«الرجال فقط عند الدفن»!

نشر في 09-09-2017
آخر تحديث 09-09-2017 | 00:00
 مجدي الطيب لم تتح لي الظروف مشاهدة الفيلم الروائي الطويل «الرجال فقط عند الدفن» (الإمارات العربية المتحدة وإيران) عند عرضه في الدورة الثالثة عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (7 – 14 ديسمبر 2016)، وفوزه بجائزة المُهر الذهبي للأفلام الطويلة، ومن ثم لم أفوت الفرصة، عندما عوضتني الأقدار بإدراج الفيلم ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة العاشرة لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي (25 – 31 يوليو 2017)، ووضعته على أجندتي.

أهم ما خلصت إليه أن الفيلم، الذي كتبه وأخرجه الإماراتي عبدالله الكعبي، يمثل تجربة غير مسبوقة في السينما الإماراتية الوليدة، وفي جرأة الحديث عن «المسكوت عنه»، وهي الجرأة، التي أدركت بعد مشاهدة الفيلم في «وهران» أنها كانت سبباً في تنويه إدارة مهرجان دبي السينمائي، التي استقبلت عرضه العالمي الأول، إلى تصنيفه 15+، وبررت هذا بأنه يحتوي على إشارات خاصة بالبالغين ومثلية جنسية!

يدور «الرجال فقط عند الدفن» (80 دقيقة) في زمن ما بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، حيث الأم العراقية الكفيفة «فاهمة» التي تدعو ابنتيها «غنيمة» و{عائشة» للحضور إلى منزلها لتكشف لهما ما وصفته بأنه «سر دفين»، غير أنها تلقى حتفها بعد أن تسقط من سطح البناية، في حضور خادمتها «عارفة»، ثم تدهسها سيارة «جابر»، زوج ابنتها «غنيمة». ومع توافد أهل القرية لتقديم واجب العزاء تهتم الابنتان بمعرفة السر الذي كانت تخفيه أمهما، لكنهما تفاجآن بماضيها المجهول للجميع، ومع وصول امرأة غامضة، يُماط اللثام عن السر المجهول، فالأم كانت تقرض الشعر، قبل أن يمنعها زوجها المريض، والخطابات التي أودعتها صندوق ذكرياتها، تُشير إلى علاقة خفية بينها وطبيبة زوجها هي أكبر من مجرد صداقة، بل وصلت إلى درجة العشق!

هل تعمد المخرج «الكعبي»، ومن خلفه طاقم العمل الإيراني (المنتج فرشاد مهوتفروش، ومدير التصوير بيمان شادمنفار، والمونتاج ميسم مولاي والموسيقى پیمان یزدانیان) أن تكون العائلة عراقية، وأن تُتهم الأم بأنها مثلية الجنس؟

نقطة جديرة بالبحث، والنقاش، لكنها لا تنفي، في الأحوال كافة، أن الفيلم يمثل نقلة نوعية، وفنية، إذ لم يكتف كاتبه ومخرجه بالإثارة التي فجرها نتيجة لطرحه قضية تُعد من المحرمات في المجتمعات العربية، وليس المجتمع الخليجي فحسب، وإنما قطع شوطاً طويلاً في تقديم عمل سينمائي مُحكم، بل مترابط ومنضبط، بحيث لا يمكن التصديق أنه فيلمه الروائي الطويل الأول، فإضافة إلى براعته الملحوظة في قيادة فريق العمل، خصوصاً الممثلين: سليمة يعقوب، وهبة صباح، وعبد الرضا ناصري، الذين اتسم أداؤهم بالهدوء والكياسة والثقة، كان جريئاً في اختيار الموضوع بما يعكس شخصيته القوية، ويؤكد نجاحه في استثمار دراسة صناعة السينما في فرنسا. فاستخدام تقنية «الفلاش باك» جاء بدقة، وغير إفراط، وعلى صعيد السيناريو تهادت المشاهد بسلاسة، ولم تخل من مفاجآت تصب في صالح القضية التي يتبناها المخرج، فالانحياز إلى المرأة، وحريتها المطلقة، واختراق «المسكوت عنه»، يتجلى في شخصية الأم التي تحملت غطرسة الزوج، والابنة «عائشة»، التي هربت مع حبيبها من منزل العائلة، بعدما رفضت الانصياع لدكتاتورية والدها، والتقاليد، التي تحتم زواجها من ابن عمها، ولما عادت ذات ليلة، وفي بطنها ثمرة زواجها، زعمت الأم الكفيفة أنها لا تعرفها، وأمرت الخادمة «عارفة» باستقبالها، وكأنها تكفر عن ذنبها حيالها، فيما استسلمت «غنيمة»، التي تعمل في إحدى الإذاعات المحلية، لأبيها والتقاليد، وتزوجت ابن عمها «جابر» فلم تفارقها التعاسة!

لا ينسى المخرج / كاتب السيناريو، أيضاً، حادث الدهس «المسكوت عنه» فيستعيده من خلال شيخ القرية، الذي يستعلم عن السبب فيُقابل بصمت جماعي، كما تصبح الفرصة مواتية لإماطة اللثام عن السر وراء كف بصر الأم المثلية، لكن الخادمة تُرجع الأمر إلى ما بعد رحيل زوجها، ويأتي عنوان «الرجال فقط عند الدفن» ليُكمل الرؤية المناهضة للمجتمعات الذكورية العربية، التي تُحرم وجود النساء أثناء دفن ذويهن في المقابر، واقتصار الدفن على الرجال!

يقتحم «الكعبي» مناطق شائكة كثيرة، من دون أن يخدش الحياء، بل إنه يطرق «المحظور» معتمداً على التلميح، ولا يوظف «الفلاش باك» للتصريح، أو تقديم خطاب مباشر، ولا يترك عنصراً لديه من دون أن يستخدمه كسلاح لتمرير أفكاره، وطوال الوقت يُراهن على ذكاء الجمهور وفطنته.

back to top