رحلة الأهوار وحنين الماضي في ليلة احتفاء الناصرية بإسماعيل الفهد

نشر في 14-05-2018
آخر تحديث 14-05-2018 | 00:03
كانت «أمنية» وصارت حقيقة لحظة سلكنا طريق الأهوار بمدينة الناصرية، فبدعوة كريمة من «اتحاد أدباء الناصرية» كنت أنا والأستاذ اسماعيل فهد اسماعيل على موعد لزيارة الأهوار التي طالما حلم بها.
بين بيوت اُنشئت من قصب البردي واتسمت بتصاميم حديثة أفقدتها رونق الأمس، ولم تلامس شغفي أنا الذي اعتاد أن يجلس في ظل مضيف فرحان الرميض الكبير، وأقواسه العظيمة، والتي كان القصب مادتها سعفاً أو حصيراً للجلوس (باريه)... القلق يتسرب إلى أنفسنا لأننا على أبواب منطقة الفهود والأرض جرداء. الأشخاص الذين يرافقوننا أوضحوا لنا صورة قلقنا، وأننا سنصل إلى هور الجبايش الذي يمتلئ خضرة وماء.

الجبايش كان يحتفظ برونقه وبهائه، أشار لنا مرشدنا السياحي وقائد المشحوف (زورق صغير) بأن نتخذ أماكننا حسب ما يرتئيه هو لحفظ التوازن.

سار ولكن هذه المرة ليس كما سبق، فكان المردي (عصا طويلة) وسيلة القيادة، كذلك استعان بالمحرك كي يعينه على القيادة ولنصل إلى الهور في وقت أقصر، واحتفظ بالمردي للطوارئ، فربما نفد الوقود أو أصابنا طارئ.

سار بنا المشحوف وأنا الباحث عن علامات تدلني على تاريخ لم يمض عليه ردح بسيط من الزمن قياساً بعمق زمن الأهوار وتاريخها.

حكاية الخلود

أعرف أنها أرض سومر وأعلم أن كلكامش انطلق من هنا للبحث عن سر الخلود، كذلك انكيدو حل في هذا المكان، وأنانا آلهة الخصب صالت وجالت، وأعرف أن الأمويين والعباسيين كرهوا الأهوار وحاولوا تجفيفها، كي لا تنطلق حركة تمرد من هنا، وظل بنو العباسيين يرقبون الهور كي لا يقوم الزنج بثورة أخرى، وقد ورث الطغاة في عصرنا هذا الأمر عنهم.

لكنني أبحث عمن اختفى بالأمس هنا... الهواء يستقبلك بترحاب بنسماته الرقيقة، لكني أسمع من خلال ارتطام المشحوف بالماء وتمايل الجولان والبردي (نباتات الهور)، أصواتاً كأنها تحكي لي حكاية الخلود، فالجثث التي طافت على وجه الهور، عادت لتكون حكاية ثورية تتناقلها الأجيال وتصبح تاريخاً يذل الطغاة. فالطاغية ويوم قرأ التاريخ وجد أن الثوار من زمن العباسيين استوطنوا هناك، فها هو وبعد أن انسحبت القوى اليسارية والثورية إلى الهور، لا سيما أن الكفاح المسلح الذي أصبح طريقاً لفصيل من الشيوعيين العراقيين، كان كالخنجر في خاصرة النظام، فصب جام غضبه عليهم واستخدم كل وسائل القوة لإسكات صوت الحق، ويوم جاءت انتفاضة عام 91 واتسعت رقعة المقاومة، فأمر بحرقهم لا بل وصل به الأمر بعد أن يئس إلى تجفيف الأهوار.

ما زلت متناغماً مع الأصوات، فلي بالأمس رفاق سكنوا هنا ولم يعودوا. انبجست من عيني دمعة قفزت إلى الماء، لكن حركة المشحوف وارتطام الماء أعادا لي دمعتي وكف ماء بارداً توضأ به وجهي، وكأن رفاقي ردوا عليَّ التحية بأكبر منها.

سوق النخاسة السياسية

وأنا في حلم اليقظة هذا، بعدت عن رفاق رحلتي وكأنني هبطت من المشحوف لأسامر من فقدتهم، وبعد حديث طويل وجدت لا بد من إخبارهم بأن تضحياتهم بيعت بسوق النخاسة السياسية، من بعض قادتهم أو من تاجر بدمهم من أهلهم.

يا رفاقي إن نصب الحرية الذي انطلقتم من ساحته أصبح سوقاً تجارياً ومطاعم يتناول بها الأطفال منتجات دول التحالف، أما المذبح الذي سالت دماؤكم عليه فبات مقهى يجتربه الثوريون ذكرياتهم وآهاتهم، وتلك البقعة الطاهرة من الأرض والحديقة الغناء التي جمعتنا لمناقشة رواية أو الدراسة للامتحان صارت مكب نفايات. أما المسرح الذي كنا ننقل على خشبته هموم الناس وهمسهم فقد هجروه.

وسياسيو المصادفة الذين قدموا وهم يتفاخرون بجنسياتهم الحديثه، فهؤلاء جاؤوا بمشروع جديد، هو تدمير العراق وشراء الذمم ودمائكم، وما سهل عليهم هذا جهل بعض أهالينا. أحبتي ليتني لم ألق على مسامعكم هذا البلاء، ولكن اطمئنوا ثمة من لا يزال ينشد عراقاً موحداً وسعيداً.

أيقظني صوت الأستاذ اسماعيل: انظر إلى هذا الصرح الفضي الكبير والمطل على الهور إنه نصب الشهداء.

غرفت من ماء الهور النقي كف ماء كي ألملم ذكرياتي وحديثي، مستعداً للعودة مع رفاق سفرتي.

back to top