ضحى عبد الرؤوف المل: «زند الحجر» توثيق لأمكنة غامضة في طرابلس

الرواية تعكس مشهداً اجتماعياً في مناطق تئن وتحتاج إلى إعادة رؤية إصلاحية

نشر في 04-05-2018
آخر تحديث 04-05-2018 | 00:03
ضحى عبد الرؤوف المل
ضحى عبد الرؤوف المل
في روايتها «زند الحجر» الصادرة عن «دار الفارابي» تجعل ضحى عبد الرؤوف المل النص الروائي يكتفي بذاته للحفاظ على استراتيجية السرد وتصوير الواقع من خلال اللغة وأسلوب البيئة الاجتماعية الفقيرة التي تضعنا فيها، وهي حارات طرابلس اللبنانية القديمة وشخوصها التي تشهد على التاريخ والمجتمع. إذ تجبرنا على التوقف لنتساءل: هل الأشخاص حقيقيون فعلاً كالأمكنة التي تذكرها؟ ربما، لابتكار متعة القراءة الروائية التلقائية المحيرة بين ما هو خيالي وغير خيالي، الواقعي وغير الواقعي، كأنها تخفي البؤس الاجتماعي وراء حجاب من الخيال الروائي، لنقف عند الخط الفاصل بين الواقع والخيال أو للإمساك بزند الحجر واستكشافه.

ماذا تعنين بالعنوان «زند الحجر»؟

زند الحجر برمزيته هو الواقع في الخيال الروائي الذي يجمع بين القساوة واللين وذاكرة الحاضر والماضي، من خلال المسافات بين الأجيال، أي جيل أبي أحمد وعبد الغفور، وجيل رؤوف وخدوج، وجيل هدى وخطيبها، والحاجة إلى العاطفة التي يبحث عنها رؤوف يتيم الأم والأب، لأن اليتيم الحقيقي هو يتيم الأب الحي.

«زند الحجر» هو الحجر المستطيل الذي يستعمل لعتبات البيوت الحجرية، كان رؤوف يلفه بقطعة من قماش وينام عليه في بيت خالته الكوشارية. كذلك يُستخدم في سن السكين التي يقص فيها صانع الأحذية الجلد، إضافة إلى عصا العمة القوية التي تقدح كزند الحجر أي عند ضرب الأحجار ببعضها البعض وشرارة النار الأولى.

«زند الحجر» ببساطة هو زند الرواية الواقعية في مناطق غامضة وشرارة معرفتها. لغز شخصية عفاف المستفزة هو الطرف الاجتماعي الذي شكل الأقلية النادرة ونسأل أين هو اليوم؟ يدفع ذلك كله القارئ إلى التوغل في الأماكن التي ما زالت خراباً أو هي الشاهد الحي على الأزمنة والأمكنة والوضع الاجتماعي في حارتي «البقار والتنك»، بشمال لبنان بالذات.

رواية وتوثيق

روايتك الجديدة «زند الحجر» توثيق للتغيرات في المجتمع الطرابلسي في الربع الأخير من القرن الماضي، ما القصد من المزج بين التوثيق والرواية؟

أولاً، هي توثيق لحارتي «البقار والتنك» ولبقية الأمكنة الغامضة في طرابلس أو الشمال اللبناني عموماً. كانت حارة «التنك» عبارة عن بيوت مغطاة بسقوف من التنك، وبعض البيوت الأخرى، وفيلا لأبي فيصل كما أظن اسمها، وهي حارة تشع بالياسمين الأبيض، وفرن «أبو عشير» الذي يشتري سكانها من الأديان والمذاهب والجنسيات المتنوعة الخبز منه، وهذا ما قصدته من ذكر الفرن الحقيقيّ في المكان، والخياليّ في إعادته إلى الحياة الروائية، ليكون ملجأ الطفل محمود المصاب بالتوحد نوعاً ما، ولم يكن هذا المرض معروفاً في بيئة شعبية فقيرة تعاني الجهل الأسري.

لأشير إلى مساوئ العصر المعاصر كان لا بد من إعادة الماضي، وتوثيق مراحل زمنية لأحداث مهمة مضت، إضافة إلى بساطة الفقراء في الأحياء الطرابلسية وحتى عكار، وكي أطرح سؤالاً مفتوحاً إيحائياً: إن كانت حارة «التنك» في الماضي كما تناولتها في الرواية فكيف ستكون بعد ثلاثين سنة؟ هدى التي تنتمي إلى العصر الحالي في الرواية زارت خالتها التي تقطن البيت الوحيد في الحارة، وأمكنة أخرى كبيت عبد اللطيف في حارة «البقار».

في مستهل الرواية كتبت ملاحظة أنها خيالية، في وقت ترصد نبض مدينة بأحوالها كافة، أين هامش الخيال وأين هامش الواقع؟

صحيح، لتمرير رؤية واقع أصبح أسوأ من الماضي بكثير، وإن كان رؤوف بنى الأسرة، وابنته هدى أحد أركانها، بعد حياة خاضها بيتم وقساوة ومرارة، والمقارنة هنا مخفية بين الأزمنة والأمكنة التي ما زال بعضها قائماً، منها ما بقي في حالة خراب ومنها يصلح للسكن كعشوائيات، وصولاً إلى اليوم، فالواقع هو الحياة التي عاشها هؤلاء والخيال هو ما عاشه أبطال الرواية، وما بين هذا وذاك نبض المدن والقرى من عكار إلى طرابلس وبيروت فالكورة وسواها...

كيف يمكن للشخصيات أن تكون خيالية في وقت تستلّ الرواية أحداثها من الواقع والروائي ابن بيئته يتأثر بها بوعيه أو بلا وعيه؟

هي استحضار لشخصيات تركت أثرها في النفوس مثل الداية الكوشارية، المرأة العكارية التي تتناقض شخصيتها مع شخصية أختها عائشة التي نزحت إلى مدينة طرابلس مع زوجها لتموت فيها وهي تلد، وهي أيضاً استحضار لسائق المرسيدس حسن صبحة الذي كان ينقل بنات الحجة من المدينة إلى القرية وبالعكس، واستحضار للفران «أبو عشير» الذي كنا ننتظر رغيفه في حارة «التنك». الفرن اليوم خراب قابع في حارة لم تعد تشبه تلك التي في الماضي، وإن بقيت أسماء الأمكنة في ذاكرة نعتصرها لنتذكرها، رغم أنها موجودة. وأنا ابنة حارة «البقار» فعلاً، ولدت فيها عام 1967 وترعرعت وما زال بيت العائلة قائماً فيها، وشهدت شيطاناتي الطفولية بين فرن «أبو عشير» وياسمين حارة «التنك»، قبل أن تدمر الأخيرة أثناء الحرب بين جبل محسن والتبانة، ولم يتمّ إعمارها كما يجب لغاية الآن.

رؤية مزدوجة

هل يمكن القول إن الرواية دراسة اجتماعية لمدينة عاشت حروباً متعاقبة وبقيت صامدة في وجه المحن وتنبض بالحياة؟

نعم هي رواية اجتماعية وتصوير نوعاً ما لأحياء فقيرة في طرابلس من خلال عائلة عبد الغفور الذي لم يشعر بالانتماء لا إلى عائلته ولا إلى حارته التي غادرها إلى الزاهرية، المنطقة ذات الطبقة الوسطى آنذاك. كذلك رصدت حالة الأطفال النفسية من فاطمة التي ظلمت من أبيها قبل زوجة أبيها إلى الأخ الأكبر الذي نشأ على المسؤولية وحمل الأبوة طفلاً ليرعى رؤوفاً حتى بعدما كبر، وصولاً إلى الأخ الأصغر الذي انتحر وهو في الحقيقة انتحار للماضي الذي لن يعود، وعفاف التي اختفت فجأة بعدما عشقها رؤوف من دون أن يسأل عن هويتها أو دينها أو مذهبها، وهي أيضاً الهوية التائهة في المناطق كافة، أو بالأحرى هي الفئة الغامضة التي نتساءل اليوم أين هي بعدما كانت موجودة في الماضي الذي خرجت منه الرواية في الزمن المعاصر.

إلى أي مدى تعكس الرواية رؤيتك الأنثوية للأمور الحياتية ورسم الشخصيات خصوصاً أن الرواية بطلتها هدى؟

هي رؤية ازدواجية للذكر والأنثى، لأن هدى روت حكاية أبيها، وهي هنا الرجل والمرأة، أي قساوة عبد الغفور وطيبة أبو أحمد وقساوة الجدة وطيبة العمة وطيبة الأم الحنون وقساوة الأم الأخرى حتى على أولادها، فما من تعميم لرجل أو امراة. تختلف الأنفس الطيبة والخبيثة في الحياة، وما رسم الشخصيات الروائية إلا الرسم الواقعي لمجتمع نعيش فيه، وندرك أن ذلك جزء من مشهد اجتماعي في مناطق تئن اجتماعياً وتحتاج إلى إعادة رؤية إصلاحية أقوى من رؤية الرواية بكثير، لأن ماضيها أجمل من حاضرها المعاصر، رغم كل الوجع والحب والحروب فيها.

«زند الحجر» ببساطة هو زند الرواية الواقعية
back to top