ما بين دمشق ودبي

نشر في 09-07-2017
آخر تحديث 09-07-2017 | 00:11
دول الخليج العربية، في معظمها، اتبعت ما يمكن تسميته بسياسة «الجدارة الرؤوفة»، القائمة على تنصيب الأجدر، في إطار الرأفة بالمجموع العام، في مقابل سياسات إقصاء، اعتمدتها نخب عسكرية استأثرت بالحكم، في دول جمهورية، لم تُقم وزناً للجدارة في فرز القيادات.
 ياسر عبد العزيز في الأسبوع الماضي، تلقيت على هاتفي واحدة من مئات الرسائل التي يتبادلها مستخدمو مواقع "التواصل الاجتماعي" يومياً، وهي رسالة تعرض صورتين إحداهما لدمشق، والثانية لدبي، في عام 1950.

لعلك تلقيت مثل هذه الرسالة، وغيرها كثير، من تلك التي تعرض ما آلت إليه أحوال بلادنا العربية في العقود السبعة الأخيرة، وهي رسائل تعتمد "تكنيكاً" متشابهاً عادة؛ إذ تُظهر صورة لحاضرة من الحواضر العربية الباهرة في منتصف القرن الفائت، في مقارنة لافتة مع إحدى المدن الصحراوية الواقعة في منطقة الخليج العربي آنذاك.

تُظهر المقارنة بين صورتي دمشق ودبي عام 1950، مجتمعاً زاهراً، وتنسيقاً حضارياً، وشموخاً معمارياً، ونظافة، ورقياً، في دمشق، في مقابل خيم، وجِمال، وأوضاع بائسة لسكان قليلي العدد، يعانون شحاً واضحاً في الموارد، في دبي. نحن نعرف الآن أن الصورة اختلفت تماماً؛ فتلك دبي، التي لا تتوقف عن إلهام العالم وإثارة انبهاره، عبر إنجازات ونجاحات لا تنقطع، يحميها استقرار سياسي، وتماسك اجتماعي، ووفرة، ورخاء، في مجتمع يخطو بثبات نحو المستقبل، ويجترح المعجزات.

أما دمشق، فكما أصبحنا نعرف، لم تعد حاضرة الأمويين، ولا عاصمة الثقافة والآداب، بل باتت تنام وتصحو على إيقاع الانفجارات وأصوات الرصاص، مفتقدة الأمن والاستقرار، فيما يعاني سكانها تداعيات الحرب الأهلية، وتكاليف القمع، ومخاطر الإرهاب.

من المؤكد أن مقارنات أخرى بين المدن العربية ظهرت في رسائل "التواصل الاجتماعي" أو حتى في وسائط الإعلام التقليدية؛ وهي مقارنات اعتمدت على التباين الذي تظهره الصور بين القاهرة وأبو ظبي، أو بغداد والمنامة، أو بنغازي والكويت، أو صنعاء والرياض، وغيرها من المدن التي جرت عليها أحوال الزمان فبدلتها تبديلاً.

يبدو أن بإمكاننا القول إن النظم العربية الملكية سواء كانت في دول مجلس التعاون الخليجي الست، أو الأردن، أو المغرب، ظلت بمنأى عما طرأ على الجمهوريات العربية من تطورات محزنة، سواء في سورية، أو العراق، أو ليبيا، أو اليمن، أو مصر، أو السودان.

لا يعني هذا أن الدول العربية الملكية لا تعرف المشكلات الجسام، ولا تواجه أخطاراً وتحديات بطبيعة الحال، ولكنه يعني ببساطة أن تلك الدول امتلكت آليات، وطورت سياسات، أمّنت لها الاستدامة، والتماسك، والنمو، عبر إدارة أزماتها بطريقة أكثر رشداً من تلك التي اعتمدتها أنظمة جمهورية، بدأت عهودها بآمال تطاول السحاب، قبل أن تفيق على حقائق مرعبة.

يقودنا هذا إلى طرح السؤال المهم: لماذا تراجعت دمشق وازدهرت دبي؟

ويأخذنا السؤال إلى مزيد من التساؤلات عن استقرار سلطنة عمان مقارنة بانهيار الدولة في اليمن، وتكرس مكانة الرياض، في مقابل تراجع دور مصر، وازدهار الكويت في مقابل انهيار سلطة بغداد، ونجاح التجربة الوحدوية في الإمارات في مقابل انقسام السودان؟

لقد نجحت الأنظمة الملكية لعدد من الأسباب؛ أهمها أنها استندت إلى شرعيات تقليدية مستقرة لم يظهر أي نزاع جدي بشأنها، في مقابل ما اعترى بعض النظم الجمهورية من اهتزاز في شرعيتها، ونزاعات على السلطة، برزت وتبلورت في عدد كبير من الانقلابات العسكرية، التي ضربت دولاً عدة تحكمها تلك النظم بامتداد المنطقة.

منذ بزغت زعامة القادة الخليجيين التاريخيين؛ مثل الشيخ مبارك الصباح في الكويت، والملك عبد العزيز في السعودية، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في الإمارات، حرص هؤلاء الزعماء على ترسيخ شرعية حكمهم، وحكم أسرهم من بعدهم، عبر سياسات تشاركية، بُنيت على الرضا والتفاهم مع التكوينات الاجتماعية الأساسية لبلدانهم، وهي سياسات ضمنت استمرار الولاء ونجاعة الشرعية. يعتقد البعض أن العوائد الهائلة التي وفرها إنتاج النفط كانت السبب الرئيس لاستقرار حكم الشرعية التقليدية في دول الخليج العربية، وأنه لولا تلك العوائد لما تمكنت تلك الدول من مواجهة الأزمات التي ضربت المنطقة، في أحداث دراماتيكية استمرت زهاء القرن. إن هذا الاعتقاد خاطئ، لأن الأردن والمغرب والبحرين لا تمتلك مثل تلك العوائد، كما أن دولاً عربية جمهورية امتلكت ثروات طبيعية ضخمة؛ مثل العراق وليبيا، لكنها أدارت تلك الثروات بنزق ورعونة، فكانت وبالاً عليها بدلاً من أن تكون ظهيراً للاستقرار والتنمية.

أدى النفط دوراً مؤثراً في ازدهار عدد من الدول العربية، لكنه لم يكن كافياً ليؤمن الاستقرار لأي منها، في حال لم تتبع سياسات رشيدة في إدارة عوائده، وفي تجنيب نفسها مخاطر المغامرات الكبرى التي أدمنتها دول جمهورية عربية أخرى.

حرصت الدول العربية الملكية، التي تُظهر الصور المتداولة أنها حققت إنجازات تنموية ضخمة وفريدة، على عدم التورط في نزاعات بينية بقدر الإمكان، وأدارت الخلافات بينها بأقل قدر ممكن من النزق والانفلات، على عكس بعض الدول الجمهورية التي سخرت طاقتها ومواردها من أجل أحلام التوسع والهيمنة.

عانت الدول العربية الجمهورية التي تواجه الاحتمالات السوداء راهناً تداعيات فادحة نتيجة أحلام قادتها التوسعية، وإصرارها على التدخل في شؤون الدول الأخرى، بداعي تغيير "الأنظمة الرجعية"، وخوضها بعض الحروب العبثية التي كان بالإمكان تجنبها.

اتبعت بعض النظم العربية التقليدية ذات النظم الملكية سياسات تسلطية، وأغلقت المجال العام، وحدت من حرية التعبير، لكنها لم تتورط في سياسات التعذيب وإرهاب المواطنين وقمعهم، مثلما فعلت دول عربية جمهورية، ادعت أنها دول حريات، لكنها غرقت أخلاقياً وسياسياً واجتماعياً في ممارسات غير إنسانية ضد معارضيها، أدت إلى تفسخ اجتماعي، واهتزاز في الشرعية.

وببساطة شديدة فإن دول الخليج العربية، في معظمها، اتبعت ما يمكن تسميته بسياسة "الجدارة الرؤوفة"، القائمة على تنصيب الأجدر، في إطار الرأفة بالمجموع العام، في مقابل سياسات إقصاء، اعتمدتها طوائف أو نخب عسكرية استأثرت بالحكم وحدها، في دول جمهورية، لم تُقم وزناً للجدارة في فرز القيادات.

ليس هذا استعراضاً لأسباب صعود وسقوط بعض الحواضر العربية، ولكنه تذكير بدرس، يجب أن تُستخلص منه العبر، ومفاده الحرص على الجدارة، والرأفة، وعدم التوسع والهيمنة، وترسيخ الشرعية، وتأدية الأدوار الإقليمية والدولية في حدود الطاقة والكتلة الحيوية.

* كاتب مصري

back to top