في بيتنا... حرب أهلية!

كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم فيما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً عندما تعالت الصرخات المدوية داخل منزل المزارع البسيط عبد الحميد في إحدى القرى الصغيرة التابعة لمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية (85 كيلومتراً شرق القاهرة). لم يبد أحد من الجيران دهشته لتلك الصرخات، فالكل اعتادها في السنوات الأخيرة، تحديداً منذ تزوج المزارع امرأة جديدة وأصرّ على أن تقيم معه في بيت زوجته الأولى!

داخل منزل عبد الحميد كان صراخ الزوجتين شرساً. سعدية الزوجة الأولى تنهال على أمينة، ضرتها، بالضرب وصرخات الزوجة الثانية لا تتوقف، تستغيث وتطلب النجدة من أي جار. ولكن كل الجيران آثروا السلامة وقرروا البقاء على الحياد كي لا يغضبوا جارهم المزارع عبد الحميد الذي كان في حقله وقت وقوع الصدام المعتاد بين الضرتين.

الطفلة نادية، ابنة الزوجة الثانية، لم تحتمل مشاهدة والدتها تتلقى تلك الضربات من زوجة أبيها. انطلقت إلى الحقل حيث يجلس والدها وبأنفاس متلاحقة أخبرته بما يجرى لأمها في تلك اللحظات. وفوراً هبّ المزارع عبد الحميد من جلسته وعاد مع طفلته إلى المنزل لينقذ زوجته الثانية قبل أن تفتك بها زوجته الأولى.

في الطريق إلى المنزل، راحت الطفلة نادية ابنة التسع سنوات ببراءة تقصّ على والدها تفاصيل المشاجرة التي اندلعت بين أمها أمينة وسعدية زوجة أبيها، وأخبرت الطفلة والدها أن شقيقها الأكبر أحمد الذي يبلغ من العمر 14 عاماً احتجز في إحدى غرف المنزل بواسطة سامح وكريم وهما ابنا الزوجة الأولى، ورفضا أن يغادر الغرفة كي لا يتمكن من إنقاذ والدتها من العذاب الذي تتلقاه على يد الزوجة الأولى.

رحى المعركة

كانت نيران الغضب تتأجج في صدر الزوج كلما استمع من طفلته إلى ما تمرّ به والدتها. ولم تمض دقائق حتى وصلا إلى البيت حيث تدور رحى المعركة.

اندفع المزارع عبد الحميد من باب المنزل ليجد زوجته الأولى سعدية تمسك عصا غليظة في يدها وتنهال بها على جسد الزوجة الثانية أمينة التي استسلمت للأمر الواقع والضربات المتتالية، وانزوت بجسدها النحيل في أحد الأركان تتلقى الضربات العنيفة في استكانة.

ولم يفكر الزوج المزارع عبدالحميد طويلاً. اندفع نحو زوجته الأولى وانتزع «الشومة» من يدها بقوة وانهال بها بضربة واحدة على رأسها لتأديبها لتسقط الزوجة الأولى سعدية مغشياً عليها، بينما ارتمت زوجته الثانية أمينة بين ذراعيه تبكي بحرقة وتشكره لأنه جاء في الوقت المناسب وأنقذ حياتها بعدما تصوّرت أنها ستلقى حتفها على يد ضرتها!

ولم يكتف المزارع عبد الحميد بإنهاء المعركة بين الضرتين وإنما انطلق إلى الغرفة الأخرى حيث احتجز ابنه الأصغر أحمد على يد ولديه الآخرين سامح وكريم من زوجته سعدية، وحرّر من الأسر. وراح المزارع عبد الحميد يطلق على كل من في المنزل وابلاً من الشتائم والسباب مهدداً الجميع بأنه إذا تكرر الأمر فسيعاقب الكل عقاباً شديداً.

دموع وجرح

لم تنم سعدية الزوجة الأولى في تلك الليلة من الغيظ. جلست تبكي في فراشها وإلى جانبها سامح (17 عاماً) وكريم (16 عاماً)، يضمدان جراحها التي ظهرت عليها في أثر الضربة القوية التي تلقتها من الأب على رأسها. كانت دموع الزوجة الأولى تنساب بغزارة ولم يكن السبب ألم الضربة وجراح رأسها وإنما الجرح العميق الذي انفتح في قلبها لمناصرة زوجها ضرتها.

مع دموع الزوجة الأولى، انهمرت الأفكار السوداء إلى عقلها. حاولت سعدية أن تتمالك نفسها إزاء ولديها. صمتت لحظات ثم قالت لهما بصوت مخنوق بالدموع:

- شايفين أبوكم بيعمل فينا إيه؟

لم يرد الولدان سامح وكريم. هزا رأسيهما في أسى وراح كل منهما يستمع إلى كلمات الأم الجريحة وهي تواصل قائلة باكية:

- أبوكم بيكرهني. وبيكرهكوا أنتوا كمان. بيحب مرأته الثانية وبنتها وابنها أكثر مننا!

ومسحت سعدية دموعها وأضافت قائلة في حقد وغل:

- لازم نعمل حاجة وإلا هانعيش معاهم في عذاب على طول!

في هذه الأثناء، كان المزارع عبدالحميد يجلس مع زوجته الثانية أمينة داخل غرفتها يربت على كتفيها ويطيب خاطرها بعد ما حدث لها على يد ضرتها. كانت دموع أمينة تنساب على وجنتيها بحرقة والزوج يحاول الاعتذار إليها بشتى الطرائق، ولم تتمالك أمينة نفسها قالت وهي منهارة:

أنا خايفة أوي يا سي عبد الحميد!

وقاطعها زوجها قائلاً:

** خايفة إزاي وأنا معاكِ. مافيش حد بعد النهارده هيقدر يلمس شعره منك. وسعدية وأولادها لو قربوا منك أو حد منهم مس شعرة منك أو من ولادك هيبقى آخر يوم ليهم في البيت ده.

زرعت كلمات الزوج الطمأنينة في قلب الزوجة الثانية أمينة فنامت بين ذراعيه وهو بقي إلى جوارها طوال الليل، ولم يغادر غرفتها إلا في الصباح متوجهاً إلى عمله في الحقل الذي يزرعه.

هول الصدمة

أمضى المزارع عبد الحميد اليوم الثاني بأكمله داخل حقله. وفي الساعة السابعة، مساءً قرر العودة إلى بيته لينال قسطاً من الراحة بعد عناء اليوم الطويل. ولكن قبل أن يصل المزارع عبد الحميد إلى بيته تسمرت قدماه إزاء مشهد غريب!

مجموعة كبيرة من الأهالي يقفون أمام بيته وعلامات الوجوم على وجوه الجميع. انطلق عبد الحميد مرعوباً وضربات قلبه تتسارع من الخوف وراح يسأل الناس عما يجرى. أخبره أحد الجيران أن ابنته الصغيرة نادية كادت تلقى مصرعها بعدما أمسك بها التيار الكهربائي أثناء وجودها بالحمام ونقلت إلى المستشفى.

كاد المزارع عبد الحميد أن يسقط مغشياً عليه من هول الصدمة. انطلق والفزع يسبقه إلى زوجته الثانية أمينة ليجدها تجلس منهارة والدموع تغرق وجهها وهي تلطم خديها بقوة.

سألها عما جرى قفزت أمينة من مكانها وراحت تصرخ قائلة:

• نادية كانت هتموت يا عبدالحميد. اتكهربت في الحمام!

ورد المزارع في رعب:

** إزاي ده حصل. وانتِ كنتِ فين؟

والتفت الزوج الثائر إلى زوجته الأولى سعدية وصرخ فيها قائلاً:

** وانتِ يا سعدية كنتِ فين والأولاد كلهم كانوا فين؟

توقفت الكلمات على لسان الأب بعدما لمح ابنيه سامح وكريم من زوجته الأولى يقفان ونظرات التشفي تطل من العيون، ولم يجد ابنه الثالث أحمد فراح يسأل في لهفة:

** هو أحمد فين؟

وصرخت الزوجة الثانية أمينة والدموع تسابق كلماتها قائلة:

- وأحمد كمان كان هيموت لما حاول ينقذ أخته من الكهربا. وهو في المستشفى دلوقتِ بين الحياة والموت!

تحقيقات

في مستشفى الزقازيق العام، نجح الأطباء في إنقاذ حياة الطفلة نادية وشقيقها الأكبر أحمد بأعجوبة من الموت المحقق.

وتلقت نيابة الزقازيق إخطاراً بوصول الطفلين وبدأت التحقيقات مع كل من كان في البيت وقت وقوع الحادث. وتم الاستماع إلى أقوال الضحيتين، وجاءت أقوال الصبي المصاب أحمد لتفجر المفاجأة تلو الأخرى!

قال الصغير لوكيل النيابة إنه قبل الحادث بيوم سمع مصادفة زوجة أبيه سعدية وهي تجلس في غرفتها مع ابنيها سامح وكريم وتخبرهما بتفاصيل الخطة التي رسمتها للتخلص من شقيقته نادية عقاباً لها على إسراعها بأخبار والدها بما يجرى لوالدتها يوم المعركة الأخيرة بين الضرتين.

وأضاف الصبي المصاب أحمد مؤكداً أن زوجة أبيه أخبرت ولديها بأنها ستوصل سلكاً كهربائياً إلى الحمام بعد أن تملأه بالمياه حتى إذا ما دخلت الصغيرة نادية لتستحم تمسك بها الكهرباء وتلقى مصرعها في الحال!

وأشار الصغير إلى أنه لم يبلغ والدته أو والده بما سمعه كي لا تشتعل معركة جديدة في البيت. وأنه قرر أن يفسد خطة زوجة أبيه الأولى بأن يحاول نزع سلك الكهرباء من المياه قبل دخول أخته الصغرى، ولكن الكهرباء أمسكت به فصرخ لتلحق به شقيقته الصغرى داخل الحمام وتمسك بهما الكهرباء سوياً!

وكيل النائب العام واجه الزوجة الأولى سعدية بأقوال الصبي أحمد. حاولت إنكار الأمر برمته ولكن مع تضيق الخناق عليها وعلى ابنيها، لم تستطع الزوجة الأولى سعدية الاستمرار في انكار جريمتها. انهارت واعترفت بكل شيء ولكنها أضافت بنظرات زائغة وحاقدة أن زوجها المزارع عبد الحميد شاركها أيضاً في التخطيط لارتكاب هذه الجريمة!

كانت المتهمة الزوجة الأولى سعدية تحاول بهذه الأقوال الانتقام من زوجها عبد الحميد وجره معها بشتى الطرائق لينال العقاب، خصوصاً بعدما تزوج عليها امرأة أخرى وطعنها في كرامتها، فضلاً عن مناصرته الدائمة لزوجته الجديدة عليها وحبه لطفلته وولده الذي يزيد عن حبه لولديها.

ألقى رجال مباحث الزقازيق القبض على الزوجة الأولى سعدية وعلى زوجها المزارع عبد الحميد الذي راح ينكر الاتهامات الموجهة إليه، وظلّ يؤكد أن زوجته الأولى تكذب وتحاول الانتقام منه لأنه تزوج عليها رغم مرور كثير من السنوات على هذا الأمر!

وأحيلت القضية إلى محكمة جنايات الزقازيق التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار حسن أبو الوفا وعضوية المستشارين محمد أنور أبو سحلى ورأفت زكي... ولم تنكر الزوجة الأولى سعدية ارتكابها محاولة قتل ابنة ضرتها وأصرت على مشاركة زوجها عبد الحميد لها في الجريمة ولكنها فشلت في تقديم دليل واحد يبين صحة كلامها، في حين استمعت هيئة المحكمة إلى أقوال الصغير أحمد الذي أكد سماعه تفاصيل الخطة الشيطانية التي رسمتها زوجة أبيه مع ولديها سامح وكريم... وأنكر الصبي وجود والده في غرفة زوجته الأولى أثناء سماعها وهي تدلي بتفاصيل الخطة لولديها سامح وكريم.

وفي نهاية الجلسة وبعد سماع مرافعة النيابة ومرافعة محامي الزوج المزارع المتهم عبد الحميد، قضت هيئة المحكمة ببراءة الأب عبد الحميد من التهمة الموجهة إليه وبمعاقبة الزوجة الأولى سعدية بالسجن المؤبد بتهمة الشروع في قتل الطفلة نادية وشقيقها الأكبر أحمد... لتسقط سعدية داخل القفص في حالة انهيار ويطلّق الأب البريء زوجته الأولى بالثلاثة وهو في قفص الاتهام. وتنطلق زغرودة مدوية من ضرتها أمينة التي اقتربت من غريمتها وقالت في تشفٍ:

- غمة وانزاحت من البيت عقبال ولادك كمان!