الحكم بالسجن 5 سنوات فقط!

نشر في 04-06-2018
آخر تحديث 04-06-2018 | 00:00
No Image Caption
كلمة القاضي حكم. وكي يكون الحكم واجب النفاذ، ينهي حياة إنسان أو يمنحه فرصة أخرى للحياة، فعلى القاضي أن يدرس أوراق القضية التي ينظرها بعناية شديدة. عليه أن يتعمّق في كل جملة وكلمة وحرف، كذلك أن يستعرض ما بين السطور، لتستقر في وجدانه قناعة بإدانة المتهم أو براءته.

من هنا، فإن أجندة أي قاضٍ تحتوي على تفاصيل كثيرة أثّرت في إصداره الحكم النهائي على المتهمين، أو على أقل تقدير في تكوين قناعته عند النطق بالحكم الصادر، وهو ما يُطلق عليه قانوناً جملة نسمعها كثيراً عند صدور الأحكام القضائية وهي: «وقد استقر في وجدان هيئة المحكمة».

ملفات القضايا التي ينظرها القضاة مليئة بأوراق تحتوي على تفاصيل وحكايات أسهمت بقدر كبير في ارتكاب متهم جريمة ما، في المقابل على العكس قد تكون غير كافية لإدانته. وربما تحتوي هذه الملفات على أوراق أخرى تحمل خيوطاً عدة تحدِّد الدوافع التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته. ولكن يقف القاضي عاجزاً إزاء هذه التفاصيل بسبب نصوص القانون الجامدة، فلا يستخدمها في إصدار الحكم النهائي تحت بند «عدم كفاية الأدلة».

هذه الحكايات والتفاصيل المدونة في أجندة القضاة والتي تسهم في ما قد يستقر به من قناعات، نستعرضها في قضايا غريبة ننشرها على صفحات «الجريدة» خلال شهر رمضان الفضيل، وهي قضايا كانت وقت نظرها مثار اهتمام الرأي العام في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

عمر طالب في السنة النهائية بكلية الطب، يحلم والداه بأن يصبح طبيباً يفخران به. وصديق عمره أحمد طالب في السنة النهائية بكلية الهندسة، ترعاه والدته برموش عينيها، وتنتظر الاحتفال بتخرّجه. وتحلم العائلتان بمستقبل جميل للشابين، ولكن هل يتحقّق الحلم؟

جلس عمر الطالب بالسنة النهائية بكلية الطب في غرفة نومه خلف مكتبه يستذكر دروسه في تركيز شديد. لم ينتبه الشاب الذي لم يكمل عامه الخامس والعشرين إلى مرور ثلاث ساعات كاملة عليه لم يرفع خلالها عينيه من فوق سطور الكتب والمراجع العلمية. ولم يلتفت إلى وجود والدته داخل الغرفة إلا عندما سمعها تقول له بحنان:

- مش كفاية مذاكرة بقى يا عمر... الساعة داخلة على اثنين بعد نص الليل!

رفع طالب نهائي الطب عينيه من على الكتاب وأجاب والدته قائلاً:

** لسه قدامي شوية يا ست الكل...

وارتسمت ابتسامة صافية على شفتيه وأضاف قائلاً:

** الامتحانات خلاص قربت يا ماما. ومابقاش فيه وقت.

ربتت الأم على كتف ابنها الشاب وسألته في عطف:

- طيب مش عاوز حاجة أعملها لك؟ مش عاوز تاكل حاجة أو تشرب شاي؟

لم يرد عمر، جذبه تركيزه الشديد إلى سطور الكتاب الذي يطالعه، وفهمت الأم أن إجابة ابنها هي الرفض فغادرت غرفة نومه وأغلقت خلفها الباب وتوجهت إلى صالة الشقة وعلى وجهها علامات الرضا والفرحة بابنها الطالب المتفوق.

في صالة الشقة... كان والد عمر الدكتور بالمركز القومي للبحوث يجلس إزاء شاشة التلفزيون يتابع فيلم السهرة. اقتربت إليه زوجته، جلست إلى جواره، أمسكت بيديه في حنان فالتفت إليها وعلى وجهه ابتسامة صافية قائلاً:

• أخبار عمر إيه... لسه بيذاكر؟

- ربنا يحميه ويوفقه.

• أمل حياتي أشوف ابننا عمر دكتوراً.

وقاطعته الزوجة قائلة:

- هانت. كلها شهور ويتحقق الحلم.

تنهد الأب في راحة وقال:

• الحمد لله. ابننا الوحيد ادينا رسالتنا معاه على أكمل وجه. علمناه أحسن تعليم وربيناه أحسن تربية. واهو كلها كام شهر وهيبقى دكتوراً قد الدنيا.

وقالت الزوجة ودموع الفرحة تترقرق في عينيها:

- عقبال ما تفرح بيه وتجوزه وتشوف أولاده... وأولاد أولاده.

ورد الأب مبتسماً:

• يا مين يعيش... المهم نحقق أول أحلامنا ونشوفه دكتوراً... وبعدها نشوف له العروسة بنت الحلال.

إلى المسجد للصلاة

صباح اليوم التالي...

عقارب الساعة أعلنت الحادية عشرة قبل منتصف نهار يوم الجمعة. والدا عمر جلسا يتجاذبان أطراف حديث آخر... فجأة رن جرس الشقة، وقبل أن تنهض الأم من مكانها لتفتح الباب، انطلق عمر من داخل غرفته قائلاً:

** أنا ح افتح الباب. خليكِ انتِ يا ماما ده أكيد أحمد!

كان توقع عمر في محله... فقد كان على الباب جاره وصديق عمره أحمد الطالب بالسنة النهائية بكلية الهندسة والذي جاء ليصطحبه مثل كل يوم جمعة إلى المسجد ليؤديا الصلاة.

لم ينتظر عمر أن يلقي صديقه أحمد بالتحية على والديه. جذبه من ذراعه وقال مازحاً لصديقه:

** أنت لسه حتسلم. بعد الصلاة ابقَ تعالَ وسلم واتغدَ معاهما كمان.

وانطلق الشابان في خفة يهبطان درجات السلم ليلحقا خطبة صلاة الجمعة في المسجد كعادتهما.

انتظار وقلق

كانت عقارب الساعة تشير إلى تمام الواحدة والنصف ظهراً... ولم يعد عمر ولا أحمد!

انقبض قلب والدة عمر، وتسلل القلق إلى عقل الأب الذي وقف في شرفة الشقة يراقب وصول ابنه الوحيد عمر وصديقه أحمد، خصوصاً أن صلاة الجمعة انتهت منذ ما يزيد عن ساعة... والمسجد قريب من المنزل ولا يستغرق زمن العودة سوى 10 دقائق على الأكثر.

الدقائق تمرّ ثقيلة على والدي طالب كلية الطب عمر.

الشاب على غير عادته لم يخطرهما بأنه سيتأخر هذا الوقت كله... فقد كان ابنهما عمر يعرف جيداً مدى القلق الذي يصاب به والداه إذا تأخر عليهما لذلك فقد كان حريصاً دائماً على طمأنتهما إذا أجبره أي ظرف أن يتأخر كي لا يتركهما فريسة الظنون السيئة والأفكار السوداء التي تداهم رأسيهما... لحظات من الصمت سادت بين والدي عمر وكأنه الصمت الذي يسبق العاصفة. تناقل الدكتور وزوجته النظرات الحائرة الخائفة والباحثة عن إجابة للسؤال المهم:

لماذا تأخر عمر؟!

زاد قلق الأب والأم أنهما اتصلا كثيراً به على هاتفه الجوال والإجابة كانت أن الهاتف مغلق، كذلك جوال صديقه أحمد طالب كلية الهندسة. القلق يكاد يفتك بالوالدين والأفكار السيئة تتأهب لاقتحام رأسيهما ولا إجابة عن سؤالهما الحائر.

جاءت الإجابة أخيراً عبر صرخة سمعها والدا عمر خارج شقتهما... صاحبة الصرخة المدوية كانت جارتهما والدة أحمد التي اندفعت إلى شقة جارتها وعلى لسانها جملة واحدة:

# الحقوا أحمد وعمر في المستشفى!

ارتعشت يدا والد عمر وهو يسأل جارته في هلع:

- حصل إيه للأولاد؟

# مش عارفة واحد كلمني في التليفون قالي ابنك ومعاه صاحبه في المستشفى.

وانخرطت والدة أحمد في بكاء طويل... وشاركتها والدة عمر التي أحست بقلبها يتمزق بين ضلوعها خشية وقوع مكروه لابنها الوحيد.

ابني مات

لحظات... وانطلق والد ووالدة عمر مع جارتهما والدة أحمد إلى المستشفى وراحوا جميعاً يهرولون في ممراتها وعلى لسانهم سؤال وحيد:

- فين الأولاد بتوع الحادثة؟

أحد الأطباء اقترب إلى والدي عمر ووالدة أحمد وأجابهم عن السؤال قائلاً بصوت حزين:

** الولدين بتوع الحادثة. واحد في العناية المركزة إصابته خطيرة جداً... والثاني....

وكادت قلوب الوالدين وجارتهما أن تتوقف، ولم يحتمل الأب صمت الطبيب أمسك بذراعه قائلاً في رعب:

• الثاني ماله يا دكتور؟

نكس الطبيب رأسه في الأرض قائلاً:

** الثاني تلاقوه في المشرحة. البقية في حياتكم!

انصرف الطبيب من أمام الوالدين وجارتهما من دون أن يعرف أحد من الذي لقي مصرعه أحمد أم عمر... كل أم أطلقت صرخة هائلة وقالت في نفس الوقت:

- ابني مات!

ووقف والد عمر زائغ النظرات ولا تقوى قدماه على حمله في مثل هذا الموقف العصيب. ولكن الرجل تماسك قدر استطاعته. سار بخطوات متثاقلة إلى المشرحة. رحلة قاتلة خاضها الدكتور بالمركز القومي للبحوث. أصعب رحلة في حياته كلها فبعد دقائق سيدخل إلى المشرحة ويرى هل الشاب الذي يرقد بها ابنه الوحيد عمر أم سيكون أحمد ابن جارته؟

أمام باب المشرحة، خارت قوى الأب المسكين استند إلى ذراعي عامل المشرحة حتى وصل إلى الجثة المغطاة. كشف عامل المشرحة عن وجه صاحب الجثة ليسقط الأب مغشياً عليه.

القتيل... هو ابنه عمر!

عمر ابن عمره طالب نهائي الطب... الحلم الذي لم يتحقق!

خرج الأب من المشرحة ودموعه تسبق خطواته وبنظرة واحدة فهمت زوجته كل شيء. سقطت بدورها مغشياً عليها بعد أن تأكدت من وفاة ابنها الوحيد عمر. أما الجارة والدة أحمد فانطلقت بكل قوتها لتصل إلى غرفة العناية المركزة حيث يرقد ابنها طالب نهائي الهندسة بين الحياة والموت!

ولم يستطع والد عمر مغادرة المستشفى قبل أن يتعرف إلى تفاصيل الحادث الذي أودى بحياة ابنه الوحيد.

تهالك الرجل على مقعد في غرفة مكتب مدير المستشفى وراح يستمع إلى التفاصيل الأولية والتي جاءت على النحو التالي: وصل عمر وصديقه أحمد إلى المستشفى بعدما صدمتهما سيارة مسرعة في شارع السودان بالمهندسين. عمر كان جثة هامدة، وأحمد مصاباً بكسور عدة وحالته خطيرة جداً!

لم تتوافر معلومات أكثر من ذلك داخل المستشفى، فانطلق الأب إلى قسم شرطة العجوزة ليتعرف إلى تفاصيل أكثر... جلس في غرفة مكتب رئيس المباحث يستمع إلى ما جرى لابنه عمر وتفاصيل الحادث. قال الضابط من خلال محضر التحريات:

- عقب انتهاء صلاة الجمعة، فوجئ المارة بشارع السودان بحي المهندسين بسيارة ميكروباص مجنونة تقتحم الرصيف ولم يستطع سائقها إيقافها. اصطدمت مقدمتها بعمر أولاً فسقط تحت إطاراتها وسحبته مسافة عشرة أمتار تحتها قبل أن تصطدم بصديقه أحمد وتدفعه بعيداً عن طريقها. ثم اختلت عجلة القيادة تماماً في يد السائق فاندفع محطماً عدداً من السيارات الأخرى الواقفة بجوار الرصيف وتوقف أخيراً بعد اصطدام السيارة الميكروباص بأحد أعمدة الإنارة.

وأضاف ضابط المباحث قائلاً:

- المارة أمسكوا بسائق السيارة المجنونة ونقلوا الشابين المصابين إلى أقرب مستشفى، وكانت المفاجأة إذ تبين أن سائق الميكروباص القاتل شاب في الثامنة عشرة من العمر ويعمل فكهانياً وليس سائق سيارة ولا يحمل رخصة قيادة. اعترف بأنه استلم السيارة من صاحبها الأصلي ليلتقي إحدى صديقاته وقت صلاة الجمعة على أن يعيد السيارة بمجرد انتهاء اللقاء. ولكن شقيق صديقته شاهدهما مصادفة يستقلان السيارة الميكروباص وراح يطاردهما في الشوارع ولم ينجح الفكهاني القاتل من الإفلات منه، ما دفعه إلى زيادة سرعة السيارة، فيما راحت صديقته تصرخ طوال المطاردة وتقول إن شقيقها سيقتلها إذا لحق بهما وحاولت أن تتوارى عن عيني شقيقها بأن نزلت إلى دواسة السيارة الميكروباص... الأمر الذي أدى إلى السرعة الجنونية، إذ اختلت عجلة القيادة من يدي السائق فوقع الحادث.

محاكمة

قررت النيابة العامة إحالة الفكهاني القاتل إلى محاكمة عاجلة بتهمة القتل الخطأ وإصابة آخر وقيادة سيارة من دون رخصة.

وإزاء محكمة جنح العجوزة التي عقدت برئاسة المستشار خالد الشباسي وبحضور تامر الفنجري وكيل النائب العام وسكرتارية أحمد السعيد، أعاد المتهم اعترافه بارتكاب الحادث مؤكداً عدم وجود صلة بينه وبين الشاب القتيل والشاب الآخر المصاب، وإن الحادث وقع قضاء وقدراً.

جلس والد ووالدة الشاب القتيل عمر الراحل والدموع تملأ عيونهما يستمعان إلى قاتل ابنهما الوحيد وهو يؤكد أنه لم يقصد ذلك وأنه لا يعرفه ولا يعرف صديقه أحمد.

وفي نهاية الجلسة، قررت المحكمة معاقبة الفكهاني المتهم بأقصى عقوبة في القانون تجاه مثل تلك الحالات وهي الحبس خمس سنوات مع الشغل والنفاذ وتغريمه مبلغ ألفي جنيه وإلزامه بتعويض مؤقت 2001 جنيه للمدعين بالحق المدني.

وقال القاضي في حيثيات الحكم إنه يناشد المشرع بتغليظ العقوبة في مثل هذه الجرائم التي تطفئ الفرحة في قلوب الأمهات والأباء أسوة بالتشريعات الموجودة في سائر دول العالم المتقدمة التي تعاقب قوانينها في مثل تلك الحالات بعقوبات عنيفة تصل إلى السجن عشرات السنين والحرمان من قيادة السيارة طوال العمر.

لقاء عاطفي تسبب في قتل طالب كلية الطب

طالب كلية الهندسة يواجه إصابة خطيرة ويدخل في غيبوبة

الأب والأم جلسا والدموع تملأ عيونهما يستمعان إلى قاتل ابنهما
back to top