أجهزة بوتين السرية... حدود الأمل والإحباط

في شهر أبريل الماضي اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في منطقة موسكو، لم تكن سياسية الهدف– المواطنون كانوا يحتجون على وجود مواقع ردم نفايات سامة في أحيائهم– ولا واسعة فقد اشتملت، في ذروتها، على عدة آلاف في منطقة يتجاوز عدد سكانها السبعة ملايين، كما أن الناس نزلوا الى الشوارع في تسع بلدات تحيط بالمدينة.

وعلى أي حال بدت الاحتجاجات حسنة التنسيق وفي بعض البلدات أيدت السلطات الناس ومنحتهم الأذن للاحتجاج، وبعد أسبوع على بدء موجة الاحتجاجات وجهت دعوة الى مسؤول من مقاطعة سيربوخوف يدعى ألكسندر شيستن للحضور الى الكرملين، حيث اجتمع مع إيفان تكاشيف وهو جنرال في جهاز الأمن الفدرالي (إف إس بي) المعروف بأنه وكالة الاستخبارات الروسية القوية التي خلفت جهاز الشرطة السرية من العهد السوفياتي (كي جي بي)، وتحسباً لهذا الاجتماع عمد شيستن الى تسجيل المحادثات بشكل سري، وقام فيما بعد بنشرها على موقع "يوتيوب".

وأظهر التسجيل أن تكاشيف هدد شيستن قائلاً "ستسحق إذا لم تتقدم باستقالتك، وسيتم إيداعك السجن مثل الكثيرين من قبلك، أنت لا تفهم أن هذه عملية تطهير كبيرة". وبعد أن ألمح الى أنه تلقى أوامر من الكرملين طرح تكاشيف أسماء مجموعة من كبار المسؤولين الذين أودعوا السجن بمن فيهم جنرال من وزارة الداخلية واثنين من المحافظين. ومضى تكاشيف الى حد الاشارة الى أن أندريه فوروبيوف وهو حاكم منطقة موسكو ورئيس سابق للحزب الحاكم روسيا الموحدة يمكن أن يكون الهدف التالي.

لم تكن محاولة جهاز "إف إس بي" لإسكات شيستن حادثة منعزلة، بل في طابعها الترهيبي والقمعي– الموجه من قبل الكرملين ونفذها "إف إس بي" صورة تظهر طريقة الحكم الجديدة التي يتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ ثلاث سنوات إضافة إلى دور الاستخبارات فيها.

ومنذ وصول بوتين إلى السلطة في سنة 2000 حتى الآونة الأخيرة تمتع جهاز "إف إس بي" بوضعية "طبقة نبلاء جديدة" بحسب قول رئيسه السابق نيكولاي باتروشيف، كما أن بوتين خلال سنواته الأولى في الحكم– وهو ضابط سابق في جهاز (كي جي بي)- عمل على عكس اللامركزية في أجهزة الاستخبارات الروسية التي سادت في فترة التسعينيات من القرن الماضي، وهو هدف يشتمل إلى حد كبير على تركيز السلطة ضمن (إف إس بي)، وتمكين موظفيه من تجميع الثروة والنفوذ السياسي. وكان بوتين يأمل أن تجعل هذه الخطوة من أجهزة الاستخبارات شيئاً أشبه بطبقة جديدة، طبقة تدين بالولاء للكرملين وتهتم باستقرار النظام الحاكم وتسيطر وتحتوي على طموحات المجموعة الأوليغارية الروسية القوية.

ثقة في غير موضعها

والأكثر من ذلك فقد تبين أن ثقة بوتين في جهاز (إف إس بي) كانت في غير موضعها، وقد أخفق الجهاز في التنبؤ بالاحتجاجات الواسعة التي شهدتها العاصمة موسكو في عام 2011، كما أنه بمجرد اندلاع موجة الاحتجاجات كان عاجزاً عن الاستجابة لاستخدام المتظاهرين لوسائل التواصل الاجتماعي التي عملت على حشد وتنظيم العمليات.

وخلال المراحل الأولية لأزمة أوكرانيا في 2013– 2014 أرسلت موسكو فريقاً من (إف إس بي) لمساعدة حليفها الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وكانت أوكرانيا بالنسبة الى موسكو الدولة الأكثر أهمية بين الجمهوريات السوفياتية السابقة، وكان استمرارها ضمن مناطق نفوذ روسيا يمثل أهمية قصوى. ولكن جهاز (إف إس بي) لم يفشل فقط في مساعدة يانوكوفيتش على الاستمرار في الحكم، بل فشل في رؤيته بفقدانه لأعصابه، وقد فوجئ عندما هرب الرئيس من العاصمة في شهر فبراير من عام 2014.

تغيير الخطة

في أعقاب هذا الفشل المتصاعد بدأ الرئيس الروسي بتغيير خططه في سنة 2015 وعمل على التخلص من الأصدقاء القدامى الذين كانوا يناصرون أجهزة الاستخبارات السرية، ويستفيدون من ازدياد نفوذها، وفي شهر أغسطس من عام 2015 أقال بوتين حليفه السابق فلاديمير ياكونين، وهو ضابط سابق في جهاز الـ"كي جي بي" من منصبه كرئيس لشركة الخطوط الحديدية الروسية المملوكة للدولة. وفي سنة 2016 طرد إيفانوف فيكتور وقرر حل وكالته المعروفة باسم (إف إس كي إن) في شهر مايو، ثم خفض درجة رئيس الأركان الروسي سيرغي إيفانوف في شهر أغسطس. وفي نحو ذلك الوقت توقف بوتين عن استخدام جهاز (إف إس بي) كقاعدة لتوظيف مرشحين في مناصب حكومية واقتصادية.

ولم يكن الهدف من هذه التغييرات جعل أجهزة الاستخبارات أقل أهمية، بل تقليص استقلاليتها، وكان بوتين قد تخلى عن البحث عن نظام حوكمة مستقر بعد الفترة السوفياتية التي كان يفترض بالطبقة النبيلة الجديدة فيها أن تؤدي دوراً مهماً وجوهريا، وبدلاً من ذلك أوضح أن ما هو في حاجة اليه كان أداة تضمن– ببساطة وجلاء– حماية نظامه.

هذا النموذج الجديد كان مألوفاً خلال الاتحاد السوفياتي السابق عندما كان المكتب السياسي يتخذ القرارات ويحد من استقلالية أجهزة الاستخبارات.

وفي السنة الماضية تعرض جهاز "إف إس بي" إلى حملة تطهير في مديريته في العاصمة موسكو ووحدته السبرانية المعروفة باسم مركز أمن المعلومات برئاسة أندريه جيراسيموف الذي أرغم على التقاعد، كما تعرض اثنان من نوابه الى محاكمة، وانتهى سيرغي ميخائيلوف الى السجن، فيما حكم على ديمتري برافيكوف بالسجن مع وقف التنفيذ. وتعرض جهاز "إف إس بي" أيضاً إلى إحراج شديد نتيجة قضية في العام الماضي ضد الجنرال فلاديمير بودولسكي، وهو قائد سابق لوحدة القوات الخاصة التابعة لجهاز "إف إس بي"، والذي اتهم بعملية اختلاس وحكم عليه بالسجن أربع سنوات.

وقد أدرك البعض أن روسيا بدأت العودة الى النموذج السوفياتي، وفي مقابلة جرت في شهر ديسمبر من عام 2017 في المناسبة المئوية لتأسيس "تشيكا" وهو الجهاز الذي سبق قيام جهاز الـ"كي جي بي" تلقى مدير جهاز "إف إس بي" ألكسندر بورتنيكوف بعض كلمات التأييد للافرينتي بيريا، وهو سفاح عهد ستالين وإشادة بعمليات "التطهير الكبرى" التي قام ستالين بها.

وتجدر الاشارة الى أن وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية "غرو" قد قلصت حضورها العلني كما أن الحرس الوطني الذي تشكل حديثا تخلى عن طموحاته الهادفة الى الحصول على سلطات اشراف ومراقبة.

التوجه نحو المجهول

يشير نموذج بوتين الجديد الى عدم إفساح المجال أمام الحركات المنافسة، ويواجه الآن كل البيروقراطيين في روسيا، من الوزراء الى جنرالات جهاز "إف إس بي" وحتى المسؤولين الإقليميين، المستقبل الغامض نفسه. ومن شأن هذا أن يبقي النخبة في البلاد تحت السيطرة حيث يخشى كل واحد القيام بحركة غير مرخصة، ومن أجل تحقيق هذا الأمن يبدو أن بوتين على استعداد للتضحية بإمكانية التخطيط في الأجل الطويل، ولا يتوقع أحد قيام البيروقراطيين الخائفين – أو حتى الجواسيس – بالتخطيط للمستقبل.

وعلى الرغم من ذلك ينطوي هذا النموذج الجديد على خلل قاتل آخر، فقد رأى بوتين النموذج السوفياتي السابق بحكم عمله كضابط بسيط في جهاز الـ"كي جي بي" في إدارة إقليمية في مدينة لينينغراد، ثم في ألمانيا الشرقية، وكان بعيداً جداً عن مركز السلطة في موسكو، بحيث لم يشهد فشل ذلك النظام الذي لم يتمكن من التنبؤ بانهيار الاتحاد السوفياتي ولا منعه.

وكانت المشكلة الرئيسة بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي السابق هي أن أجهزة المعلومات بما فيها الـ"كي جي بي" توقفت في نهاية المطاف عن تقديم المعلومات المهمة الى القمة خشية ابلاغ رؤسائها بما لا يحبون سماعه، ومن المفارقات أن بوتين لم يفهم ذلك، وقد شهد بنفسه كيف خذلته أجهزة الاستخبارات في أوقات الأزمة كما حدث خلال احتجاجات موسكو، ولكن مع طريقته في إصلاح الخلل يعرض بوتين نفسه لعواقب كارثية أشد خطورة.

أندريه سولداتوف – فورين أفيرز