الميكروبات في المنزل... عدو أم صديق؟

نشر في 31-10-2017
آخر تحديث 31-10-2017 | 00:02
No Image Caption
ربما تفاجأ عندما تعرف مقدار الميكروبات التي تشاركك منزلك. لكن السؤال الذي ينشأ: هل هي مضرة بالصحة؟ عندما نفكّر في الكائنات المجهرية التي تعيش في بيئتنا السكنية، نلاحظ أننا نتعرض لشتى أنواع الصابون المضاد للبكتيريا والفيروسات ومساحيق التنظيف من مختلف الأصناف، محاولين التمسك بالمفهوم العام عن ضرورة إبقاء منازلنا نظيفة بغية محاربة تهديد الميكروبات المميت. في المقابل، نسمع باستمرار أن لميكروبات البروبيوتيك فوائد صحية مهمة.
تنتشر الكائنات المجهرية أينما كان في بيئتنا وفي جسدنا، ونعرف أن كثيراً منها مفيد للصحة، لا بل ضروري لها. لكن عدداً منها مضر ويسبب الأمراض، حتى إن بعضها مميت.

غصنا في المنشورات العلمية وعرفنا الأسباب التي تجعل بعض شركائنا في السكن المجهريين مفيداً لنا وبعضها الآخر مصدر خطر كبيراً يهدد صحتنا.

ميكروبات في منزلنا

أجرى علماء من منظمة NSF الدولية في آن أربور بميشيغان اختبارات في 22 منزلاً في جنوب شرق ميشيغان، فاكتشفوا أن اسفنج غسل الأطباق يحتوي على أكبر عدد من الكائنات المجهرية يليه وعاء فراشي الأسنان، وطبق الحيوان الأليف، والمجلى، ووعاء آلة صنع القهوة، والأسطح المحيطة بالمجلى، ومقابض الغاز، ولعب الحيوانات الأليفة، والمرحاض.

في الدراسة، عثر الباحثون أيضاً على العفن والخمائر، وبكتيريا من القولونيات (من بينها الإشريكية القولونية)، ومكورات عنقودية ذهبية على كثير من الأسطح المختبرة.

بغية تقييم التنوّع الميكروبي في غبار المنازل، اختبر فريق بقيادة جوردان بيتشيا، بروفسور متخصص في الهندسة الكيماوية والبيئية في جامعة يال في نيو هافن بكونيكتيكوت، عينات من 198 منزلاً في كونيكتيكوت وماساشوستس.

اكتشف الباحثون أن أنواع الفطر الأكثر انتشاراً تشمل Leptosphaerulina chartarum، Epicoccum nigrum، وWallemia sebi. أما البكتيريا الأكثر انتشاراً، فتضم عائلات المكورة العنقودية، والعقدية المقيحة، والوتدية الخناقية.

أما المنازل الواقعة في الضواحي أو تلك التي ضمّت حيوانات أليفة، فاحتوت على تنوع بكتيري أكبر، في حين شملت المنازل التي عانت تسرّب ماء واضحاً عدداً أكبر من الفطريات.

على نحو مماثل، درس علماء في جامعة سيول الوطنية في كوريا الجنوبية البكتيريا التي تسكن البرادات والمراحيض، فاكتشفوا أن البكتيريا التي تحتوي عليها تعيش أيضاً على جلد الإنسان، ما يشير إلى أننا مصدر كثير من الميكروبات في البيئة التي نقطنها.

يوضح الباحثون: «لا يُعتبر معظم أنواع البكتيريا التي عُثر عليها في الدراسة ممرضات أو ممرضات انتهازية. أما الأجناس التي تنتمي إلى الممرضات الشائعة، فلم يعُثر عليها إلا في جزء صغير جداً من المجتمعات على أسطح البرادات والمراحيض».

إذاً، ينتشر شركاؤنا في السكن المجهريون في كل مكان: من المجلى وأرضية غرفة الجلوس إلى وعاء فراشي الأسنان. وهنا ينشأ السؤال: ما تأثير هذه الكائنات في صحتنا؟

يعتمد الجواب على سنك، وحالة جهازك المناعي، وعلى كل كائن مجهري نصادفه بالتأكيد.

حساسية ونظافة

تشير «فرضية النظافة»، التي طرحها أولاً البروفسور ديفيد ستراشان عام 1989، إلى أن من الممكن تفادي أمراض الحساسية «بالتعرّض في الطفولة الباكرة للعدوى التي تُلتقط بالاحتكاك غير الصحي مع الإخوة الأكبر سناً أو التي تُكتسب قبل الولادة من الأم التي تُصاب بها جراء احتكاكها بأولادها الأكبر سناً».

في مقال نُشر في عدد شهر أكتوبر من مجلة «علم المناعة الطبيعي»، يوضح البروفسوران بارت ن. لامبريخت وحميدة حمد من مركز VIB لبحوث الالتهاب في جامعة غنت في بلجيكا أن الدراسات التي أُجريت على نماذج حيوانية كشفت أن التعرض لبعض الفيروسات، والبكتيريا، والطفيليات يرتبط بتراجع معدل الحساسية.

تصيب أمراض الحساسية، التي تشمل الأكزيما، والتهاب الأنف الأرجي، والربو، وحساسيات الطعام، نحو 50 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها، في حين أن نحو 400 مليون شخص يعانون التهاب الأنف الأرجي حول العالم.

تنشأ الحساسية عندما يخال جسمنا خطأً أن مادة غير مؤذية تشكّل خطراً يهددنا، فيتفاعل معها مطلقاً رد فعل مناعياً. ويعرف العلماء أن الميكروبات تؤثر في هذه العملية بطرائق عدة.

يفرز بعض أنواع البكتيريا، كالبكتيريا العصوانية، بكتيريا الشقاء، Faecalibacterium، والبكتيريا الأمعائية، أيضات تعزز إنتاج الخلايا التائية. وتؤدي هذه الخلايا دوراً كبيراً في حمايتنا من الحساسيات. لكن الأولاد المعرضين للحساسية يملكون، حسبما يتضح، معدلات أدنى من أنواع البكتيريا هذه في أمعائهم.

علاوة على ذلك، تؤثّر المكونات الميكروبية في نوع آخر من الخلايا المناعية. تجوب الخلايا المتغصنة الحواجز الظهارية (في البشرة، والأمعاء، والرئتين خصوصاً) حيث ترصد مسببات الحساسية الوافدة. وإذا حدث ذلك في غياب المكونات البكتيرية، تميل الخلايا المتغصنة إلى تحفيز ردود فعل مناعية، بخلاف ما يحدث عندما تكون الميكروبات موجودة.

إذاً، أين يمكننا أن نعثر على هذه الكائنات المجهرية المفيدة التي تحمينا من الحساسيات؟

ميكروبات تعود علينا بالفائدة

اكتشف البروفسور بيتشيا أن بعض أنواع البكتيريا المفيدة يميل إلى الانتشار خصوصاً في المنازل التي تقطنها عائلات عدة أو التي تضم أكثر من ثلاثة أولاد.

تُعتبر إحدى هذه البكتيريا (Faecalibacterium prausnitzii) «مضادة للالتهاب وتحمي من مرض كرون»، وفق هذا الباحث. كذلك تبين أن بعض أعضاء عائلة العصية اللبنية ينتشر بأعداد أكبر في منازل مماثلة، علماً بأن بكتيريا البروبيوتيك هذه تؤدي دوراً في الحماية من الحساسيات والربو.

في دراسة منفصلة، اكتشف فريق البروفسور بيتشيا أن الخمائر من نوع «كوندوا» قد تتمتع بتأثير يحمي من الربو الحاد عندما تنتشر في المنزل.

علاوة على ذلك، اتضح أن الاحتكاك بالكائنات المجهرية في الحليب النيء وفي غبار المنازل في المزارع يؤدي دوراً بارزاً في تراجع معدل الحساسية. لكن البكتيريا والفطريات لا تشكّل الكائنات المجهرية الصديقة الوحيدة.

تشير بعض التقارير إلى أن أدلة كثيرة تُظهر أن ديداناً طفيلية صغيرة تُدعى الديدان المعوية تحمي مضيفها من الحساسية.

تشبه مسببات حساسية كثيرة بنية بروتينات هذه الديدان. وفي حالة التعرض المزمن للديدان المعوية، تنافس هذه البروتينات مسببات الحساسية، ما يؤدي إلى رد فعل مناعي لا يسبب الحساسية.

علاوة على ذلك، يؤدي التوقيت ونوع الميكروبات التي يتعرض لها الإنسان دوراً مهماً في الإصابة بأمراض حساسية.

ولكن ثمة أنواع عدوى غير مفيدة. على سبيل المثال، تشكّل أخماج الجهاز المناعي السفلي في حالة الأولاد الذين لم يبلغوا بعد سنتهم الثالثة عامل خطر يعرض الأولاد للربو والصفير.

على ضوء هذا الواقع، انتُقدت «فرضية النظافة». يذكر البروفسور لامبريخت أن النظريات الجديدة تشير إلى أن خسارة تنوع الميكروبيوم البشري يعني أن الميكروبات والطفيليات، التي كانت تحمي من الحساسيات في الماضي، ما عادت تؤدي دورها.

صحيح أن الكائنات المجهرية تؤدي دوراً مهماً في حماية الأولاد من أمراض الحساسية، إلا أنها تشكّل خطراً كبيراً يهدد حياة آخرين.

متى تصبح الميكروبات مضرة بالصحة؟

تصبح الميكروبات المنتشرة في بيئتنا السكنية مصدر ضرر في حالة مَن يعانون أساساً الحساسية.

ترتبط الأخماج البكتيرية التي تُلتقط في مراحل الحياة الأولى، خصوصاً في مجاري التنفس، بتفاقم حالة الربو الأرجي التي يعانيها المريض. وتؤدي العدوى الفيروسية أو البكتيرية في مجاري التنفس إلى التأثير عينه، في حين تسبب العدوى الفطرية في الجلد الأكزيما.

اكتشف البروفسور بيتشيا أيضاً أن منازل الأولاد، الذين يعانون حالات ربو حادة، تضمّ مسببات حساسية ميكروبية مماثلة. وعثر الباحثون خصوصاً على نسب عالية من الفطريات في منازل أولئك الأولاد، ومن أبرزها خمائر من نوع Volutella  الفطري.

بالإضافة إلى الخطر الذي يتعرض له مرضى الحساسية والربو بسبب الميكروبات، تؤدي الكائنات المجهرية التي يحملها الطعام إلى عدد كبير من الأمراض كل سنة.

تقدّر مراكز ضبط الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة أن 3 آلاف شخص يموتون سنوياً نتيجة للتسمم الغذائي، ويشمل المذنبون في هذه الحالة السلمونيلا، بعض أنواع الإشريكية القولونية، الليستيريا، والفطريات.

تشير دراسة «جراثيم المنزل»، التي أعدتها منظمة NSF الدولية عام 2013، إلى أن حجرة الخضراوات في البراد تشكّل مصدراً غنياً بالسلمونيلا، والليستيريا، والفطريات، في حين تنتشر الإشريكية القولونية في الجزء المخصص للحوم في البراد، شأنه في ذلك شأن الملاعق البلاستيكية، ووعاء الخلاط الكهربائي، وأداة فتح العبوات، وأداة قطع البيتزا.

إذاً، في منازلنا والمساحات التي نسكنها وفرة من الكائنات المجهرية، يُعتبر بعضها صديقاً وبعضها الآخر عدواً. لكن الأهم من ذلك واقع أن طريقة تفاعلنا مع الميكروبات تعتمد على جهاز كل منا المناعي.

هل يعني ذلك أن عليك إبقاء منزلك نظيفاً إلى أبعد الحدود؟ لا شك في أن تنظيف مراتع الميكروبات، خصوصاً إسفنج غسل الأطباق، والبراد، والمجلى، والأسطح المحيطة به، وأداوت المطبخ، يسهم في حماية عائلتك من التسمم الغذائي.

أما التعاطي مع الميكروبات الأخرى، فيختلف باختلاف الأسر. في المنازل التي يعاني بعض قاطنيها الحساسية، من الضروري الحد من التعرض للأسباب التي تحفّز الأعراض.

ولكن هل صرنا اليوم أسرى دوامة من النظافة المفرطة التي تهدف إلى تفادي أعراض الحساسية، إلا أنها تحرم الجيل التالي من الاحتكاك البالغ الأهمية بالميكروبات؟

ما من جواب واضح، لكن العلماء اقتربوا من اكتشاف الطرائق التي حمانا بها التعرض للكائنات المجهرية من الحساسيات في الماضي. يوضح البروفسور لامبريخت: «ربما نطوّر في المستقبل إستراتيجيات أكثر فاعلية وشمولية تستند إلى هذه المعرفة الجديدة وتساعدنا في استعادة تلك العلاقات التكافلية بين الكائنات (المجهرية) والبشر من دون التسبب بالمرض أو العودة إلى نمط حياة غير صحي».

البكتيريا المفيدة تنتشر في المنازل التي تضم أكثر من ثلاثة أولاد

حجرة الخضراوات في البراد تشكّل مصدراً غنياً بالسلمونيلا
back to top