«الإنسان والكون» صدر بعد رحيل مؤلفه د. أحمد بشارة
يقع في 13 فصلاً جمعتها رفيقة دربه د. فريدة الحبيب
أن يلمّلم إنسان شتات صفحات رحل كاتبها فيجمعها ليعيد إلى الحياة أفكار الراحل وسيرته وجهده العلمي الرصين هو عمل نبيل، وأن يتصدّى إنسان بضمير شجاع لنشر عمل لم ينتهِ صاحبه منه تماماً ولم يسعفه القدر ليضع له خاتمة ما أو استنتاجاً غائباً فإنه وفاء جميل... هذا ما فعلته الدكتورة فريدة الحبيب حينما خاضت غمار نشر كتاب الأستاذ الدكتور أحمد عيسى بشارة «الإنسان والكون»، تقدمه علماً يُنتفع به، كواحد من ثلاثة لا ينقطع بها ذكر زوجها الراحل الكبير. وربما أرادت، من شقت نهراً يُستقى منه، أن يكون الكتاب صدقة جارية قبل أن يكون تخليداً لاسم يسكن وجدانها، وذكراه تبقى حية بين جدران البيت وأروقة الحياة. وفي ذلك تقول هذه الفريدة في مقدمتها للكتاب: «بعد رحيل أحمد وجدت نفسي أسبح في دموعي فإذا بي أشاهد جزراً من العلم والمعرفة في أوراقه التي تناثرت حولي في شتى أرجاء المنزل. شعرت بأنها أوراق أصابها زلزال فسقطت الحروف منها هنا وهناك؛ فقررت جمع شتاتها وصف حروفها على جهازي الشخصي، وتنازعتني شتى العواصف والعواطف و«صواعق البرق» لاكتشف أنها حافظت على نسقها وتسلسلها، وقد كتبها بخط جميل ليتسنى للذهن العربي البحث عما نشره الغرب حول الفضاء والزمن».على الرغم من أن الدكتور أحمد بشارة ترك «الإنسان والكون» مخطوطة لم ينتجها في صورتها النهائية، فإنها خرجت لنا كتاباً مكتمل الأركان يفتح آفاق النقاش والتساؤل حول موضوع الإنسان في هذا الكون وعلاقته به، وتطور مفهومه لقوى الطبيعة وسننها من فكر يتّسم بالخوف والوجل يفرض عليه وضع تفسيرات ميتافيزيقية بحتة، وصولاً إلى عصر ارتياد الفضاء واستكشافه، كما ذكر الأستاذ د. عدنان شهاب الدين، مدير عام مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في تقديمه الكتاب، وقال أيضاً إن الكتاب يمثِّل جهداً رائداً ورائعاً من شخصية علمية متميزة لم تسنح لها الفرصة لصياغتها بشكلها الذي تتوخاه، واصفاً ذلك بأنه يشبه إلى حد بعيد نشر مخطوطة مؤلفات عمالقة الموسيقى في العالم، ربما تكون غير مكتملة بشكلها النهائي كما أرادوها، بل إن فرق الأوركسترا العالمية تعزف تلك المقاطع كما تركها أصحابها تخليداً لذكرى أولئك الأفذاذ.
فهم الكون
يقع كتاب «الإنسان والكون» في 13 فصلاً متكاملة تتحدث عن فهم الأولين للكون والتغيرات المتلاحقة في علم الفلك ونظرياته، وهو ما أسماه الكاتب «الثورات»، ورصد ثلاث مراحل ثورية قبل أن يحدثنا عن الكون في عصر الفضاء ونشأة النجوم وأثر الثقوب السوداء في الحياة والطبيعة ومعلومات حول المجموعات الشمسية. وفي المحطة الأخيرة، يدخلنا الكاتب معه إلى بوابة فهم السماء ومبادئ الفلك، وهو مهّد لذلك كله بالحديث عن قصة البصمة الوراثية لنشأة الكون وتجاعيده، أي الفروقات التي أسست لنشأة الكون كما نعرفه اليوم.في البداية، يأخدنا د.أحمد بشارة إلى فهم الأولين للكون ويذكرنا بأن البابليين والمصريين هم أول من أسسوا فهم الإنسان للكون لارتباط فهمهم للظواهر الطبيعية بالزراعة أساساً، كذلك سلّط الضوء على دور اليونانيين في ذلك، خصوصاً من خلال فلاسفتهم أرسطو وزملائه، ثم تبني الإمبراطورية الرومانية الفكر الروماني، لافتاً إلى أن بطليموس بنى أول نموذج للكون في مدينة الإسكندرية، وفي نهاية هذا الجزء يذكرنا الكاتب بمقولات أرسطو عن السماء ومزايا نظام بطليموس وأسباب نبوغ اليونانيين في هذا العلم.الخرافة والفلسفة والعقيدة
وفي هذا المحور، يشير الكتاب إلى أن الثابت والخيط المشترك لفهم الأولين للكون مرتبط ومتداخل بشكل كبير في ثلاثة جوانب: الأول، الخرافة (الميثولوجيا) التي تعود إلى بدايات الإنسان؛ الثاني، الفلسفة التي هي نتاج عقل الإنسان مع تطوّره واتساع اتصاله بأطراف العالم المعروف آنذاك؛ الثالث، العقيدة الدينية وما رسمته من علاقة الخالق بالإنسان والكون خصوصاً، كما وردت في العهد القديم (اليهودية) والعهد الجديد (المسيحية) ولاحقاً الإسلام. ويعتبر الكتاب أن قدرة الإنسان على كشف أسرار الحياة والكون دليل على قدرة الخالق.ثورات
في ثلاثة أقسام من الكتاب يتناول د. بشارة، رحمه الله، ما وصفه بأنه ثلاث ثورات في علم الفلك، فيتحدث عن أفكار كوبرنيكوس الذي وصفوه بالمعتوه إذ اعتبروه معارضاً للكتاب المقدس، وغوردانو برونو، وتايكو بريه الذي اشتهر بدقة قياساته غير المسبوقة لآلاف الأجرام السماوية، وغراتس، ويوهانس كبلر، وغيرهم، موضحاً أنهم كمَّلوا جهد بعضهم بعضاً، قبل أن يأخذنا الكاتب إلى غاليلو وتجاربه الشيقة، وإدموند هالي الذي سمي مذنب هالي باسمه، ونيوتن الذي وضع مع زملائه العقل البشري في مكانة خاصة مطلقاً العنان لأجيال لاحقة من المفكرين ليدحضوا الجمود ويعملوا العقل. وفي عرضه لما وثق حول تلك الفترة، توصّل د.أحمد بشارة إلى أن نيوتن برهن بالقانون الرياضياتي مسألة ظلّت تؤرق الفلاسفة والعلماء، وهي لماذا لا تختلف سرعة الأجسام عند سقوطها على الأرض؟ وقال الكاتب إن غاليليو أثبت هذه المسألة بالتجربة قبل نيوتن بخمسين عاماً، لكن الأخير برهن المسألة بالقانون الرياضياتي، وقوانينه لها صفة الكونية؛ أي أنها تنطبق على كل مكان وزمان باستثناءات محدودة حدّد إطارها وقوانينها ألبرت آينشتاين بعد 250 سنة، فقوانين نيوتن بخصوص الجاذبية تنطبق على القمر والمريخ وزحل والنجوم والكواكب الأخرى.سرعة الضوء
ويمضي بنا د. أحمد بشارة إلى تجارب قياسات سرعة الضوء منذ أن تصدّى لها أولي رومر الذي توصّل إلى أن فرق فترة دوران القمر حول المشتري تعود إلى أن للضوء سرعة محددة، ومن ثم يكون المشتري وقمره أحياناً بعيدين عن الأرض، مبيناً أن القياس الأكثر شهرة كان من نصيب العالم مايكلسون بعد 200 عام على تجربة رومر وتجاربه الخلاقة. كذلك يلفت إلى أنه خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تطوّر فهم العلماء لخصائص الضوء، معرجاً على تجارب العالمين الأميركي روسيل والدنماركي هيرتز برنغ، وتوماس ميلفيل، والبريطاني ويليام وزوجته مارغريت هينغنز اللذين طورا علم قياس الطيف. وفي ذلك، خلص د. بشارة ألى أنه مع بداية القرن العشرين حصل تقدم كبير في فهم الكون والأجرام السماوية وحصر لعدد كبير من النجوم وقياس أبعادها، والتي استعرض فيها نظريات آينشتاين وعبقريته وما تبعها من تفسيرات وتجارب سعت إلى فهم الإنسان للكون وظواهره بقدر ما أثارته من تساؤلات وفتحت أبواباً متعددة للبحث، ومنها ما توصّل إليه إدوين هابل من أن الكون يتكون من أكثر من مجرة، وهو اكتشاف مهم للغاية آنذاك، وما تبعه من استنتاجات وسّعت من حجم الكون وارتفاع عمره. وقال د.أحمد عيسى بشارة إنه مع حلول منتصف خمسينيات القرن العشرين تحسّن فهم الإنسان لنشأة الكون وتطوره، وتضاعفت البراهين والنتائج على صحة الانفجار العظيم.الثقوب السوداء وبقايا المجموعة الشمسية
يشير صاحب مخطوطة «الإنسان والكون» إلى أن اهتمام العلماء بالثقوب السوداء يعود إلى اعتبارات أربعة، لعل أهمها أنها تمثّل حالة شبه فريدة تلتقي عندها نظريتا النسبية العامة لآينشتاين والكم، فضلاً عن أنها جزء من مكونات الكون، وأنها آخر مآل لكثير من النجوم، وذلك قبل أن يحدثنا عن بحوث الثقوب السوداء فيعرض الجهد العلمي الكبير لستيفن هوكينغ ثم يتناول نشأة بيئة الحياة في الكون، وفي الختام يقودنا إلى مدخل لفهم السماء ومبادئ الفلك ويبين فيها أن فصول السنة الأربعة تعود إلى وجود ميلان في محور الأرض الخط الوهمي بين قطبيها الشمالي والجنوبي، وهذا الميلان يعطي كوكب الأرض خاصية فصول السنة، وأن قياس الضوء القادم من النجوم وبقية الأجسام السماوية كالكواكب والمجرات أول وأهم أدوات القياس رغم التطور الكبير الذي شهده هذا المجال، وأن نظام تصنيف الأجسام السماوية وفق إضاءتها والذي يعود إلى عالم الفلك اليوناني هيباركوس في القرن الثاني قبل الميلاد، تطوّر بفضل الأدوات الحديثة، وأصبحت الإضاءة تحسب بمقياسين: القدر الظاهري والقدر المطلق.ومع استعراضه المسهب لعلاقة الإنسان والكون يقول د. بشارة: «كانت الرحلة طويلة وشاقة ساهم فيها آلاف العلماء، لم يكن بالإمكان تتبع مساهماتهم جميعاً، فالقصد كان رصد التطورات الكبرى التي دفعت إلى فهم الكون وبناء نظرياته التي أدت إلى تراكم المعرفة البشرية المبنية على التجارب الدقيقة والمعلومات الموثوقة والتحليل النظري، منذ أن نظر أول إنسان على الأرض إلى السماء».كتاب «الإنسان والكون» مخطوطة مهمة ومصدر إلهام للمعرفة والبحث والاستشراف والتساؤل وإعمال العقل، ونقل من خلاله د. أحمد عيسى بشارة محاولة لتبسيط فهم الكون والتي كان للعالم الفلكي الكبير كارل ساغان دور مهم في ذلك، وقد أثرى د. بشارة مخطوطته الفريدة بما رسمه من أشكال توضيحية لبعض النظريات الفلكية، وهو جهد علمي رصين سعدنا به، وهو يبين مجدداً أنه برحيل د. أحمد بشارة فقدنا عالماً جليلاً وقيمة فكرية أجهدت نفسها كثيراً من أجل المعرفة ولتحسين واقع الإنسان... والحياة. شكراً دكتور أحمد بشارة... شكراً دكتورة فريدة الحبيب... شكراً أيها العلم.
د. بشارة أثرى مخطوطته الفريدة بأشكال توضيحية لبعض النظريات الفلكية
«الإنسان والكون» مصدر إلهام للمعرفة والبحث والاستشراف والتساؤل
«الإنسان والكون» مصدر إلهام للمعرفة والبحث والاستشراف والتساؤل