فائض الحساب الجاري الألماني يضعف الاقتصاد العالمي

نشر في 15-07-2017
آخر تحديث 15-07-2017 | 00:00
في فترات الارتفاع الكبير لمعدلات التضخم خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان سعي ألمانيا إلى التوفير بنسب عالية قوة استقرار جلية، أما حالياً فذلك يسهم في تأخير وعرقلة النمو العالمي ويشكل هدفاً يسعى إليه دعاة الحمائية من أمثال الرئيس دونالد ترامب.
 إيكونوميست المعروف عن ألمانيا أنها توفر الكثير وتنفق القليل، وهو جانب ينعكس سلباً على الاقتصاد العالمي والتبادل التجاري بصورة عامة.

وقد تم في ضوء هذه الحقيقة رسم خطوط المعركة الاقتصادية في المستقبل، وعندما اجتمعت أكبر دول التبادل التجاري في العالم في قمة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية أخيراً كان المسرح معداً لحدوث مناوشات وصدامات بين الولايات المتحدة التي تدعو الى الحمائية وألمانيا التي تطالب على الدوام بحرية التجارة.

وقد انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أحد اتفاقات التجارة في وقت سابق وهو اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، كما طالب بإعادة التفاوض حول اتفاق آخر هو التجارة الحرة في أميركا الشمالية أو ما يعرف باتفاقية نافتا. ويدرس الرئيس ترامب مسألة فرض تعرفة على مستوردات الصلب الى الولايات المتحدة وهي خطوة سوف تفضي بشكل أكيد الى خطوات انتقامية من جانب الدول التي سوف تتأثر بها.

وتجدر الاشارة الى أن خطر حدوث حرب تجارية كان يخيم على العالم منذ تسلم ترامب رئاسة الولايات المتحدة في شهر يناير الماضي. وعلى العكس من ذلك سوف تعمد مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل الى قرع طبول التجارة الحرة، وقد ألقت خطاباً اشتمل على هجوم غير معلن على الرئيس الأميركي في التاسع والعشرين من شهر يونيو الماضي شجبت فيه قوى الحمائية والعزلة، ومن شأن اتفاقية تجارة حرة بين اليابان والاتحاد الأوروبي اضافة عنصر جوهري لوجهة نظر ميركل.

ومامن شك في أن عقيدة الرئيس الأميركي الداعية الى ضرورة تحقيق توازن في التجارة تدل على جهل اقتصادي الى حد كبير، اضافة الى أن اعتقاده بأن التعرفة سوف تحقق التوازن المرجو في الملعب ينطوي على سذاجة ومخاطر: وذلك لأن التعرفة سوف تقلص الازدهار بالنسبة الى كل الأطراف من دون استثناء.

ولكن ترامب توصل في جانب واحد على الأقل الى حقيقة غير مريحة فقد وجه اللوم الى ألمانيا بسبب فائضها التجاري الذي وصل الى حوالي 300 مليار دولار في العام الماضي وهو الأعلى في العالم (وكانت نسبة الصين 200 مليار دولار فقط) كما أن تهديده الذي تمثل في منع بيع السيارات الألمانية قد يشكل هزيمة ذاتية ولكن ثمة حقيقة مؤكدة وهي أن ألمانيا توفر الكثير وتنفق القليل اضافة الى أن حجم وفورات برلين لا يؤهلها للدفاع عن التجارة الحرة.

الانسجام الناقص

وبشكل أساسي يمثل الفائض التجاري زيادة مفرطة في التوفير القومي على الاستثمار الداخلي، وفي حالة ألمانيا لم يكن ذلك حصيلة سياسة حكومية كما يعتبرها البعض من الأجانب، وليست، كما يصر المسؤولون الألمان في أغلب الأحيان انعكاساً لحرص المجتمع المتقدم في السن على توفير المزيد من المال، وكانت نسبة توفير العائلات مستقرة، رغم ارتفاعها، طوال سنوات وقد جاء ذلك نتيجة جهود من جانب الشركات والحكومة على حد سواء.

وكان ذلك الفائض في ألمانيا ظاهرة مستمرة منذ عقود طويلة نجمت عن اتفاق بين الشركات والاتحادات العمالية يدعو الى تقييد الأجور بغية ابقاء صناعة التصدير تنافسية وهو ما جعل اقتصاد ألمانيا المدعوم بالتصدير يتقدم ويحقق تعافياً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن ذلك يشكل غريزة تساعد على تفسير سبب تحول ألمانيا منذ أواخر حقبة التسعينيات من القرن الماضي من كونها رجل أوروبا المريض الى صورة البطل القوي اليوم.

جوانب مشرقة

ثمة جوانب تدعو الى الاعجاب بالنموذج الألماني، وعلى سبيل المثال فإن الانسجام بين الشركات والعمال كان أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء تفوق الأداء في الاقتصاد الألماني. وفي وسع الشركات أيضاً وبحرية تامة من دون خوف أو قلق من قيام الاتحادات العمالية بمطالبتها بفدية.

وقد لعبت الدولة الألمانية دورها من خلال رعاية نظام تدريب مهني كان موضع اعجاب كبير ومستحق. وفي الولايات المتحدة أصبحت احتمالات عثور الرجال من غير حملة الشهادات الجامعية على عمل أكثر سوءاً نتيجة الهبوط في وظائف التصنيع، وهو السبب الذي دفع الرئيس ترامب الى تبني الخط الوطني الاقتصادي، وعلى الرغم من أن ألمانيا لم تتمكن من تفادي هذه الظاهرة بصورة تامة الا أنها حافظت على المزيد من وظائف العمال التي تتوق اليها الولايات المتحدة.

التأثيرات السلبية

ولكن التأثيرات الجانبية السلبية لهذا المسار كانت جلية بصورة متزايدة، وقد أفضت الى جعل الاقتصاد الألماني والتجارة العالمية في وضع غير متوازن بشكل يثير القلق، ثم إن تقييد الأجور يعني درجة أقل من الانفاق على الصعيد الداخلي ونسبة أقل من الاستيراد، كما أن انفاق المستهلكين هبط الى 54 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي مقارنة مع 69 في المئة في الولايات المتحدة و65 في المئة في بريطانيا اضافة الى أن المصدرين يحجمون عن استثمار أرباحهم المجزية في الداخل، ولم تكن ألمانيا وحيدة في هذا التوجه فقد عمدت الى تجميع الفائض الكبير دول اخرى من بينها، على سبيل المثال، السويد وسويسرا والدنمارك وهولندا.

ومن شأن تمتع اقتصاد ضخم بفائض في الحساب الجاري مع توظيف كامل وبنسبة تتجاوز 8 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي وضع قيود غير منطقية على نظام التجارة العالمي، ومن أجل التعويض عن عواقب مثل هذه الفوائض والحفاظ على درجة كافية من الطلب بغية ضمان استمرار العمال في وظائفهم يتعين على بقية دول العالم أن تقترض وتنفق بمعدلات مقابلة. وفي بعض الدول، ولاسيما ايطاليا واليونان واسبانيا أفضى العجز المستمر في نهاية المطاف الى حدوث العديد من الأزمات، كما أن تحول تلك الدول الى الفوائض في مراحل لاحقة كان مكلفاً جداً. وقد جعلت تخمة التوفير المتواصلة في شمال أوروبا عملية التكيف والتعديل مؤلمة بصورة غير مبررة. وفي فترات الارتفاع الكبير في معدلات التضخم خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان سعي ألمانيا إلى التوفير بنسب عالية قوة استقرار جلية، أما في الوقت الراهن فإن ذلك يسهم في تأخير وعرقلة النمو العالمي ويشكل هدفاً يسعى اليه دعاة الحمائية من أمثال الرئيس دونالد ترامب.

التحول عن التوفير

هل يمكن اصلاح هذه المشكلة؟ ربما تستطيع ألمانيا ايجاد حل لها عن طريق زيادة الأجور كما فعلت الصين، ومعدلات البطالة الآن أقل من 4 في المئة، كما أن عدد السكان في سن العمل سوف ينكمش على الرغم من موجات الهجرة القوية. وبعد عقود من الهبوط بدأت تكلفة السكن بالارتفاع وهو ما يعني أن الأجور لم تعد عالية كما كان الحال في الماضي، ثم إن المؤسسات التي أسهمت في تقييد الأجور فقدت نفوذها وتأثيرها، وقد ترتفع قيمة اليورو أيضاً ولكن غريزة الحيطة والحذر في ألمانيا تظل متجذرة بصورة عميقة، وقد ارتفعت الأجور بحوالي 2.3 في المئة فقط في السنة الماضية وهي نسبة أقل بطئاً من العامين الماضيين، وربما يتطلب الرجوع الى مستويات معقولة في الفوائض العديد من السنين.

ويتعين على حكومة برلين المساعدة على تحقيق مزيد من الانفاق، وميزان الميزانية في ألمانيا انتقل من عجز بنسبة 3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في سنة 2010 الى فائض بسيط. ويطلق المسؤولون على هذه الحصيلة سمة الحكمة والتعقل ولكن في ضوء الوفورات العالية في القطاع الخاص يصعب الدفاع عن ذلك، اضافة الى أن لدى ألمانيا العديد من المشاريع القيمة التي تستحق الانفاق عليها، وقد تراجعت مستويات أبنية المدارس والطرقات في ذلك البلد بسبب القيود على الاستثمارات العامة، ويتخلف اقتصادها عن المسار الرقمي حيث وصلت ألمانيا الى المركز الخامس والعشرين في متوسط سرعة التحميل في العالم.

وعلى أي حال قد يكون الوقت تأخر كثيراً كي تدرك ألمانيا أن افراطها في التوفير يشكل نقطة ضعف، والسيدة ميركل على حق تماماً في الدعوة الى تجارة حرة ولكن يتعين عليها أن تفهم أن فوائض ألمانيا تشكل خطراً على شرعية التجارة الحرة نفسها.

الانسجام بين الشركات والعمال أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء تفوق أداء الاقتصاد الألماني

عندما عقدت قمة العشرين في هامبورغ أخيراً كان المسرح معداً لحدوث صدامات بين أميركا الداعية إلى الحمائية وألمانيا المطالبة بحرية التجارة
back to top