نيران الغضب قتلت الابن الوحيد

نشر في 05-06-2018
آخر تحديث 05-06-2018 | 00:01
No Image Caption
كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم في ما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

داخل مقر إحدى الشركات الخاصة بالقاهرة، تقدّم الشاب حسن بخطوات متثاقلة متجهاً إلى مكتب المدير الذي استدعاه فجأة.

كان الخوف يملأ قلب الشاب البالغ من العمر 22 عاماً خشية أن يكون أحد زملائه شكاه إلى مديره الذي لا يتفاهم إلا بلغة الخصم من الراتب أو الطرد الفوري من العمل!

توقّف الموظف حسن إزاء باب مكتب المدير. طرق الباب ثم فتحه عندما جاءه صوت من الداخل يقول: ادخل.

دخل الشاب حسن وعلامات الذعر بادية على قسمات وجهه. ولكن المدير على عكس مخاوف الشاب قابله بابتسامة ترحيب وقال له بهدوء:

- اقعد يا حسن.

تردد الشاب في الجلوس فعاجله مديره بنبرة غضب قائلاً:

- ما تقعد يا ابني.

جلس حسن فوراً، وقد عاد الرعب يملأ قلبه بعدما نهره مديره وأمره بالجلوس بغضب. لحظات ساد خلالها الصمت في المكتب حتى قطعه المدير موجهاً كلامه إلى الشاب الخائف:

- انت من إيتاي البارود يا حسن مش كده؟

ورد الشاب بصوت اختلط فيه الرعب بالذعر:

أيوه سعادتك.

وعاد المدير يقول ولكن بابتسامة على وجهه:

- ده انت بلدياتي بقى. كويس أوي.

لم يفهم حسن ما يرمي إليه مديره ولكنه أجابه بلباقة:

ده شرف ليّ سعادتك.

أُعجب المدير بلباقة الشاب حسن فسأله:

- مش عاوز تاخد أجازة يومين تزور أهلك في البلد؟

انفرجت أسارير الشاب وزال عنه الخوف وقال في أدب:

يا ريت والله يا فندم. ده أنا بقى لى سنتين ما زرتش البلد...

وقاطعه المدير قائلاً:

- خلاص خد يومين أجازة. أنا مبسوط من شغلك. انت مجتهد. بس وانت مسافر هاديلك حاجة توصلها لأهلي في ايتاي البارود.

ورد الشاب حسن بابتسامة عريضة ارتسمت على وجهه:

تحت أمر سعادتك.

انتهى اللقاء بين حسن ومديره الشرس على خير. وخرج الشاب سعيداً وهو يقول في نفسه: «صحيح اللي تخاف منه مافيش أحسن منه!».

مكالمة

في فرحة كبيرة وعارمة، أمسك الشاب حسن جواله واتصل بوالده الحاج مصيلحي وزفّ له الخبر السعيد. لم ينم الحاج مصيلحي في تلك الليلة التي تلقى فيها مكالمة ابنه الوحيد حسن الغائب عنه منذ عامين كاملين.

شوق الأب والحنين إلى ابن عمره طيّرا النوم من عينيه بعدما أكّد حسن خلال المكالمة أنه سيحضر في صباح اليوم التالي إلى القرية بعد حصوله على إجازة سريعة من عمله لمدة 48 ساعة.

ظل الحاج مصيلحي مستيقظاً حتى سمع آذان الفجر. هبّ من فراشه. توضأ وصلى الفرض ثم أسرع يوقظ زوجته وبناته من نومهن حتى يبدأن عملهن في إعداد أنواع الطعام كافة احتفالاً بقدوم الابن العائد بعد غياب طويل.

ومع نسمات الصباح الأولى تحوّل البيت المتواضع في إحدى القرى التابعة لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة (140 كيلومتراً شمال القاهرة) إلى خلية نحل لا تهدأ. الأم وبناتها الثلاث جمعن كمية كبيرة من الطيور وبدأن تنظيفها وإعدادها لتكون في استقبال الابن الوحيد فور وصوله. بينما جلس الأب والسعادة تطل من عينيه فها هو بعد ساعات قليلة سيرى ابنه ويأخذه في حضنه بعد طول غياب.

كان الوقت يمضي ببطء شديد على الأب المتلهِّف للقاء وحيده. وكي يقطع ملل الانتظار جلس الحاج مصيلحي إزاء منزله ودار في رأسه شريط طويل من الذكريات التي جمعته مع ابنه الوحيد حسن. بدأ منذ لحظة الولادة مروراً بمراحل العمر المختلفة للشاب الذي حصل منذ عامين على دبلوم التجارة والتحق بصعوبة بالغة بوظيفة بإحدى الشركات الخاصة في القاهرة أخذته من بين أحضان والده وأفراد أسرته في القرية.

ومع شريط الذكريات الجميل لم يدر الحاج مصيلحي سر الانقباضة التي اجتاحت صدره رغم أن شريط ذكرياته الطويل مع وحيده والذي يمرّ في رأسه مليء بلحظات الفرح والسعادة. استعاذ الأب بالله من الشيطان الرجيم. نظر في ساعة يده التي أشارت إلى الثانية عشرة ظهراً فأوقف شريط الذكريات الدائر في رأسه، وراح يصرخ في أهل بيته للإسراع بإعداد الطعام للابن المنتظر قدومه بين لحظة وأخرى.

توقّف القطار

في هذه اللحظة، توقّف القطار القادم من القاهرة إزاء رصيف محطة سكة حديد إيتاي البارود. هبط منه حسن الشاب العائد في إجازة قصيرة لزيارة أسرته بعد غياب.

أمسك بحقيبة يده ولفة صغيرة تسلمها من مديره قبل سفره لإيصالها إلى أحد الأقارب في إحدى القرى القريبة من قريته. وغادر حسن محطة القطار متوجهاً إلى موقف الحافلات ليستقل مواصلة أخرى إلى قريته التي تبتعد كثيراً عن محطة القطار

في الموقف. لبى نداء أحد معاوني السائق على إحدى الحافلات الذي دعاه للركوب قائلاً له «اركب معانا هنا يا أستاذ ثواني وهنتحرك». وجلس حسن ينتظر الركاب للتحرك.

فعلاً، امتلأت الحافلة ولكن الغريب أنها لم تتحرك!

راح حسن يسأل في دهشة عن سر بقاء الحافلة في مكانها رغم اكتمال عدد الركاب، ولكنه لم يتلق رداً من أحد، فصاح الشاب بأعلى صوته منادياً السائق خلف عجلة القيادة وسأله قائلاً:

• خير يا اسطى. انت مستنى إيه؟

رد السائق بحنق:

- لسه العدد ما كملش!

تلفت حسن حوله يميناً وشمالاً ليتأكد أن عدد الركاب داخل الحافلة يكفي بل ويزيد عن طاقتها. ثم عاد يقول للسائق:

• إزاي بقى. ما العربية مليانة أهي!

وقاطعه السائق في غضب وعصبية:

- وانت مالك يا سيدنا الأفندي. ما تخليك في حالك وبلاش كلام كتير!

لم يعجب حسن رد السائق فعاتبه قائلاً:

• يا اسطى ورانا أشغال. وأنت معطلنا كلنا.

كان حسن يحاول بكلماته تشجيع بقية الركاب على اتخاذ موقفه نفسه بضرورة انطلاق السائق بالسيارة. ولكنهم تجاهلوا الأمر، ما شجع السائق على إعلان تحدي حسن قائلاً بغضب:

- بقى كده. طيب العربية دي مش هتتحرك النهارده. واتفضلوا كلكم انزلوا بقى خدوا عربية تانية!

الفرمان الذي أصدره سائق الحافلة ألزم الركاب الخائفين على النزول، إلا حسن الذي أخذ الأمر على كرامته فكان الوحيد الذي أبدى اعتراضه وطالب السائق بإعادة الأجرة التي حصل عليها لحظة ركوبه الحافلة.

هنا ثار السائق ورفض إعادة الجنيهات التي تسلمها من الركاب فما كان من الشاب حسن إلا أن قال له بأعلى صوته:

• لا. أنت باين عليك حرامي وقليل الأدب كمان!

مطواة

الجملة الأخيرة التي خرجت على لسان الشاب حسن اشعلت نيران الغضب في قلب وعقل سائق الحافلة الذي فوجئ به الجميع يخرج مطواة من بين طيات ملابسه وفي لمح البصر يغرسها بكل قسوة في قلب الشاب حسن الجالس في الحافلة وفي عينيه نظرات التحدي!

في لحظة انفجرت الدماء من قلب حسن. لم يتحرك الشاب من مكانه. سقط صريعاً في الحال وسط ذعر الركاب الذين هرول كل منهم في اتجاه مختلف خشية أن ينالوا مصير الشاب نفسه الذي تحدّى سائق الحافلة.

حالة من الرعب شهدها موقف الحافلات. الكل يركض ويصرخ بأعلى صوته: قتيل. قتيل!

وبعد دقائق وصل رجال الشرطة إلى المكان وأمسكوا بسائق الحافلة القاتل واقتادوه إلى قسم شرطة مركز إيتاي البارود بينما حاول عدد من الأهالي إسعاف الشاب حسن ونقلوه بسرعة إلى مستشفى إيتاى البارود العام. ولكن الوقت كان قد فات!

جثة هامدة

حسن مات!

جملة قاسية سمعها الأب الحاج مصيلحي وسقط بعدها مغشياً عليه. عندما استيقظ، وجد نفسه في مشرحة المستشفى إزاء جثة وحيده حسن الذي كان ينتظر قدومه عامين كاملين. وعندما وصل إليه ابن عمره كان فارق الدنيا كلها على يد سائق بلطجي لا يعرف قلبه الرحمة.

حفلة استقبال الابن الغائب حسن تحوّلت إلى مأتم كبير في أرجاء القرية. النساء اتشحن بالسواد وأبناء عموم القتيل أصروا على عدم إقامة سرادق للعزاء قبل أن ينتقموا لمقتل ابن عمهم حسن، وقبل أن يعودوا برأس سائق الحافلة القاتل إلى قريتهم!

في قسم شرطة إيتاي البارود كانت الحراسة مشددة على القاتل بعدما أفادت التحريات بوجود نية لدى أهل القتيل الشاب للانتقام من سائق الحافلة البلطجي. كان رجال الشرطة يخشون افتعال أحد أقارب القتيل مشكلة ما يدخل على إثرها إلى الحجز حيث القاتل وينال منه. لذلك أخذوا تعهداً من الأب المكلوم الحاج مصيلحي بعدم التعرض للمتهم كي تأخذ العدالة مجراها وينال القاتل عقابه بالقانون.

وافق الحاج مصيلحي رغم النار التي كانت تأكله من الداخل حسرة على فقده ابنه الوحيد. المتهم بدوره لم ينكر جريمته إزاء رجال الشرطة وممثل النيابة العامة. فالأمور ثابتة عليه وأداة الجريمة (المطواة) كانت في حوزته وعليها دماء الشاب القتيل. النيابة العامة بعد سماع اعترافات السائق القاتل قررت إحالته إلى محكمة جنايات إيتاي البارود التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار محمد شعيب وعضوية المستشارين أحمد أبو الفتوح وعماد خالد.

وبدأت جلسات المحاكمة. اعترف السائق القاتل بجريمته إزاء هيئة المحكمة معللاً ذلك بغضبه العارم من القتيل عندما نعته بأنه لص، فلم يتمالك أعصابه وطعنه في قلبه. واستمع الحاج مصيلحي من القاتل عن كيفية ارتكابه جريمته وقلبه يتمزق من الألم لفراق وحيده وابن عمره حسن الذي مات غدراً في ريعان شبابه.

وفي نهاية جلسات المحاكمة قضت هيئة المحكمة بمعاقبة السائق القاتل بالسجن المشدد سبع سنوات. هنا قفز الحاج مصيلحي من مكانه معترضاً ومطالباً بإعدام قاتل ابنه الوحيد، ولكن هيئة المحكمة أكّدت في حيثيات حكمها أن المتهم نال أقصى عقوبة لجريمة الضرب الذي يفضي إلى موت، إذ لم تتوافر نيه مبيتة من القاتل لارتكاب جريمته، كذلك عنصر سبق الإصرار والترصد غير قائم في الجريمة التي وُصفت بأنها مجرد مشاجرة وقعت بين الطرفين بسبب الخلاف على الأجرة.

الثأر

خرج الحاج مصيلحي من قاعة المحكمة مستنداً إلى أبناء أشقائه الذين أصروا على الأخذ بالثأر من السائق القاتل بعد قضائه مدة العقوبة وخروجه من السجن. ورفض الأب المكلوم هذا الرأي قائلاً لهم:

* ابني حسن مات شهيداً والقاتل أخد جزاءه بالقانون.

العائلة تستعد لاستقبال ابنها منذ لحظات الفجر الأولى

الأب تسلم جثمان ابنه الوحيد من المشرحة بعد غيابه عامين كاملين

السجن المشدد 7 سنوات لسائق الحافلة وهي عقوبة الضرب المفضي إلى الموت

السائق اعترف بجريمته إزاء هيئة المحكمة معللاً ذلك بغضبه العارم
back to top