ما الذي أفقد بفقدان الموسيقى؟

نشر في 06-05-2018
آخر تحديث 06-05-2018 | 00:00
 فوزي كريم جئتُ الموسيقى محكوماً بالطبع، وهذا يحدث مع مرحلة الصبا. ولكني تعلمت أن أصحبها، طوال سنوات العمر، طمعاً في الخبرة والمعرفة. وهما اللذان حفّزاني لكتابة عدد من الكتب فيها ومئات من المقالات. ولكني أشعر أن وراء هذا الحافز للكتابة حافزا للسؤال: ما الذي كان يمكن أن أفقده بفقدانها؟ ولقد انتشر هذا السؤال في كل ما كتبت، موجها إلى النفس حيناً، وإلى الكتّاب الآخرين معظم الأحيان. ما الذي فقدوه بفقدان الموسيقى كمصدر من مصادر معارفهم وخبراتهم؟ طبعاً، ما من أحد سيستشعر هذا الفقدان، ما دامت الموسيقى ليست لغة الكتابة والقراءة، أداة تعاملهم الأولى والأخيرة.

نعم، هناك وفرةٌ من الموسيقى الشعبية في حياتهم العامة. ولكن هذه الوفرة، كوفرة الطعام الذي يسد غائلة الجوع الفيزيائي، لا تشكل مصدراً من مصادر المعرفة والخبرة في عالمهم، عالم الكاتب. ثمة مستوى أعلى في الفكر والفن يتطلبه عالم الكاتب هذا، حتى في خضم الإنتاج اللغوي الذي خُص به، حين تصبح اللغة شعراً، فناً نثرياً، أو فكراً. إنه لا يستطيع أن يتعامل مع مستوى الخبرة والمعرفة كما يتعامل الانسان العادي. إنه يتطلب شيئاً يتسم بالعمق.

ما الذي يجعل شاعراً مثل ريلكة يخاطب الموسيقى قائلاً:

"الموسيقى: تنفّس المنحوتة. صمتُ اللوحة./ اللغةُ حيث تتوقف اللغات.

مشاعرٌ لمن؟ ولأيٍّ تتغير؟ إلى مناظر مسموعة.

كم غريبة أنت، أيتها الموسيقى. يا قلبنا الذي تجاوزنا./ ياذاتنا الأكثر داخلية، التي تتجاوزنا، أيتها الوداع المقدس:/ الآن ما هو داخلي يحيط بنا، وبممارسة أكثر، كالجانب الآخر من الهواء: صاف،/ هائل لم يعد صالحاً للسكنى".

الموسيقى هنا تتجاوز بنا حدود تصوراتنا المادية المعتادة، إلى ما هو روحي يفلت من قوانين الفيزياء، تماماً مثل تجاوزها في التصوف الاسلامي، وريلكة عميق التأثر به. هنا تتنفس المنحوتة، وتُسمع المناظر الطبيعية.

هذه حاجة ملحّة عند ريلكة، وعند كل شاعر وكاتب، لفنٍ يتمتع بهذه القدرات الجدية. إنه فن جدّي، شأن الرواية الجدية، والسينما الجدية، والرسم الجدي. وهذه الفنون مصادرٌ لا غنى عنها في حقل المعرفة والخبرة.

والآن أعود إلى تساؤلي الأول: ما الذي فقده هؤلاء بفقدان الموسيقى؟ إن مصادر المعرفة والخبرة لديهم تبدو في الظاهر كافية دونها. كافية لأن تجعلنا نكتب بغنى وبرضا. ولكن ثمة شيء غير مباشر وملموس مفتقد في عملية الكتابة هذه. بذلك توسوس لي خبرتي الشخصية مع الموسيقى. شيء يومض كاجتهاد، يكاد يكون يقيناً.

أعرف أن الموسيقى، بالإضافة إلى أنها الفن الوحيد الذي لا يعتمد وسيلة مادية في التأليف شأن الكلمة، اللون، الحجر... إلخ، ذات خصيصة خاصة أخرى، هي أنها محض رموز موات، لا حياة فيها إلى أن تلتقطها الأذن من الحنجرة والآلة الموسيقية، فتُبعث حية. هذا الأمر لا يتم مع الكتابة، والتشكيل، والنحت. وهذا يعني أن الموسيقى هي الفن الوحيد الذي يُبعث ويحيا بالتواصل؛ بالتماس الفيزيائي مع الإنسان المتلقي. وجودُها يتحقق مع حنجرةٍ أو آلةٍ تُعزف، وأذنٍ تصغى. وهذا التماس الذي يبعث الحياة، وينقل التجريد الذهني إلى ملموس حي يعتمل داخل مشاعر الكائن الإنساني، لابد من أن تنتقل عدواه إلى الشاعر والكاتب، الذي اعتاد تحويل المحسوسات، عبر الكلمات، إلى رموز أو صور (أطفال وسواعد الرجال في قصائد كثير من الشعراء ليسوا بالضرورة وجوداً أرضياً حياً بل قد يكونون محض كلمات مجردة رمزية). بمعنى آخر، علّه يكون أكثر وضوحاً، أن الشاعر حين يكتب قد لا يشغله أمر التواصل مع الإنسان القارئ قدر ما تشغله قصيدته على الورق. الموسيقي يحتاج، لكي يؤلف، أن يتمثل تواصلاً مع إنسان حيّ الاستجابة، والذي سيتحقق لحظة العزف.

الشاعر والكاتب يفقد، بافتقاده الموسيقى، الإحساس بضرورة تواصل كهذا مع القارئ كإنسان. إنه يملك القدرة على تحويله إلى أداة رمزية لعملية القراءة. ولذلك يبدو اللعب اللفظي، والمخاتلة والاحتيال فاعلية مشروعة، حين توجَّه إلى تجريد لا حياة فيه.

back to top