حمام الدار

لرواية "حمام الدار" عنوان فرعي وهو "أُحجية ابن أزرق". والأحجية كما هو معروف لعبة عقلية تتنكب الغموض وجرّ المتلقي إلى متاهة قد تكون مدعاة للإثارة أو الضجر، كلٌ وفق استعداده. سترى كيف يراوغك الكاتب، فلا تعرف من هو بطل الحكاية؟ هل هو "عرزال" أم "منوال"؟ وهل المتلامح في أول الرواية، مؤلف حقيقي؟ أم مؤلف ضمني؟ وهل "رحّال" و"زينة" فرخا حمام؟ أم أخَوَان مفقودان؟ أم توأمان غريقان؟ وهل "قطنة" معزاة؟ أم فتاة مغرية؟ أم "عبدة" من عبيد الدار؟ وهل "فيروز" حمامة الصبي؟ أم أمه؟ طبعاً لا أعني أن القارئ لم يفهم القصد من هذه الرؤية المتعددة الزوايا لذات الشيء، طبقاً لاحتمالات عدة، وروايات شتى، لكن الانفتاح على الاحتمالات والروايات، بدا لانهائياً ومشاعاً. ويستطيع الكاتب أن يُكمل زوايا الرؤية لشخصية "عرزال" أو "منوال" في عشرات النسخ، ما دامت المخيلة تغذي هذا الطموح.وكما اشتغل الكاتب على تقنية المرايا المتعددة الوجوه، اشتغل أيضاً على تقنية التداعي وتقاطع الأزمنة. فلكل حكاية ماضٍ وحاضر. في الحكاية الأولى يبدو "عرزال" في ماضيه صبياً موزع الفؤاد بين التصاقه الوجداني بحماماته و"جدته" الطاعنة ومعزته، وبين أب معجون بالغلظة والغموض. وفي نسخته الأخرى (منوال) يغوص في ذات المنطقة الهلامية من التعلق بأشباح اخوته البعيدين، وأمه الفقيدة، وانجذابه لـ"قطنة" العبدة، التي يقضي منها أبوه وطره متى شاء. أما حاضر الشخصية، فقد تقاربت فيها نسختاه. إنه الشبح المسكون بأوجاع ماضيه وخيبات حاضره، كطلاقه، وفقده لتوأميه غرقاً، وعيشه رفيقاً للعزلة والفراغ والميول الانتحارية. أما بقاء النهاية، أو بالأحرى النهايات مفتوحة، ففيه إشارة إلى رغبة الكاتب في ترك القارئ على حافة الانتظار والتحفّز. تماماً كما ترك "عرزال" أو "منوال" واقفاً على حافة النافذة، دون أن يتمم المشهد بالقفز منها. من الأمور اللافتة، أن الكاتب ضمَّن روايته رسوماً ولوحات تعبيرية داخلية، بما فيها صورة الغلاف. وكلها، كما تشير المعلومات، بريشة الفنانة مشاعل الفيصل. هذه الإضافة قد تأخذ القارئ إلى آماد أخرى من التناصّ بين الكتابة والرسم. ويبدو أن الرسامة كانت لها قراءتها الخاصة أيضاً للرواية، حين اعتمدت أسلوباً أقرب إلى الكاريكاتير الساخر، لكنه كاريكاتير يبوح بكوميديا سوداء، حين بدت الرسوم كئيبة ومضمحلة في خلفية باهتة، ومستجيبة لألوانها المائية الذائبة في الفراغ. أما مدى التواؤم بين نص الكاتب وقراءة الرسّامة له، فمتروك لحُكم المتلقي.