كاليسكا

تدور الحكاية حول قضية الهوية الإنسانية، وأثرها البالغ في التكوين النفسي، وفي تشكيل الرؤية الخاصة للذات وللآخر. الصراع الذي تدور رحاه في الرواية نابع من هذا الإحساس العميق بمعنى الهوية، والخوف من كل ما يزعزع إطارها أو يخدش جوهرها. فعبدالرحمن اليزّاز، أخو الفتاة، يركن إلى صيت جدّه لأمه، الرجل الوجيه والتاجر المعروف، الذي حضنه منذ طفولته. منه استمد الهوية والنفوذ والمركز الاجتماعي والوظيفي، لكنه في الوقت ذاته يعاني الضعف والهشاشة من جهة أبيه: صالح اليزّاز، طبقاً للنظرة التقييمية لمجتمع يقيس قيمة الإنسان بنسبه وعشيرته. وصالح هذا كان مجرَّد صبي عامل عند الجدّ، فرَّ في صباه من البصرة، تجنباً للفقر وشظف العيش، ثم اضطر التاجر الوجيه أن يزوجه من ابنته التي أغوته، منعاً للفضيحة. وهكذا، نجد الاثنين ضحيتين لقلق الهوية. اليزّاز يخشى أن ينكشف في جانبه الأضعف، فيتمسك بمظاهر السطوة والجاه التي وفرها جدّه لأمه، ثم يستميت في الدفاع عن هذه المكتسبات، برفض تزويج أخته من طبقة اجتماعية ستجرّهم إلى الحضيض. بل يتحول الرفض إلى حرب طاحنة إزاء كل ما يهدد هويته العائلية، فيرتكب الكثير من المآثم في حق العوّاد، مدججاً بموقعه العسكري الرفيع في أمن الدولة، منها حرمانه من التجنيس، ثم إهانة عمه علناً، ثم تعريضه للضرب والسجن، وأخيراً ترحيله عن البلاد عنوة. في المقابل، اختار العوّاد أن يخوض هذه الحرب إلى نهايتها. في البدء كان الأمر دفاعاً عن حبه للفتاة، ثم أخذت الأمور تنحو نحو الانتقام، والرغبة في الدفاع عن الكرامة المهدورة. وهكذا يتقلص الحب، ويضطرب، ويأخذ العوّاد نحو انعطافات أخرى، والدخول في علاقة سهلة مع رفيقته في السكن (ستيفاني) أو (كاليسكا)، وهو اسمها الثاني، بعد ترحيله لاجئاً إلى كندا.حين بروز اسم "كاليسكا" في هذه المرحلة من السياق، يمكن للقارئ أن يفهم الإسقاط المُراد من وراء توظيف اسم الفتاة عنواناً للرواية. لكن ربط اسم كاليسكا، ومعناه الذي يشير إلى "القيوط يطارد غزالاً"، يبدو لي ضعيف الصلة بمجريات الأحداث الماضية والآتية التي عاناها البطل، إذ ما علاقة "ستيفاني" أو "كاليسكا" بماضي العوّاد المؤلم أو نهايته المأساوية، وخاصة أن علاقته بها بدت هشّة ومضطربة وشابها الكثير من سوء الفهم والفجوات الثقافية؟ تنتهي الحكاية باستدراج اليزاز إلى حتفه، وردّ الإهانة، وبقاء أوزار الهويات القاتلة وجروح الكراهية تنزّ دماً. فقد انتهى الحب، ومات اليزّاز، وبقي العوّاد هائماً على وجهه في غابات كندا، يطارد أشباح ماضيه ومستقبله المظلم.اشتغل الكاتب على تقنية الأزمنة المتقاطعة، وعوّل في ترتيبها على يقظة القارئ وفهمه للسياقات. كذلك أزحم الرواية بالتقسيمات إلى فصول وأجزاء وعناوين، ومعظم هذه الجهود لم تشكل مداميك صلبة لبنية الرواية. فقد سارت الرواية بشكل سلس ومطّرد، سواءً بوجود هذه التقسيمات والعناوين أو من دونها. أما اللغة، فقد اجتهدت أن تكون بمستوى واقعية الأحداث، وإن غلبت عليها طلاوة المشاعر في بعض المواقع التي تستدعي ذلك، فأتت مزيجاً مقنناً بين الواقعية والحلمية المتقشفة.