صناع السياسة يستهدفون معدلات البطالة الطبيعية

نشر في 09-09-2017
آخر تحديث 09-09-2017 | 00:00
يمكن للبطالة أن تدمر الحياة وتبدد الميزانيات وتطيح حكومات، ورغم ذلك فإن صناع السياسة لا يشنون حرباً شاملة عليها بل يستهدف معظمهم على غرار مجلس الاحتياطي الفدرالي ما يعرف بالمعدلات الطبيعية للبطالة التي تعني استقرار معدل التضخم.
 إيكونوميست أمضى صناع السياسة حوالي نصف قرن في البحث عن معدلات البطالة الطبيعية، والسؤال الآن هو: ما سبب حدوث البطالة في المقام الأول؟ ويقول محللون إن ذلك هو السؤال المحوري في نطاق الاقتصادات الكبيرة.

ويوجد عدد قليل من عوامل الهدر الأكبر بقدر يفوق ساعات عدم العمل التي قد تستمر أياماً وسنوات من قبل أشخاص كان يفضل استمرارهم في العمل، ومعروف أن البطالة يمكن أن تدمر الحياة وتبدد الميزانيات وتطيح حكومات، ولكن على الرغم من ذلك فإن صناع السياسة لا يشنون حرباً شاملة عليها ويستهدف معظمهم – على غرار مجلس الاحتياطي الفدرالي ( البنك المركزي الأميركي ) ما يعرف باسم المعدلات "الطبيعية" للبطالة التي تعني استقرار معدل التضخم.

وتتمثل أهمية هذه الفكرة في أنه من الصعب المبالغة فيها، وعلى سبيل المثال فإن مجادلة مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي في الآونة الأخيرة بشأن زيادة معدلات الفائدة تتمحور حول منع معدلات البطالة من الهبوط بشدة الى أقل من المستويات الطبيعية، ولكن على الرغم من ذلك فإن المعدل الطبيعي للبطالة يدور حول الثقة وهو مستهدف على الدوام ولكنه لا يتحقق، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو كيف تحدث البطالة؟

توجد عدة أسباب تتعلق بكيفية عدم القدرة على اجتثاث ظاهرة البطالة بصورة تامة، ويتطلب الأمر الكثير من الوقت حتى يتمكن الناس من الانتقال من عمل الى آخر، ويقال إن هذا يفضي الى بطالة "احتكاكية" وإذا لم يتمكن الناس من العثور على عمل لأن مهاراتهم قديمة فقد يصبحون من العاطلين عن العمل بصورة "هيكلية".

ولا يوجد مجتمع يستطيع احتمال ارتفاع أو هبوط معدل التضخم بصورة دائمة، وقد لاحظ فيليبس وجود علاقة متداخلة في المعلومات ولكنها لم تكن النوع الذي يستطيع صناع السياسة استخدامه أو الاستفادة منه في الأجل الطويل. وقال فريدمان: "توجد دائماً مبادلة مؤقتة بين التضخم والبطالة ولكنها ليست دائمة على أي حال"، وبعد مرور 50 سنة يظل ذلك هو الأساس الذي تعمل بموجبه البنوك المركزية في العالم الغني، وعندما يتحدث الناس عن منحنى فيليبس فإنهم يقصدون مبادلة فريدمان المؤقتة، وفي الأجل الطويل فإنهم يعتقدون أن البطالة سوف تنتهي الى المعدلات الطبيعية.

وكان لهذه الفكرة تأثيرها الكبير لأن توقيت اسهامات فريدمان وفيليبس كان ملائماً تماماً، وقبل عام 1968 شهدت الولايات المتحدة ما يصل الى عامين من معدلات بطالة دون 4 في المئة ومعدلات تضخم أقل من 3 في المئة، ولكن عندما تحدث فريدمان كانت الأسعار تتقدم بسرعة كما ارتفع معدل التضخم الى 4.2 في المئة في سنة 1968، ثم وصل الى 5.4 في المئة في السنة التالية على الرغم من حدوث تغير طفيف في معدلات البطالة.

وقد بدد ركود حقبة السبعينيات من القرن الماضي فكرة منحنى فيليبس المستقر، وفي السنوات التالية التي شهدت هزات نفطية – في 1973 و 1979 – حدث ارتفاع كبير في معدلات البطالة والتضخم معاً، وعلى سبيل المثال فقد شهدت سنة 1975 ارتفاعاً في معدلات البطالة والتضخم وصل الى أكثر من 8 في المئة، وفي عام 1980 وصل معدل التضخم الى 13.5 في المئة حتى مع تجاوز معدل البطالة نسبة 7 في المئة – وكانت الفكرة أن يهبط معدل التضخم مع حدوث ارتفاع كبير في معدلات البطالة، ولكن أتباع فريدمان استطاعوا المجادلة في أن سياسة الامداد السيئة اضافة الى الهزات النفطية سوف تفضي الى تداعيات سلبية.

فكرة نيرو

وفي الوقت نفسه على وجه التقريب، تعرضت فكرة نيرو (التي تعني امكانية التكيف مع توقعات التضخم) لحملات من جانب المنظرين الذين كانوا يقولون إن على الشركات والعمال أن يتوقعوا معدلات تضخم عن طريق النظر الى القيمة القائمة لتلك المعدلات، ولكن مبدأ "التوقعات المنطقية" كان يعني أن يتوقع المستهلكون والشركات – والى أبعد مدى ممكن – قيام صناع السياسة باتخاذ اجراء من نوع ما، وعلى أي حال، عندما توقعت العامة قيام حكام المصارف المركزية بمحاولة دفع معدل التوظيف الى أقل من المعدل الطبيعي كان التضخم يرتفع على الفور أيضاً.

وقد وضع ذلك الاقتراح أمام الاختبار بعد أن أصبح بول فولكر رئيساً لمجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي في سنة 1979، وكان السيد فولكر قد عقد العزم على خفض معدل التضخم، وكما تبين في وقت لاحق فإن سياسته النقدية المتشددة – التي أفضت الى وصول الأموال الفدرالية الى 20 في المئة بشكل تقريبي في سنة 1981 – قد أسهمت في حدوث ركود ثنائي الرقم ودفعت معدل البطالة إلى أعلى من 10 في المئة، وقد حقق ذلك الإجراء الهدف المرجو حيث تراجع معدل التضخم ولم يتجاوز الا نادراً معدل الـ 5 في المئة طوال فترة عمل فولكر في مجلس الاحتياطي الفدرالي.

وتجدر الإشارة إلى أنه حتى يومنا هذا يشير البعض من الاقتصاديين إلى فترات ركود عهد فولكر على شكل برهان على أن توقعات التضخم قابلة للتكيف، ولم تصدق العامة أن معدل التضخم سوف يهبط لمجرد أن مجلس الاحتياطي الفدرالي فعل ذلك فقط، كما يتعين على الولايات المتحدة أن تعاني ارتفاع معدل البطالة من أجل خفض التضخم.

وعلى الرغم من ذلك يمكن القول إن تجربة حقبة الثمانينيات من القرن الماضي لن تتكرر، وفي العقود التي أعقبت تلك الفترة التزمت البنوك المركزية بأهداف التضخم، ومع حصولها على مصداقية ضعف ما يوصف بالتناوب بين التضخم والبطالة.

من جهة اخرى تظن قلة من الاقتصاديين أن الموديلات الجديدة للكينيزية تكافح في العادة من أجل تفسير الواقعية ما لم تشمل على الأقل بعض الناس الذين لديهم توقعات تكيف. وفحص عاجل للمعلومات يشير الى التوقعات التي تعقب التضخم وقد هبطت – على سبيل المثال – بعد انخفاض أسعار النفط في أواخر سنة 2014.

تداعيات التضخم

حدث التضخم بصورة غريبة خلال العقد الماضي، كما أن الركود الذي أعقب الأزمة المالية العالمية في 2007- 2008 أفضى الى ارتفاع معدل البطالة في الولايات المتحدة الى 10 في المئة، ولكن معدل التضخم هبط بصورة مؤقتة فقط الى 1 في المئة وليس كما توقعته النماذج لأن الطريقة الوحيدة التي يستطيع خبراء الاقتصاد من خلالها تقدير المعدل الطبيعي هي في مراقبة مسار التضخم والبطالة بشكل واقعي وقد افترضوا أن المعدل الطبيعي قد ارتفع (ووضع تقدير صدر في سنة 2013 عن روبرت غوردن من جامعة نورث وسترن ذلك المعدل عند 6.5 في المئة)، ولكن على الرغم من ذلك ومع التشديد الذي شهدته أسواق العمل – كان معدل البطالة 4.3 في المئة في شهر يوليو – فقد ظل معدل التضخم ثابتاً من دون تغيير يذكر، وفي تلك الفترة أيضاً توقع الخبراء هبوط المعدلات الطبيعية.

وتجدر الاشارة الى أن مثل هذه التقلبات في المعدلات الطبيعية تحد من فائدتها بالنسبة الى صناع السياسة، ويجادل البعض في أن معلومات خطأ قد استخدمت لأن معدلات البطالة قد استثنت اولئك الذين توقفوا عن البحث عن عمل، ويقول آخرون إن منحنى فيليبس القصير الأجل قد استقر، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو إلى متى سوف يستمر الوضع على هذا النحو؟

في غضون ذلك، ومادامت معدلات البطالة المتدنية غير قادرة على توليد القدر الكافي من التضخم فإن البنوك المركزية سوف تتعرض الى ضغوط من أجل الابقاء على برامج التحفيز لفترة أطول، في وقت يعرب حكام تلك البنوك عن قلقهم من أن يفضي الارتفاع المفاجئ في معدل التضخم الى فقدانهم المصداقية التي جهدوا كثيراً لكسبها، وبالتالي العودة إلى أجواء عام 1980.

هذه التجربة الأخيرة دفعت البعض الى الشك في وجود معدلات بطالة طبيعية، ولكن رفضها بصورة تامة يتطلب الاعتقاد بأحد أمرين: إما أن البنوك المركزية غير قادرة على التحكم في معدلات البطالة حتى في الأجل القصير أو أن يربطوها مع المستوى المتدني الذي يريدونه –حتى الى درجة الصفر – من دون اطلاق موجة من التضخم، ولا يتمتع أي واحد من هذين الأمرين بمصداقية، ومن المؤكد أن معدلات البطالة الطبيعية موجودة، أما كونها معروفة فهذا شأن آخر.

ليس هناك مجتمع يستطيع احتمال ارتفاع أو هبوط معدل التضخم بصورة دائمة

الركود الذي أعقب الأزمة المالية العالمية عامي 2007 و2008 أفضى إلى ارتفاع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 10%

عندما توقعت العامة قيام حكام المصارف المركزية بمحاولة دفع معدل التوظيف إلى أقل من المعدل الطبيعي كان التضخم يرتفع على الفور أيضاً
back to top