الحاجة إلى جهود سلام جديدة في شرق أوكرانيا

نشر في 27-01-2018
آخر تحديث 27-01-2018 | 00:00
طوال السنوات الثلاث الماضية، مرت مقاربة الغرب إلى الصراع في شرق أوكرانيا عبر اتفاقيات مينسك، إلا أن روسيا تزعم اليوم أن قانوناً أوكرانياً جديداً يقوّض الصفقة، لكن الوقائع تشير إلى أن صفقة مينسك انهارت منذ زمن، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى أن ألمانيا وفرنسا، اللتين ساهمتا في المفاوضات بشأنها، لم تبذلا أي جهد لتطبيقها، وقد آن الأوان اليوم لتضطلعا بدور أكثر فاعلية.

يعتبر القانون الأوكراني، الذي قدّمه الرئيس بيترو بوروشينكو الخريف الماضي ومرره البرلمان، دونيتسك ولوهانسك «منطقتين محتلتين مؤقتاً»، يصف روسيا بالقوة المحتلة، ويصنّف «الجمهوريات الشعبية» التي أُقيمت في شرق أوكرانيا إدارات تابعة للاحتلال الروسي، لا يأتي هذا القانون على ذكر اتفاقيات مينسك مطلقاً، بالإضافة إلى ذلك، سيواجه كل مَن يتعاون مع إدارات الاحتلال تهماً جنائية بموجب القانون الأوكراني، ومن بين كل الوثائق التي تُصدرها هذه الإدارات، لن تعترف أوكرانيا إلا بشهادات الولادة والوفاة. علاوة على ذلك تُعتبر روسيا المسؤول الوحيد عن أي أذى يلحق بالناس أو الممتلكات في المناطق المحتلة، ويملك الرئيس الأوكراني بحكم الواقع صلاحيات مطلقة لتنفيذ أي نوع من العمليات العسكرية وعمليات تطبيق القانون في تلك المناطق من دون أن يعلن رسمياً تطبيق القانون العرفي، علماً أن هذه خطوة يعتبرها بعض المشرعين الموالين لأوروبا غير دستورية.

استبعدت صفقة مينسك، التي وُلدت قبل ثلاث سنوات، محاكمة مَن عارضوا أوكرانيا في هذا الصراع، كذلك دعت إلى عقد انتخابات في المناطق التابعة للثوار بموجب قانون خاص تعهدت أوكرانيا بتمريره، ومن ثم إعادة فرض سيطرة الحكومة الأوكرانية على الحدود الشرقية بعد يوم من الانتخابات، كذلك وعدت أوكرانيا بتعديل دستورها لمنح المناطق الشرقية وضعاً خاصاً والاستثمار في تعافي تلك المناطق الاقتصادي، لكن القانون الجديد الذي مُرر ينقض كل هذه الوعود. على العكس هدفه الأول تحديد إطار عام بغية ملاحقة روسيا قانونياً عندما تستعيد أوكرانيا بطريقة أو بأخرى «المناطق المحتلة».

جاء رد روسيا سريعاً وقوياً، فقد وصفت وزارة الخارجية في موسكو هذا القانون بـ»التحضير لحرب جديدة»، وأعلنت هذه الوزارة، مشيرة إلى مجموعة المفاوضين التي شملت قادة من أوكرانيا، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا: «تدفن كييف الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في مينسك وآلية الخروج بإكمالها والتي تتيح السعي وراء حلول يقبلها كلا الطرفين بغية حل أزمة أوكرانيا الداخلية، بما فيها مجموعة صيغة النورماندي».

لا تعلّق الولايات المتحدة آمالاً كبيرة على صفقة مينسك. صحيح أنها تشيد بها ظاهرياً، لكن المبعوث الخاص الأميركي كورت فولكر أصاب عندما أشار إلى أن الصراع بين الأطراف ما زال دائراً، مع أنه كان يُفترض بهذه الصفقة أن تنهيه. إذاً لم يكن القانون الأوكراني هو ما «قوّض» صفقة مينسك، بل تُعتبر روسيا المسؤول لأنها أخفقت في إنجاح وقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة عن خط الفصل.

نتيجة لذلك لا نملك راهناً أي خطة حل لشرق أوكرانيا معترف بها دولياً، ولم يحقق بوروشينكو أي هدف بخطوته هذه غير السعي بدعم من البرلمان إلى ملء الفراغ والمطالبة بسلطة مطلقة.

لكن الصراع لا يُحلّ بهذه الطريقة، فالحل العسكري مجرد وهم: لن تتمكن أوكرانيا، مهما كانت الظروف، من إنزال الهزيمة بروسيا، التي تحتل المرتبة الثانية بين القوى العسكرية حول العالم، فضلاً عن ذلك سيرى العالم في إنهاء دعم موسكو القوات الموالية لروسيا في أوكرانيا هزيمة؛ لذلك لم يحقق القانون الأوكراني أي هدف غير التمهيد لحالة من الجمود طويلة الأمد، قد يكون هذا الوضع ملائماً للولايات المتحدة لأنها لن تحقق أي مكاسب من الضغط على بوروشينكو ولا تملك أي تأثير في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن أوروبا لا تستطيع تحمل كلفة استمرار هذا الوضع على حاله، فأوكرانيا قريبة جداً جغرافياً، لذلك يجب ألا يسمح الأوروبيون لعدم الاستقرار والسأم الاقتصادي بأن يطولا فيها، وبخلاف الولايات المتحدة، تحمل أوروبا أوراقاً قوية تستطيع من خلالها التأثير في أوكرانيا وروسيا على حد سواء.

عندما تشكّل ألمانيا حكومتها، على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يحاولا إعادة إحياء مينسك، معتمدَين على استعداد بوتين من حيث المبدأ للسماح بنشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في شرق أوكرانيا. كذلك من الممكن، حسبما يُفترض، دعوة الأمم المتحدة إلى تنظيم انتخابات نزيهة لنحو ثلاثة ملايين ما زالوا يقطنون المناطق التي مزقتها الحرب ولنحو ثلاثة ملايين آخرين هربوا إلى أجزاء مختلفة من أوكرانيا وروسيا وأوروبا. تستطيع قوات حفظ السلام ضبط الأمن والنظام خلال عملية الاقتراع، فيما تحرص منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي كانت تراقب وقف إطلاق النار المتقلقل، على حسن سير الانتخابات وعملية فرز الأصوات، وفي المقابل ينبغي لأوكرانيا أن تضمن عدم مقاضاتها مَن تعاونوا مع «الجمهوريات الشعبية» بغية الحفاظ على السلام بعد الانتخابات.

يتطلب هذا الجزء الأخير ممارسة ضغط أكبر على أوكرانيا لا روسيا، بما أن كييف لا تعتقد أن من الممكن عقد الانتخابات ما لم تتخلَّ روسيا عن سيطرتها على الحدود، لكن أوروبا تتمتع بقوة تأثير كبيرة في هذا المجال: قد تهدد بإلغاء الاتحاد الأوروبي حق الأوكرانيين بالسفر إلى دوله من دون تأشيرة دخول، علماً أن بوروشينكو يعتبر هذا إنجازاً كبيراً.

وإذا نجحت هذه المناورة وعُقدت الانتخابات، فسيُضطر القادة الألمان والفرنسيون عندئذٍ إلى الضغط على بوتين كي يسمح لأوكرانيا بالسيطرة على الحدود، وهنا تملك ميركل أداة بالغة الأهمية: تستطيع حكومتها إفشال مشروع «نوردستريم 2» لنقل الغاز إلى شمال ألمانيا، إذ يواجه هذا المشروع معارضة قوية في دول أوروبا الشرقية والولايات المتحدة، إلا أن ألمانيا استمرت في دعمه حتى اليوم، ولكن إذا لم تسر الأمور على ما يُرام، تستطيع ألمانيا استمالة جيرانها وواشنطن بصدها مشروع «نوردستريم 2».

إذاً، يعود إلى ميركل وماكرون لعب أوراقهما بمهارة وإعادة إحياء مينسك، وإلا سيتركان هذه المشكلة بين أيدي بوروشينكو وبوتين، ولا شك أن سجلهما الحافل بالصراعات معروف جيداً، ومن المؤكد أننا سنشهد ذات يوم محاكمات بشأن التعويضات والإصلاحات، فضلاً عن تقصٍّ موضوعي لجذور الصراع وطريقة طوره (قد يموّله الاتحاد الأوروبي لاكتشاف الحقيقة المجردة). لكن الأولوية اليوم لم تتبدل عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات: وقف القتال، ونزع السلاح من شرق أوكرانيا، وترك أوكرانيا كلها لتركز على عملية بناء المؤسسات والسعي للنهوض مجدداً باقتصادها.

back to top