عدوة المجتمع

نشر في 09-06-2018
آخر تحديث 09-06-2018 | 00:03
No Image Caption


كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم في ما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

في إحدى الغرف المتواضعة فوق سطح أحد العقارات بأحد الأحياء الفقيرة بمدينة المنصورة التابعة لمحافظة الدقهلية (125 كيلومتراً شمال القاهرة)، ظلت الشابة الحسناء ماجدة التي لم تكمل عامها الثاني والعشرين مستيقظة تفكر في حل لمشكلة عمرها التي لا حلّ لها!

كانت مشكلة ماجدة العثور على المال كي تتمكن من علاج والدتها المريضة المصابة بالفشل الكلوي والتي تحتاج إلى غسيل كلى مرتين أسبوعياً، وتتكلف مبالغ كبيرة جداً. ورغم أن الفتاة التحقت منذ أيام لتعمل مساعدة لمزين شعر نسائي فإن راتبها صغير ولا يكفي لا لعلاج أمها ولا للإنفاق على البيت من طعام وشراب. كان راتباً صغيراً بالكاد يكفي ثمن المواصلات من وإلى عملها.

راحت ماجدة في تلك الليلة تبحث عن حل جذري لمأساة حياتها.

في البداية فكرت الفتاة الشابة في أول مهنة عرفتها المرأة. أن تبيع جسدها لتحصل على المال. ولكنها سرعان ما طردت هذه الفكرة من رأسها. قالت الشابة الحسناء لنفسها:

* وهل جزاء ما فعله هذا المجتمع القاسي بي وبأمي المريضة أن أتولى مهمة إمتاعه. بالعكس يجب أن يدفع أفراد هذا المجتمع الظالم الثمن غالياً!

ذكاء

كانت ماجدة رغم صغر سنها شديدة الذكاء والاعتداد بنفسها وبكرامتها. لذلك لم تكن ترضى بالحل السهل. كانت في تلك الليلة تفكر في ابتكار وسيلة أخرى للحصول على المال من جهة والانتقام من المجتمع بأسره من جهة أخرى لشعورها بأنه فاسد لا يحترم الفقراء ولو كانوا شرفاء وإنما يحترم الأثرياء حتى ولو كانوا من اللصوص والفاسدين!

كانت الساعات تمضي بطيئة على الشابة الصغيرة ماجدة في تلك الليلة وهي ترسم خطتها الشيطانية للحصول على المال، وفي الوقت نفسه للانتقام من المجتمع كله. ولم يقطع حبل أفكارها المسترسل في رسم خطتها الذكية سوى تأوهات والدتها المريضة النائمة في أحد أركان الغرفة المتواضعة!

اختمرت الخطة في ذهن الفتاة الصغيرة مع النسمات الأولى للصباح. قررت أن تنال قسطاً من الراحة وتبدأ في تنفيذ خطتها التي ستخطو بها أولى خطواتها الحقيقية في الانتقام من الجميع.

بدء الخطة

في تمام الساعة السادسة من صباح أحد الأيام، تجمّع عدد من المارة حول سيارة ملاكي حديثة. المواطنون شكوا في توقفها بطريقة غريبة وسط الشارع. وعندما اقترب المارة في حذر من السيارة المتوقفة في عرض الطريق خشية أن تكون مفخخة يستخدمها الإرهابيون في عملياتهم الإجرامية، عثروا في داخلها على رجل في العقد الرابع من العمر يجلس خلف عجلة القيادة غائباً عن الوعي تماماً.

أسرع المارة بإبلاغ رجال الشرطة الذين أسرعوا بدورهم إلى مكان السيارة.. ونُقل السائق إلى أقرب مستشفى في حالة إعياء شديدة. وعندما نجح الأطباء في إعادته إلى وعيه قال إنه كان يسير بسيارته الليلة الماضية في أحد الشوارع بمدينة المنصورة فشاهد فتاة تقف وحيدة على الرصيف تحمل علبة حلويات وتشير له أن يتوقف لإيصالها.

توقف وسألها عن وجهتها فأخبرته بأنها كانت في احتفال بعيد ميلاد صديقة لها وتأخرت وطلبت إليه أن يوصلها بسيارته. وأضاف سائق السيارة في محضر الشرطة أن الساعة كانت تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل والشارع كان خالياً من سيارات الأجرة فوافق على طلب الفتاة الشقراء.

وأثناء جلوسها إلى جواره فتحت علبة الحلويات وقدّمت له قطعة حلوى من عيد الميلاد الذي كانت تحضره كنوع من الشكر له على خدمته. فغاب عن الوعي بمجرد أن تناولها. وأضاف السائق لوكيل النائب العام أنه اكتشف أنها سرقت حافظة نقوده التي تحتوي على 1400 جنيه.

ضحية أخرى

بعد يومين...

في شارع آخر بمدينة المنصورة، عثر الأهالي على سيارة أخرى نصف النقل تقف بطريقة غريبة على الرصيف وفي داخلها أيضاً سائقها ويبدو فاقداً الوعي... وتكرر السيناريو نفسه: أدلى السائق بعد استعادته وعيه بأوصاف الفتاة الشقراء التي كانت تحمل في يدها علبة حلويات وطلبت إليه أن يقلها في ساعة متأخرة من الليلة السابقة.

وفي الطريق شكرته الفتاة الشقراء وقدّمت له قطعة حلوى من علبة الحلويات التي تحملها في يدها فغاب عن وعيه تماماً بعد دقائق معدودة... وقال السائق أن آخر ما يتذكره كان أنه استطاع بصعوبة بالغة مقاومة المخدر ونجح في إيقاف السيارة التي يقودها قبل أن يغيب عن الوعي تماماً.

وأكد سائق السيارة نصف النقل أنه اكتشف بعد استعادة وعيه في المستشفى أن الفتاة الشقراء التي أقلها استولت منه على مبلغ ألف جنيه. وهكذا وجد رجال مباحث المنصورة أنفسهم إزاء لصة محترفة. ملامح وجهها التي أدلى بها السائقان لم تكن كافية لتحديد شخصيتها.

وبدأ ضباط المباحث بالمنصورة يجرون تحرياتهم حول كل فتاة قد تحمل الأوصاف التي أدلى بها سائق السيارة الملاكي وسائق السيارة نصف النقل في محاولات جادة للقبض عليها بسرعة قبل أن ترتكب جريمة ثالثة... ولكن!

مزيد من الضحايا

بعد اسبوع واحد...

عثر المارة في أحد الشوارع الرئيسة بمدينة المنصورة على سيارة أجرة سائقها فاقد الوعي، وأبلغوا رجال الشرطة. وعندما استعاد السائق وعيه اكتشف سرقة جواله وحصيلة يوم كامل بعدما تناول قطعة من الحلوى سلمتها له فتاة شقراء كان يقلها في ساعة متأخرة من الليلة الماضية!

وبقى السؤال الذي راح رجال الشرطة يبحثون عن إجابة له:

*من تكون هذه الفتاة الشقراء التي تخدِّر ضحاياها وتسرق أموالهم؟! كان على رجال المباحث الإجابة عن هذا السؤال بسرعة، خصوصاً أن الضباط شعروا بأنهم إزاء تحدٍ من نوع جديد: فتاة شقراء ترتكب جرائمها بكل سهولة وهم عاجزون حتى عن كشف هويتها!

قرر رجال المباحث نشر أكمنة ثابتة وأخرى متحركة في الشوارع الرئيسة بمدينة المنصورة، خصوصاً بعد منتصف الليل... وكانت مهمة هذة الكمائن واحدة: البحث عن فتاة شقراء تحمل في يدها علبة حلويات سواء كانت واقفة في أحد الشوارع بمفردها أو كانت تركب إلى جوار أحد سائقي السيارات.

كانت خطة رجال المباحث محكمة فعلاً، وتفتيش السيارات في الكمائن الثابتة كان يتم بكل حسم ودقة ولكن كانت النتيجة صفراً كبيراً. لم يعثروا على أي أثر للفتاة الشقراء التي تحمل في يدها علبة حلويات!

تعديل الخطة

كان سبب فشل رجال الشرطة في إلقاء القبض على ماجدة أنها عندما كانت تستقل سيارة أجرة عائدة من محل التزيين النسائي الذي تعمل به، أوقفت سيارة الأجرة في الكمين وسمعت الفتاة أحد أمناء الشرطة يقول لزميل له:

تمام العربية فيها بنت شعرها أسود مش أصفر.

ثم سمح لسائق سيارة الأجرة ولماجدة الجالسة في المقعد المجاور له بالمرور من الكمين بسلام.

ادركت ماجدة في تلك اللحظة أن هذه الكمائن كلها تبحث عنها، وحمدت الله على أنها في تلك الليلة لم تكن تقوم بإحدى مهماتها في السرقة.

بمجرد عودة الشابة الحسناء ماجدة إلى الغرفة التي تقيم بها جلست تطالع باهتمام بالغ صفحة الحوادث بالجريدة اليومية... كانت الفتاة الشابة تقرأ بشغف سطور الخبر الذي يؤكد تعرض عدد من سائقي السيارات بالمدينة لحيلة ذكية للاستيلاء على أموالهم بواسطة فتاة شقراء!

في سعادة القت ماجدة بالصحيفة. كانت تشعر بارتياح كبير بعدما أكد الخبر فشل رجال الشرطة في تحديد شخصية الفتاة وقالت في نفسها:

* خليهم يدوروا على الفتاة الشقراء براحتهم!

أدركت ماجدة في تلك اللحظة أن عليها إدخال تعديل بسيط إلى خطتها. اتلفت فوراً الشعر المستعار الأصفر الذي كانت ترتديه أثناء تخدير ضحاياها وقررت أن تستبدل بـه شعراً أحمر اللون كي تضلِّل رجال المباحث بعدما انصب بحثهم عن فتاة شقراء!

صباح اليوم التالي وأثناء وجودها في محل التزيين النسائي حصلت بسهولة على الشعر الأحمر. امسكت به وراحت تمشطه وتجهزه للاستخدام. لحظات والتفت صاحب المحل إلى ماجدة فوجدها شاردة الذهن فصرخ فيها قائلاً:

* جرى إيه يا ماجدة. حتفضلي سرحانة كده طول اليوم؟

وانتبهت الشابة ماجدة لكلمات صاحب المحل. قفزت من مكانها واعتذرت إليه وأسرعت بتجهيز بقية الأدوات استعداداً لقدوم زبائن المحل ولكنها شردت بذهنها مجدداً وهي تصفف الشعر المستعار الأحمر وراحت تقول في نفسها:

* بقى حتة باروكة تدوخ مديرية أمن برجالها؟

انتهى يوم العمل...

غادرت الشابة ماجدة محل التزيين النسائي وهي تحمل في يدها حقيبة بلاستيكية تحتوي على الشعر المستعار الأحمر وتوجهت إلى منزلها. وبمجرد دخولها إلى غرفتها أسرعت إلى الثلاجة الصغيرة وأخرجت منها علبة الحلوى. أمسكت بقطعة منها وحقنتها بمخدر، ثم بدأت في ارتداء الشعر الأحمر وهي تردد:

* طالما البوليس بيدور على بنت شقراء... يبقى لازم أخليه يدور على واحدة ثانية كمان شعرها أحمر!

نزلت ماجدة إلى الشارع بعد منتصف الليل وبدأت تسير دقائق عدة حتى ابتعدت عن عنوان بيتها، ثم توقفت عندما تأكدت من خلو الشارع من المارة وأشارت إلى أول سيارة أجرة لتقلها إلى إحدى المناطق البعيدة بالمدينة.

محاولة أخيرة

كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل عندما مرت ماجدة وسائق السيارة من آخر كمين للشرطة وسلمته قطعة الحلوى وابتسمت له ابتسامة باهتة على شفتيها. التهم السائق قطعة الحلوى وبعد لحظات أحسّ بدوار شديد وبدأ يترنح بسيارته. توقف على جانب الطريق وظنت ماجدة أن ضحيتها ابتلعت الطعم وغابت عن الوعي مثل كل ضحاياها. مدت الفتاة يدها داخل جيوب ضحيتها لتستولي على كل ما تحتوي عليه ولكن!

سائق السيارة لم يكن فقد الوعي كلياً. قاوم بصعوبة وأمسك بيد الفتاة ماجدة وبمعاناة كبيرة أطلق بوق سيارته في محاولة منه للاستغاثة بأي سيارة قادمة أو أي أحد من المارة القليلين الذين صودف مرورهم بالشارع في هذا الوقت المتأخر من الليل.

ارتبكت ماجدة بشدة. حاولت الهروب من السيارة. فتحت الباب بسرعة ولكن السائق ظل يقاوم ويتشبث بها حتى اقترب عدد من المارة وأحاطوا بالسيارة الواقفة على جانب الطريق واقتادوا ماجدة إلى قسم الشرطة ونقلوا السائق إلى المستشفى بعدما سقط مغشياً عليه فور اطمئنانه إلى أن الأهالي أحاطوا بالفتاة التي خدرته لسرقته.

الاعتراف

سقطت أخيراً الفتاة الشقراء بعد ثلاثة أشهر من المطاردة.

اعترفت لضباط المباحث باكية بجرائمها السابقة، وأحيلت الفتاة إلى النيابة ومنها إلى محكمة جنايات المنصورة التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار محمد شعيب وعضوية المستشارين صلاح القاضي وابراهيم صقر... وأعادت ماجدة اعترافاتها إزاء هيئة المحكمة مؤكدة أنها ارتكبت جرائمها السابقة وهي ترتدي شعراً أصفر. وفي المرة الأخيرة حاولت خداع رجال الأمن بارتداء شعر أحمر.. ولكن السائق قاومها وأمسك بها وهي تحاول الاستيلاء على نقوده وجواله، لتقضى هيئة المحكمة بمعاقبتها بالسجن المشدد ثلاث سنوات.

رجال مباحث الدقهلية يبحثون عن فتاة شقراء تسرق سائقي السيارات بعد تخديرهم

جلست الفتاة تطالع باهتمام بالغ صفحة الحوادث بالجريدة اليومية

اقترب المارة في حذر من السيارة خشية أن تكون مفخخة يستخدمها الإرهابيون في عملياتهم الإجرامية

كانت الساعات تمضي بطيئة على الشابة الصغيرة وهي ترسم خطتها الشيطانية للحصول على المال
back to top