الروائية نسرين بلوط: في الكتابة أتمرّغ في معاناة الآخرين

نشر في 16-10-2017
آخر تحديث 16-10-2017 | 00:04
لأن التاريخ يعيد نفسه، ولأن القضايا الشائكة تنتقل مع العصور وصولاً إلى اليوم، اتخذت الكاتبة والروائية نسرين بلوط من الثورة ضد الإقطاعية والظلم الاجتماعي التي عصفت بلبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إطاراً لروايتها الجديدة «الخطيئة»، راسمة من خلالها صورة لوطن تريده متحرراً من الطائفية البغيضة ولإنسان لا يتقوقع في الخطيئة بل ينطلق منها إلى النور. وفي هذا السياق تحضّر لرواية تاريخية جديدة ومبتكرة في آن.
في روايتها الأولى «مساؤك ألم» أطّرت أحداثها حول ثورة يناير 2011 في مصر لكن في «الخطيئة» أمعنت أكثر في التاريخ لأنها مزيج بين التاريخ والحبكة الدرامية. وفي الروايتين تحاول استخلاص عبر وتقديمها للقارئ بأسلوب بعيد عن الوعظ في محاولة لرسم مستقبل أفضل يتطور من الأنانية نحو السلام.
تتخذين من الحقبة التاريخية بين 1840 و1875 إطاراً لروايتك، فهل ثمة قاسم مشترك بين تلك الحقبة والحقبة الحالية من خلال القضايا التي يعانيها المجتمع؟

رواية «الخطيئة» حافلة بخطايا تحدث في كل عصر ومكان. تناولت تلك الحقبة التاريخية المغمّسة بدماء الأبرياء ضحايا الفتنة الطائفية، التي لا تزال تتواتر على وطننا وتقحم أسوار أماننا لتتخذ لنفسها صفة السيادة هذا من ناحية، من ناحية أخرى كانت ثورة طانيوس شاهين الذي رأى بأمّ عينيه فحش الظلم الذي لحق بأبيه الفلاح وبسائر الفلاحين الذين بذروا عرقهم ودمهم ليحصدوا العدم، فثار واتُهم بالخيانة لأنّ من يمشي مع الحق في زمن الباطل يعتبر خائناً ويستحق التهميش، وهذا يحدث الآن، وحدث في كل زمان وكلّ مجتمع.

لوركا اغتالوه لأنّه نطق بأبيات تتضوّع بالحق وجاب أزقة قريته متسائلاً عن كنه الحقيقة إذ قال: «كم أتمنى أن أصل حيث وصل الطيبون ووصلت يا إلهي، ولكن ماذا بعد». أيضاً نرى ميرا الفتاة الزحلاوية التي أصبحت راهبة في ما بعد تتصارع بين التصوف والانحدار في الشهوات، وهذه مسألة تخصّنا نحن كبشر، إذ ندّعي الاستسبال في عالم الطهارة والفضيلة، ولكننا نزلّ أحياناً كثيرة وندسّ خطايانا في أكوام الظلام لأننا نعتبرها عاراً وإثماً. أنا هنا تجرّأت وسحبت الخطئية إلى النور كأسطورة «الماينوتور» في الأساطير الإغريقية الواردة في جحيم دانتي.

تقاربين في روايتك مسألة الطائفية، فإلى أي مدى تؤلمك هذه القضية بالذات؟

لم تأت مسألة الطائفية في الرواية وعظية أو مكرّرة، بل منسابة إلى المتلقي بشكلٍ لا يثقب جدران همومه التي يعيشها، بل يصبح زاوية منها ليفكر مليّاً بما آل إليه حالنا من انحدار جنوني إلى عالم تسوده التفرقة، وغاب عن بالنا أن الله في القلب وليس في الأديان، ولا يسكن قبب المآذن أو يقرع نواقيس الكنائس، إنه موجود في أنين المتألمين وابتسامة ضعيفة للفقراء المهمّشين. يلزمنا عقود قبل أن ندرك الحقيقة مع أنها موجودة بانسياب في ثنايا أرواحنا، غير أننا نرفض أن نستوعبها ونحتضنها. الطائفية منبوذة علمياً وليس روحياً فحسب. ألم يقل فولتير: «ليس هناك طائفة في علم الهندسة الشخص لا يعرف بكونه إقليدياً أو أرخميدياً».

لماذا العنوان «الخطيئة»؟

قال وليم شكسبير: «البعض ترفعه الخطيئة، والبعض تسقطه الفضيلة»، وفي روايتي الخطيئة التي حلّت كنكبة بأبطالها لم تدنّسهم بل رفعتهم إلى مستوى الإنسانية. سيتساءل القارئ كيف حدث هذا؟ إن تمعّنت في «خطايا» الرواية، الجسدية والروحية، تجدين أن خطيئة الجسد تسبّبت ثورة على الله من راهبة تعثّرت قدمها في عالم الحب والرغبة في كهف التعبد الذي كانت تتأمل فيه قبل دخولها الدير، ارتقت بخطيئتها وهي الفتاة التي تنتمي إلى طبقة إقطاعية فائقة الغنى، لتتأمل في الكون والظلم الذي ينتاب الفلاحين وتهافت طانيوس شاهين إلى الحق وغدر من أيّدوه، وتمعن النظر في غدر الشاب الدرزي «عابد» الذي عشقته.

حبكة درامية

كيف تجمعين في روايتك بين الأحداث التاريخية وتلك المتخيّلة، وهل يمكن اعتبارها رواية تاريخية؟

الرواية مصنّفة كرواية تاريخية ولكنها فن مبتكر يجمع بين التاريخ والحبكة الدرامية المحكمة الصنع. الأشخاص معظمهم حقيقيون عاشوا ورحلوا وتركوا بصمات لا تمحى. ولكن المبتكر هنا هو الجمع بين التاريخ والحبكة المطرزة بالدراما، وهو فن صعب ويحتاج إلى تمعن ونظر، ولكن شخصيات روايتي هي من ابتكرته من دون قصدٍ مني.

ما الذي دفعك إلى كتابة روايتك الخطيئة؟ معاناة من الوضع الحاضر أم افتقارنا إلى شخصية قائدة على غرار الشخصيات التي حفل بها تاريخ لبنان؟

الهاجس الذاتي والروحي الذي تضجّ به صدورنا، من الثورة على الله أحياناً إلى الثورة على أنفسنا، دفعني إلى كتابة تلك الرواية. لم تأتِ الخطئية إلا من عالم الظلمات، فقررت أن أنتفض وأسحبها إلى النور، فانشقّ بيسر ليستوعبها عكس ما كنتُ أنتظر. هذا يدل أن الخطيئة هي توأم الفضيلة انفصلا حتى يتحدا من جديد.

هل يفترض أن تخرج الرواية عموماً من عمق التراجدييا والمعاناة، ألا يصنع الفرح رواية؟

عنصرا التراجيديا والفرح لا يصنعان الرواية، بل الحبكة التي تتكئ على مبدأ السببية، ومن دونها يضيع الحدث ويتشتت الأبطال. الحرية في الرواية هي التي تطرّز أطرافها لأنها مسؤولية تجاه الله، والكاتب بطبعه لا يحب أن يستعمره أحد وعنده دائماً رَيبة من ألا تصل رسالته. إذن حرية التعبير هي من تحيك الرواية في إطارٍ سردي يتراوح بين المد والجزر.

وميض الشعر

لديك ثلاثة دواوين «أرجوان الشاطئ»، و«مهربة رسائلي إليك»، و«رؤيا في بحر الشوق»، هل هي امتداد لروايتيك من ناحية المضمون، أم أن شخصيتك العاشقة والمرأة والأم هي محورها؟

الشعر لم يتعدّ على الرواية في عالمي، لكلٍّ مجدافه وتبحّره الخاص في بحر الأدب. الشعر روح التراجيديا كما وصفه أرسطو، أو محاكاة تثير انفعال الألم. وهو يختصر المعنى في مجاز إبداعه في أن يصيب. بينما الرواية تفصّل وتحرّك وتنتفض وتعترض ثم تتبلور مع الحدث والعقدة، وقد يأتي حلها وقد لا يأتي أبداً. الرواية فن دراماتيكي متشعب الأطراف، ومتشعّث المعاناة. كشاعرة تكتب للوطن والعشق والأم سبرتُ ذلك الوميض السريع للبرق في الشعر، وكروائية تتورّط في مشاكل المجتمع والناس سبرت أغوارهم بإتقان محكم.

هل يستطيع الشعر أن يقارب قضايا حياتية معيوشة، أم هو رحلة في عالم المشاعر وتناقضاتها؟

ثمة شعراء قتلهم شعرهم لأنّهم مسّوا الجراح بعمق جعل البشرية بأسرها تنتفض. الشاعر التشيلي بابلو نيرودا رجّح معظم من عاصره أنه قتل بالسم، ولوركا الذي اغتالوه لصراحته، ومثلهما كثر. إذاً، الشاعر الذي يغوص في عمق التراجيديا والمعاناة الإنسانية ليبرزها ولا يقدّم الحل، بل يأتي كقصف الرعد يحرك الأدمغة ويبكي القلوب لتحدث الثورة. هذا هو الشعر الحقيقي الذي يأتي موهبة وليس بدعة ككثيرين ممّن يكتبوه هذه الأيام.

شاركت في أمسيات شعرية في أكثر من بلد عربي، كيف تقيمين هذه المشاركات ومدى تفاعل الجمهور العربي مع شعرك؟

المشاركات الأدبية تغني رصيد الكاتب، وقد كان حضور فعاليات مثمرة فيها وتفاعل الجمهور معي إضافة جديدة إلي وإلى كتابتي.

صناعة أم تلقائية؟

رداً على سؤال حول مفهوم الكتابة بالنسبة إليها، هل هي صناعة أي تركز على الصياغة أم تترك الفكرة تقود الأسلوب وتفرض عليه مفرداتها؟ تجيب الروائية نسرين بلوط: «ليست الكتابة صناعة حرفية بل تلقائية. المفردات التي تجاور المعنى هي الفن الحقيقي لها، والفكرة التي تكون عبرة هي المسيطرة على الجو الأدبي فيها».

وحول ما إذا كانت نسرين الإنسانة حاضرة في نتاجها الأدبي تقول: «نسرين الكاتبة غير نسرين الإنسانة. في الكتابة أنفصل عن ذاتي وأحزانها لأتمرّغ في معاناة الآخرين وأصنع عالمي الخاص معهم. أما في حياتي الشخصية فأنا وحيدة حدّ الثمالة».

التراجيديا والفرح لا يصنعان رواية بل الحبكة المتكئة على مبدأ السببية

ثمة شعراء قتلهم شعرهم لِمسّهم الجراح بعمق مما جعل البشرية تنتفض
back to top