 12-06-2018
آخر تحديث 12-06-2018 | 00:00
No Image Caption
كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، على القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم فيما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

المكان: سجن الغرينبيات- برج العرب.

الزمان: الثانية بعد منتصف الليل.

الأحداث: ثلاثة مساجين ظلوا ساهرين داخل زنزانتهم. الفرحة التي تراقصت بين ضلوعهم أبعدت النوم عن أعينهم. غداً عندما تشرق الشمس يُفرج عنهم بعد قضائهم فترة العقوبة. ساعات ويعودون إلى حياة الحرية. ينطلقون بعيداً عن أسوار السجن العالية.

ياسر أحد السجناء الثلاثة قال لزميليه:

* المهم لما نخرج من السجن حنعمل إيه؟!

السؤال رغم بساطته إلا أنه لم يكن متوقعاً، لذلك لم يجد السجينان الآخران إجابة له. ولكن بعد فترة من الصمت قال السجين الثاني محمد:

• مش مهم نعمل ايه. المهم أننا حنخرج من هنا!

وشاركه السجين الثالث علاء قائلاً:

** أنا عن نفسي حارجع بلدنا وأحاول أبدأ حياتي من جديد!

إلى الحرية

بعد ساعات...

استبدل السجناء الثلاثة ملابس السجن الزرقاء. تسلموا متعلقاتهم من إدارة السجن، وفتح الباب الحديدي الكبير أمامهم لأول مرة منذ خمس سنوات وخرج كل منهم يستنشق أكبر كمية من نسمات الحرية.

إزاء باب السجن الكبير، وقف علاء والدموع تغالبه يقول لزميليه محمد وياسر:

** يا جماعة أنا لا يمكن أنسى السنين اللي عشناها مع بعض في السجن. إنتوا بقيتوا أكثر من اخواتي ويا ريت تبقوا تزوروني في المنصورة. ولو ضاقت بكم الدنيا افتكروا أني أخوكم.

واحتضن السجناء الثلاثة بعضهم بعضاً وودع كل منهم الآخر، وانطلق كل منهم إلى حال سبيله. علاء استقل سيارة أجرة إلى مدينة المنصورة، بينما انطلق ياسر ومحمد إلى مدينة الاسكندرية وقد تواعدوا جميعاً على اللقاء في أقرب وقت.

اللقاء

بعد خمسة أشهر...

سمع علاء طرقات على باب شقته في أحد الشوارع الرئيسة بمدينة المنصورة التابعة لمحافظة الدقهلية (125 كيلومتراً شمال القاهرة). وما إن فتح علاء الباب حتى صرخ بأعلى صوته مرحباً بضيفيه العزيزين، صديقي الزنزانة ياسر ومحمد اللذين وصلا لتوهما لزيارته.

في صالة الشقة، جلس الشبان الثلاثة يتجاذبون أطراف الحديث. حكى كل منهم حكايته منذ الإفراج عنه حتى تلك اللحظة.

في البداية قال ياسر:

* الدنيا أصبحت أضيق من ثقب الإبرة. كل الأبواب أغلقتها صحيفة سوابقي في وجهي. صاحب الورشة التي كنت أعمل بها نجاراً رفض عودتي إلى العمل. بحثت عن مصدر رزق في كل مكان ولكن بلا فائدة!

وجاء الدور على محمد الشاب الذي يعمل نقاشاً... قال:

* أنا حكايتي مختلفة. التحقت بأعمال بسيطة ولكنها لم تكف احتياجاتي ولا احتياجات أسرتي الكبيرة. زيادة الأسعار لا ترحم، ومرض والدتي لا يرحم، وطلبات أشقائي لا تنتهي، وما باليد حيلة. أنا بالفعل بفكر جدياً في الانتحار!

كان علاء يجلس في مواجهة زميليه يستمع إليهما في إنصات شديد، وعندما جاء دوره ليروي لهما ما جرى له خلال الأشهر الخمسة الماضية قفز من مكانه ودعا صديقيه ليلحقا به إلى شرفة شقته.

في الشرفة تسمرت عينا علاء على شقة بالطابق الأخير في العمارة المقابلة وقال لصديقيه بصوت هامس:

** كل مشكلة ولها حل. شايفين الشقة دي جواها حل لكل مشاكلنا.

لم يفهم الصديقان ما يرمي إليه علاء ولكنهما هتفا في صوت واحد قائلين:

- شقة مين دى. وايه اللي جواها؟

وقاطعهما علاء قائلاً:

** دي شقة الدكتور حسن، أشهر دكتور عندنا في المنصورة. بيكسب كتير أوي. واللي جواها لا يعد ولا يحصى. آلاف الجنيهات وذهب وجواهر. يعني حل لكل مشاكلنا. لو أخدنا كل الخير اللي في الشقة دي هنعيش حياة ثانية خالص.

عاد الأصدقاء الثلاثة إلى صالة الشقة.

جلسوا يرسمون خطة اقتحام شقة الدكتور حسن والاستيلاء على كل ما بداخلها من أموال وجواهر، وحسبوا كل حساباتهم. ولم يؤجل الشبان الثلاثة عمل اليوم إلى الغد. اتخذوا قرارهم بضرورة تنفيذ خطتهم عند الفجر.

كانت تفاصيل الخطة التي رسمها علاء تقول بأن يصعد الأصدقاء الثلاثة القدامى إلى سطح المنزل ومنه يتسلقون عبر المواسير إلى «الهدف»، شقة د. حسن... ومن خلال نافذة المطبخ يدخلون إلى الشقة وبعدها يجمعون كل ما غلا ثمنه وخفّ وزنه. وتحسباً لأي مفاجآت قد تواجههم كان على الأصدقاء أن يتزودوا بالأسلحة البيضاء والحبال وشريط لاصق!

فعلاً، بدأ الأصدقاء الثلاثة مهمتهم عند تمام الساعة الرابعة فجراً. تسللوا إلى سطح العمارة بخفة. ومنه دخلوا الشقة الكنز بكل هدوء كي لا يستيقظ الدكتور حسن أو أي من أفراد أسرته المكونة من زوجته وأطفالهما الثلاثة.

داخل الشقة

سارت خطة اللصوص الثلاثة بنجاح.

بعد دقيقة كان الأصدقاء الثلاثة داخل شقة أشهر وأغنى أطباء مدينة المنصورة الدكتور حسن يتحسسون خطواتهم وسط الظلام الدامس. في الصالة لم يعثر المقتحمون على ضالتهم فاتخذوا قرارهم الحاسم عبر لغة العيون بضرورة اقتحام إحدى غرفتي النوم.

أشار علاء لزميليه إلى إحدى الغرف، فانطلقا إليها بخطوات حثيثة. فتح أحدهما الباب وكانت زوجة الدكتور حسن نائمة في فراشها بمفردها. أسرع الأصدقاء الثلاثة إليها. أحاطوا بفراشها وأيقظوها من نومها. وقبل أن تفيق السيدة وضع محمد شريطاً لاصقاً على فمها، بينما تولى ياسر تقييدها بحبل كي لا تتحرك وتقاوم، ثم اقترب إليها علاء وهمس لها بصوت أجش:

** شايلة الفلوس والمجوهرات فين؟

وفي ذعر شديد أشارت الزوجة المكبلة إلى خزانة ملابسها فأسرع محمد وياسر إليها وفعلاً عثرا على علبة مليئة بالجواهر وضعوها في حقيبة جلدية كانا يمسكان بها، ثم التفت علاء إلى الضحية المسكينة محذراً:

** عارفة لو اتنفستِ حتكون نهايتك الليلة؟

وانسابت الدموع على وجنتي الزوجة المذعورة وأومأت برأسها للصوص بأنها لن تحرك ساكناً.

أين النقود؟

أنجز نصف المهمة بنجاح، ولم يتبق سوى العثور على النقود ليستولي عليها اللصوص الثلاثة الذين ما إن هموا بمغادرة غرفة نوم الزوجة المكبلة بالحبال حتى فوجئوا بالدكتور حسن، صاحب الشقة، يقف في مواجهتهم لحظة خروجه من غرفة نوم أولاده الثلاثة بعدما ترامت إلى مسمعيه أصوات غريبة في غرفة نوم زوجته.

المفاجأة شلت أفكار الجميع.

ارتبك اللصوص الثلاثة، ودب الرعب في قلب الدكتور حسن... وبعد فترة من الصمت الحذر. تمالك اللصوص أعصابهم وهرولوا إلى صاحب الشقة. أحاطوا به وقيدوه بالحبال وراحوا في صوت واحد يقولون له:

** الفلوس فين يا دكتور؟

حاول الدكتور حسن المراوغة ولكن المطاوي التي أشهرها الجناة في وجهه وتهديدهم له بذبحه وذبح زوجته وأولاده النائمين أجهضت محاولاته في مهدها. أرشدهم مضطراً إلى مكان احتفاظه بالنقود... وهنا انطلق اللص علاء إلى المكان وعاد بأكثر من 50 ألف جنيه، وأشار إلى زميليه بأن الأمور على ما يرام!

ولكن بقيت آخر خطوة، وهي مغادرة الشقة في أمان.

في صوت واحد حذر اللصوص الثلاثة الدكتور حسن صاحب الشقة قائلين:

** لو اتحركت من مكانك أو صرخت حنرجع لك تاني وحيكون الثمن حياتك وحياة مراتك وحياة أولادك!

وبدأ اللصوص الثلاثة في الانسحاب من الشقة في هدوء حاملين الجواهر والنقود... ولكن قبل أن يخطو الجناة الخطوة الأخيرة خارج الشقة لاحظوا أن الدكتور حسن يحاول أن يتحرك من مكانه فانطلقوا عائدين إليه وأحاطوا به من جديد شاهرين المطاوي في وجهه وراحوا يحاولون إسكاته بتهديده بغرس المطواة في قلبه، بل كاد التهديد الشفهي أن يتحول إلى حقيقة عندما قرر علاء أن يتقي شر الدكتور حسن بطعنة ويجهز عليه عندما صرخ في زميليه قائلاً:

- لازم نخلص على الرجل ده لأنه شافنا وعرفنا خلاص.

ورغم رفض اللصين تغيير الخطة فإن علاء بدأ فعلاً بالتحرك ممسكاً المطواة باتجاه الدكتور حسن. وزاد الرعب في قلب صاحب الشقة الذي لم يجد أمامه سوى أن ينجو بحياته من الموت وبأية طريقة. بسرعة قفز من مكانه وأسرع بالقاء نفسه من شرفة الشقة بالطابق الرابع ليسقط على جذع شجرة ويطلق صرخة هائلة أيقظت الجيران!

فرار اللصوص

خطوة لم يحسب لها اللصوص الثلاثة حساباً!

زاد ارتباكهم وفروا بأقصى سرعة من الشقة. الجيران الذين استيقظوا على صوت ارتطام الدكتور حسن وصرخته المدوية هرولوا إلى الشارع ليعثروا عليه ملقى على الأرض مصاباً بكسور خطيرة وفي حالة يرثى لها.

نقل بعضهم الدكتور المصاب إلى المستشفى والبعض الآخر انطلق إلى شقة المجني عليه ليتعرفوا إلى سر ما جرى، ولماذا ألقى الطبيب نفسه من شقته ليجدوا زوجته مكبلة بالحبال وعلى فمها شريط لاصق وغائبة عن الوعي تماماً فنقلوها إلى المستشفى في محاولة لإنقاذها، ولكن السهم كان قد نفذ، إذ لم يتحمل قلب الزوجة الرعب الذي عاشته لمدة نصف ساعة. توقف القلب الخائف وفارقت الزوجة الحياة!

تحريات

رجال الشرطة الذين استمعوا إلى أقوال الدكتور حسن في المستشفى كان عليهم القبض على اللصوص الثلاثة بأقصى سرعة. تحريات مكثفة أمسكوا بعدها بطرف الخيط في حل لغز الجريمة. وتأكد رجال المباحث من أن اللصوص الثلاثة وراء هذه الجريمة، خصوصاً بعدما أدلى الطبيب بأوصاف الجناة.

أفادت التحريات أيضاً بهروب اللصوص الثلاثة إلى مدينة الاسكندرية عقب ارتكاب جريمتهم، فتم التنسيق مع مديرية أمن الاسكندرية ونجح ضباط الشرطة بعد 48 ساعة في إلقاء القبض على الجناة الثلاثة وفي حوزتهم المسروقات قبل التخلص من الجواهر ببيعها.

أحيل اللصوص الثلاثة إلى نيابة المنصورة ومنها إلى محكمة جنايات المنصورة، التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار محمد شعيب وعضوية المستشارين صلاح القاسي وابراهيم صقر. واعترف المتهمون الثلاثة بجريمتهم كاملة أثناء جلسات المحاكمة ونفوا قتلهم أو إصابة الطبيب أو زوجته. لتقضى هيئة المحكمة بمعاقبة الجناة بالسجن المشدد 15 عاماً بتهمة السرقة تحت تهديد السلاح الذي تسبب في مقتل الزوجة، كذلك بالشروع في قتل الزوج الذي ألقى بنفسه من الطابق الرابع هرباً من الموت على أيدي اللصوص المسلحين بالسلاح الأبيض.

اللصوص الثلاثة ضاقت بهم الحال فقرروا الاستيلاء على نقود وجواهر أشهر الأطباء بالمنصورة

الطبيب المعروف ألقى بنفسه من الطابق الرابع هرباً من الجناة

زوجته لم تحتمل الرعب وماتت وهي مكبلة بالحبال
back to top