المحـــــــــــــــروس!

نشر في 10-06-2018
آخر تحديث 10-06-2018 | 00:03
No Image Caption

كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، على القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم فيما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

في تمام الساعة الرابعة عصراً، عاد المعلم اسماعيل الجزار إلى منزله بمنطقة إمبابة لينال قسطاً من الراحة كي يستطيع مواصلة عمله في المساء. عند باب الشقة استقبلته زوجته حياة كعادتها بابتسامة باهتة فوق شفتيها. كان قلب الزوجة يدق بعنف خشية أن يوجه لها زوجها الجزار سؤاله اليومي المعتاد. حاولت حياة مباغتته بسؤاله عن أحواله إلا أن المعلم اسماعيل لم يرد على سؤالها، ووجه إليها سؤاله اليومي التقليدي:

• أخبار المحروس إيه؟

لم ينتظر المعلم اسماعيل الجزار الإجابة وأضاف متبرماً:

• طبعاً البيه لسه نايم كالعادة؟

بدورها لم تجب الزوجة زوجها. غادرت الغرفة كي لا يتطوّر النقاش بينهما وينتهي بمشاجرة بسبب ابنهما أحمد، الشاب الذي أكمل السادسة والعشرين من عمره منذ أيام. ابنهما الوحيد المدلل الذي يرفض النزول إلى العمل بعد حصوله على دبلوم التجارة، ويفضل البقاء في المنزل وحياة اللهو والسهر على أن يلتحق بعمل في محل الجزارة الذي يملكه والده.

صباح الخير

دقائق وانفتح باب غرفة أحمد، الابن المدلل الذي استيقظ من نومه قبل دقائق وفوجئ بوالده الجزار المعلم اسماعيل يقف في صالة الشقة غاضباً يقول بأعلى صوته لزوجته:

• والله ما حد فسد الواد ده غيرك!

وقبل أن يكمل الأب الجملة التفت ليجد ابنه الوحيد أمامه فوجه الأب حديثه له قائلاً بغضب:

• صح النوم يا سعادة بيه!

وقاطعه أحمد وهو يفرك عينيه ويقول في نبرة كسل:

- صباح الخير يا حاج!

رد الأب في غيظ:

• الصباح خلص من زمان يا أفندي. انت عارف الساعة بقت كام دلوقت؟

وأشاح الابن بيده متبرماً وقال في حنق:

- لا... ومش عاوز أعرف!

غلت الدماء في عروق الأب الجزار الذي قرّر أن ينهي المناقشة العقيمة مع الابن المدلل قبل أن يتهوّر وينهال على ابنه الشاب بالضرب. انصرف الأب إلى حجرة نومه يسب ويلعن حظه العاثر وخيبة أمله في ابنه الوحيد، بينما انطلق الابن المدلل وعلى وجهه ابتسامة النصر إلى الحمام. اغتسل وخرج بسرعة يستبدل ملابسه، وقبل أن يغادر باب الشقة استوقفته والدته واحتضنته في تدليل ومنحته مبلغاً كبيراً من المال وربتت على كتفه ودعته ألا يتأخر في العودة إلى المنزل.

صديق الطفولة

غادر الشاب المدلل أحمد منزله متوجهاً إلى منزل صديق طفولته وصديقه الوحيد مصطفى.

هبط مصطفى بسرعة. صافح صديقه وعاجله بالسؤال المهم:

** جبت تذاكر الهيرويين؟!

آجابه آحمد باسماً:

- طبعاً يا ابني. من امتى أنا اتأخرت عليك !

سار الصديقان أحمد ومصطفى حتى وصلا إلى أحد الفنادق في حي المهندسين. دخلا إلى دورة المياة الخاصة بالفندق وتقاسما كيس مخدر الهيرويين، وتعاطى كل منها الممنوعات داخل دورة المياه. دقائق وغادر الشابان المدمنان الفندق غائبين عن وعيهما.

كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة مساء. في حديقة تتوسط شارع جامعة الدول العربية بمنطقة المهندسين، جلس أحمد إلى جوار صديق طفولته مصطفى وكانا شاردي الذهن غائبين عن الوعي من أثر الجرعة الكبيرة من المخدرات التي تناولاها معاً. لم يشعر أي من الشابين بأن ثلاث ساعات كاملة مرت عليهما منذ تناولا المخدرات.

لحظات والتفت مصطفى إلى صديقه أحمد وقال:

** المزاج المرة دي مش عالي، مش زي بتاع امبارح!

ووافقه أحمد الرأي وأضاف:

- صحيح لازم دماغنا تعلى أكتر من كده. وبعدين اليوم لسه في أوله.

ورد مصطفى بلسان ثقيل:

** باقي معاك فلوس؟

أدخل أحمد يده في جيبيه وراح يفتش فيها ثم قال:

- 30 جنيه كل اللي حيلتي!

ونفث مصطفى دخان سيجارته في غضب قائلاً:

** دول ما يجيبوش حتى اسبرين!

وقال أحمد في غضب:

- والحل ح نقضي اليوم كده؟ شوف لنا حل يا مصطفى!

اقترح مصطفى على صديقه أن يعودا إلى إمبابة ليحصل أحمد على دفعة جديدة من المال من والدته. ولكن حالة الإعياء الشديدة التي كان عليها الصديقان أجهضت هذا الاقتراح في مهده. فطلب أحمد من صديق العمر مصطفى أن يبحث لهما عن حل آخر أكثر سهولة!

الحل السهل

لم تمض ثوان حتى جاء الحل بمرور فتاة في التاسعة عشرة من عمرها أمام الشابين. كانت الفتاة يبدو عليها الثراء من ملابسها غالية الثمن كما كانت تسير وهي ممسكة بحقيبة يد منتفخة.

نظر الصديقان إلى بعضهما البعض وتلاقت أفكارهما مع نظراتهما في لحظة بضرورة الاستيلاء على حقيبة الفتاة ليحصلا على ما بداخلها من أموال وبعدها يشتريان كمية المخدرات المطلوبة.

لم يضع الصديقان الوقت. هب كل منهما من مكانه وأسرعا خلف الفتاة. سارا في حذر وراحا يتلفتان يميناً وشمالاً وهما يتحينان الفرصة لالتقاط الحقيبة من يدها ثم يسرعان بالهرب. كان الشارع يعجّ بالمارة والسيارات ولكن المخدر الذي تعاطاه الشابان صور لهما أنه خالٍ من المارة، وصور لهما سهولة المهمة!

وجاءت اللحظة الحاسمة...

اندفع الصديقان ليلحقا بالفتاة، أحمد يسير عن يمينها ومصطفى عن يسارها. ودب الرعب في قلب الفتاة. توقفت عن السير فجأة لتستطلع سر سير الشابين الغريبين معها بهذه الطريقة المريبة ولكن!

في سرعة البرق، دفعها مصطفى بقوة في ذراعها فسقطت الحقيبة من يدها والتقطها أحمد وأطلق لساقيه العنان وتبعه صديقه يعدو أيضاً بأقصى سرعة.

صرخت الفتاة الضحية بأعلى صوتها، وانتبه المارة في الشارع المزدحم بالناس والسيارات لما حدث. مجموعة من الشباب انطلقوا خلف اللصين. وعند نهاية الشارع نجحوا في الإمساك بمصطفي وأوسعوه ضرباً، بينما ذهب أحمد بحقيبة يد الفتاة ولم يستطع أحد اللحاق به!

هلع

الرعب الذي دبّ في قلب الشاب المدمن أحمد دفعه إلى أن يلقي بالحقيبة المسروقة وينطلق بكل ما أوتي من عزم. ولم يتوقف اللص إلا عندما وصل إلى محل جزارة والده المعلم اسماعيل في حي إمبابة. الأب الجالس في محل الجزارة انزعج بشدة لرؤية ابنه الوحيد يدخل عليه محل الجزارة وقد اصفر وجهه من الهلع.

أسرع الأب يحتضن ابنه الوحيد ويسأله عن سر امتقاع وجهه. وانهار الابن بين ذراعي والده واعترف له بكل شيء!

لم يصدق الجزار اذنيه. لم يصدق ان ابنه الوحيد المدلل أصبح مدمن مخدرات وتحول إلى لص يسرق الناس في الشوارع ويخطف حقائب النساء. كاد الرجل يسقط على الأرض مغشياً عليه. ولكن بكاء ابنه دفعه إلى التماسك. اصطحبه إلى منزلهما وراح الجزار المصدوم يفكر في حل يبعد شبح السجن عن ابنه الوحيد إذا ما اعترف عليه صديقه مصطفى بعد الإمساك به... ولكن!

لم تمرّ نصف ساعة حتى كان رجال مباحث العجوزة يطرقون باب الشقة ويلقون القبض على الابن المدمن أحمد بعدما أرشد عنه صديقه مصطفى أثناء استجوابه أمام رئيس مباحث قسم العجوزة.

اقتيد الابن المدلل أحمد إلى قسم الشرطة، وهناك تعرّفت إليه الفتاة الضحية، وأكدت أن أحمد هو الشخص الذي سرق حقيبة يدها، وأحيل أحمد ومصطفى إلى وكيل نيابة العجوزة الذي قرّر حبسهما أربعة أيام على ذمة التحقيقات وإحالتهما إلى محاكمة عاجلة.

تفاوض

أربعة أيام بالتمام والكمال أمضاها الابن المدلل أحمد في «التخشيبة».

96 ساعة مرت على الأب المعلم إسماعيل الجزار كأنها الدهر كله. كان الرجل يبحث عن حل لإنقاذ ابنه من السجن كمن يبحث عن إبرة في كومة قش!

ولم يعرف الرجل طعماً للنوم ولم يهدأ باله وسط نحيب زوجته حياة حتى عثر على حل.

انطلق المعلم اسماعيل الجزار إلى منزل الفتاة التي سرق ابنه الوحيد أحمد حقيبة يدها، التقاها ووالديها وراح يفاوضهم حتى تتنازل عن بلاغها. في البداية قوبل طلب المعلم اسماعيل الجزار بالرفض من الضحية ووالديها. قال لهم بانكسار إنه مستعد لدفع أي مبلغ حتى لا يدخل ابنه الوحيد إلى السجن.

وتحركت عاطفة الأبوة والأمومة في قلبي والدي الفتاة، وراحا يضغطان على المجني عليها مع كلمات مؤثرة من الأب المعلم اسماعيل لتقول جملة واحدة في جلسة المحاكمة:

أحمد ليس الشخص الذي خطف حقيبتي من يدي!

محاكمة

تحدد موعد جلسة محاكمة أحمد وصديق طفولته مصطفى.

وقفت الفتاة الضحية إزاء المستشار خالد الشباسي، رئيس محكمة جنح العجوزة تدلي بأقوال جديدة غير التي ذكرتها في محضر استدلال الشرطة، كذلك محضر تحقيقات النيابة العامة. قالت الفتاة:

** لست واثقة في أن المتهم أحمد هو نفسه الذي كان بصحبة المتهم مصطفى. فما حدث يومها كان مفاجئاً لي ولم أستطع مشاهدة ملامح وجه أحمد جيداً. أما المتهم الآخر مصطفى فإنه الشخص نفسه الذي دفعني بقوة وأسقط حقيبة يدي مني، وطارده الناس حتى أمسكوا به وسلموه لرجال الشرطة.

وانفجرت أسارير الأب المعلم أسماعيل الجزار لتنفيذ المجني عليها الاتفاق المبرم بينهما. وبدأ رئيس المحكمة يستمع إلى شهادة بقية شهود الواقعة الذين جاءت أقوالهم أيضاً لتشير إلى أن مصطفى هو الشخص نفسه الذي أمسكوا به. أما المتهم أحمد فلم يجزم أحد من الشهود بأنه شريك اللص، إذ كان يركض أمامهم ولم يتمكنوا من رؤية ملامح وجهه.

واتسعت ابتسامة الأب اسماعيل على شفتيه أكثر واكثر. فها هي الأدلة كافة التي تدين ابنه أحمد تتساقط إزاء هيئة المحكمة. ولم يتبق سوى كلمات تخرج على لسان المتهم الأول مصطفى ليؤكد من خلالها أن صديقه لم يكن الشخص الذي بصحبته وقت وقوع الحادث. وبعدها يفلت ابنه الوحيد من السجن!

وجاء الدور على المتهم مصطفى الذي قال صارخاً:

** لا... أحمد هو شريكي في الجريمة!

وهنا أسقط في يد الأب المعلم اسماعيل. أدرك الجزار أن كل المحاولات التي أجراها لإنقاذ ابنه الوحيد ذهبت أدراج الرياح. وجاءت كلمة النهاية التي نطق بها رئيس المحكمة بالحكم بحبس المتهمين مصطفى وأحمد سنة مع الشغل والنفاذ بتهمة السرقة، وكلفت المحكمة المتهمين بدفع مصاريف القضية.

وأكد رئيس المحكمة المستشار خالد الشباسي أن المحكمة لم تطمئن لعدول المجني عليها عن أقوالها التي سبق وأقرت بها في محاضر الشرطة والنيابة العامة.

وأسرع المعلم اسماعيل الجزار إلى قفص الاتهام وقال لصديق ابنه الوحيد:

** كده برضه يا مصطفى ده اتفاق الرجالة اللي كان بيننا؟!

الإدمان دفع الابن المدلل وصديقه إلى سرقة حقيبة فتاة

الأب حاول رشوة المجني عليها والشهود

الأب فعل المستحيل لإنقاذ ابنه الوحيد من دخول السجن
back to top