الشاعرة اللبنانية د. جميلة عبد الرضا: القصيدة لا تنفصل عن كيان الشاعر

نشر في 06-07-2017
آخر تحديث 06-07-2017 | 00:00
ليست الكتابة أو الشعر بالنسبة إلى الدكتورة جميلة عبدالرضا مشروعاً هندسياً تعمل على صياغته، أو حرفة تتقنها، فرغم أنها طبيبة وترتكز في أساس مهنتها على العلوم، تحرص عندما تترك مبضعها جانباً، على الانعتاق كلياً من شخصية الطبيبة والتحليق بعيداً في عالم المشاعر والروح. وهي وإن كانت تعمل على إكمال مجموعة شعرية جديدة لها، فإنها لا تضع لها ضوابط زمنية ومكانية، بل تترك قلمها على سجيته يتنقل بحرية بين الذات والوجود.
عنوان ديوانك الثالث «يشدّني المكان.. يكسرني العطر»، ما العلاقة التي تربطُ المكان بالعطر عند الشاعر؟

ليست الأبعاد الهندسيّة للأمكنة هي وحدها ما يجذبنا أو يحرّك عواطفنا، إنما تذكُّرُنا البيوت والساحات والغرف هو إحساس بالانتماء، بأننا نسكن داخل انفسنا، وأننا بدءاً من القلب نفتح نوافذ الروح والنفس على الأمكنة وجهاتها، فالمكان مستودعٌ للذكريات، مخبأ أو مفتوحٌ، يُضفي على الذاكرة جمالاً أو تشويهاً، مشاعرَ وانفعالات. هو بدء المعرفة الأولى، بيت الطفولة، موسومٌ بخصوصّية تنزع إلى امتلاك المكان، فنحن نؤثّر فيه ويُوثّر فينا بتحريك المشاعر الدفينة، واستحضار الذكريات واستنطاقها من خلال إيحاءات محفزّة للخيال، إلى درجة أنسنة المكان تحت ايقاع بصري تأمّلي حركي... هو منطلق الشاعر في علاقة عميقة الجذور. هو ارتباط حميميّ نفسيّ عاطفي.

أما العطر، فلكل إنسان عطر خاص، لكل إنسان بصمة يتركها عالقة في كهف الذاكرة... لكل مكان عطر، للأشخاص عطور ورائحة تربطهم بذاكرتنا ارتباطاً يُوثّقُ المكان بالإنسان. تلاحقني العطور والأمكنة، ورائحة الأمكنة البريّة والبحريّة، المفتوحة والمغلقة، من جغرافية حواسي وأمكنتي.

ألا يرتبط فَوُح الحبق بذكرى الجدات؟... ألا يرتبط عطر الجنة بالأمهات؟ أليس للحبيب رائحة النرجس؟ ألا يرتبط عطر الحنين بزهر الليمون والصنوبر... ورائحة المطر الأول..؟ بإيقاظ ذاكرة مفتوحة تستحضر الغائب، تستحضر المكان والحبيب وتستنطقه. ربما للشاعر إرهاف وحساسية مفرطة لإيقاظ كل هذه المشاعر وأنسنتها.

شخصياً، أنا مرهفة بأحاسيس دافقة، وحاسة الشم عندي مرهفة. وهكذا أنقاد أحياناً بلغة الحواس المحفّزة إلى يقظة الروح والعواطف الغافية أو الساكنة. لذا، الشاعر والمكان والعطر ثالوث حواس متناغمة.

بين الأنا وذات الشاعرة

جاء في مقدمة الديوان: «هذا الكتاب أهديه لي من أوّلي إلى آخري»، هل كانت ذاتك تائهة عنك وعثرت عليها في مكان ما، فكان هذا الديوان؟

الذات الشاعرة هي تائهة، هائمة في توقٍ إلى وصول. هذا الكتاب، ربما كانَ مرحلة كشف الذات أكثر، بهدف بلوغ توازنٍ ما. هنا بسطت الذات مداها.. وصارت هي أرض الروح وفضاءاتها. هنا تماسك الذات وليس فقط التمسك بها، تصالح مع الذات... انغماسٌ يكاد يكون كلياً مع انسجام توحدي بقدر ما هو توق إلى الراحلين. هو التصالح وسط هذة الهشاشة الخارجية، ويقيّني أكبر بأن النفس هي أكثر ما يحصّن هشاشتنا الداخلية، في وجه هشاشة قاسية وصعوبات وعراقيل خارجية، من هنا الكتابُ للذات الصادقة مع ذاتها المفتوحة على الآخر. هو لي من أولي إلى آخري.

تتضمن دفتا الديوان خمسة وسبعين نصاً، هل هي نابعة من مصدر واحد هو أنت، أو متشعبة إلى الآخر والغير؟

يبدو الديوان كأنه وحدة متناغمة ذات إيقاع خاص، لكنه يتناول موضوعاتٍ تتشعّب عن اعترافات الذات ونظرة تأملية وجوديّة، من ضمن شحنة عواطف، توجّسٍ وجمالٍ أو تشظٍ. هي موجهة من الداخل بكل ما يمسّها من إيحاءات داخلية وخارجية، وإلى كل ما يحيط بها من العالم الخارجي المحدد، إلى العالم الإنساني، ونحو العالم، نحو الآخر. أي ألم في محيط خارجي إنما يلمس وجداننا وعقلنا، فنحاول صياغة الانفعالات بايقاعات متعددة.

الديوان هو الثالث بعد «أجدل نهراً كي لا أغرق»، و«سبع مرايا لسماء واحدة»، هل ثمة قاسم مشترك بينها؟

حين أصدرت ديوان «أجدل نهراً كي لا أغرق» كنت في عملية بحث عن الهوية، والافصاح عنها. حينها قررتُ النشر وأكملُت البحث. وعندما اتسعت دائرة القلق الوجودي والذاتي، شعرت بأنني أمام مرايا الروح، فكان الكتاب الثاني، إنما هنا لم أعد إلى مسيرة مكملة نحو الذات أكثر، فكان ثالوث الكتب أشبه بهوية. نعم ثمة قاسم مشترك ولو تعددت المواضيع.

بين ديوانك الصادر في 2015 وديوانك الثالث في 2017، كيف تطورت تجربتك الشعريّة أسلوباً ومضموناً؟

بين كشف الذات والرؤية وإرضاء الذات وإروائها بحثٌ دائم في تجريب اللغة وإيقاظ المشاعر الإنسانية والبُعد الإنساني. صياغة التجربة مع العالم حميمة، بالمعنى والأسلوب، إلى أن نصل إلى اختزال المعاني وتكثيف المشهدية ببساطة، مع الوقت يصير لمس قلب الآخر وعقله نتاجا مفتوحاً على الاحتمالات كافة. خلاصة القول، لا أستطيع أن أعطي رأيي بتجربتي ولكن يبقى الرأي للمتلقي، وأصحاب المعرفة الأدبية.

كيف تصفين حضورك في قصائدك؟

الذات هي التي تؤكد حضور الشاعر في قصائده، انعكاس حياتنا بتفاصيلها اليوميّة، رصد الحكاية ومشهدية الانفعال. أظن أن حضوري في القصيدة لا يختلف عن روحي أو عن صوتي وحركتي. لا تنفصل القصيدة عن كيان الشاعر... بل يتكاملان.

لغة الطبيعة

تتخذين من الطبيعة لغة للتعبير عن مكنوناتك إلى درجة الاتحاد بها، ما سر هذة العلاقة؟

هي مرآة انعكاس كتابيّ أو معيشيّ.. أسلوب حياتيّ. أنا ابنة طبيعة مفتوحة على البحر من ناحية وممتدة على الساحل من ناحية أخرى، تتمادى مع جهات الحنين، من زهر البرتقال إلى فوح الصنوبر إلى شجر الكينا حارس بيتنا الأول. هي طبيعة مفتوحة على التساؤلات والذكريات والحنين والعطور الطبيعية، النرجس والحبق والغاردينيا والعصافير. هنا الطبيعة تنتمي إليك... تظنها ملكاً لك لوحدك، ببحرها وسهلها، والنوافذ مفتوحة على كل الاحتمالات. كيف لا أتأثر بهذا القاموس العابق بفوح الحنين، ويا ليتني أقدر أن أصل أو أتذكر.

هل تبحثين في شعرك عن الكمال في التجربة والحياة أم تتوقين إلى عيش مجرد لحظات منفلتة من الزمان والمكان... أم رسم عالم على مستوى طموحاتك؟

كلّنا نتوق إلى الكمال، قد نصل وقد نبقى على خط تماس، هي الشعرة الفاصلة، الخيط الرفيع بين الوصول والهروب، هو التوق إلى الحرية، هو الشوق إلى ضوء الكلمات، هو القلق الهاجس للوصول، وربما هو هذيان اللحظة المعاشة، أو قد يكون ذلك كله.

إلى أي مدى يشكل الشعر، بالنسبة إليك، خشبة خلاص من أمور كثيرة من بينها الواقع اليومي المأزوم على الصعد كافة؟

إنه خلق وضعيّة... متنفس للرئتين، نعم القصيدة هي ولادة لحياة أخرى ذات مذاق ملوّن. قد نقول أنها خلاص ونجاة من موت معنوي... من واقع متأزم، من يوميات مشوهة، روتينة، الشعر كتابة الحياة وموت في حياة... تتنوع القصائد من ناحية الحجم.. بعضها طويل، وبعضها الآخر قصير ومكثف المعاني.

هل الفكرة تُحدّد الحجم أم التعبير عن حالة نفسية معينة؟

قد تكون الفكرة كالطلقة، نافذة بسرعة البرق، شبيهة بومضة تُصوّب نحو الهدف، نحو المعنى، الصورة والمشهدية، وقد تأتي القصيدة على مراحل المشاعر ومزاجها، أو تفاعلها في الداخل والخارج. لا يُحدد حجم القصيدة معنى النص أو فكرته أبداً، إنما أميل أكثر إلى التكثيف في المعنى والمشهد، وأحياناً تميل القصيدة إلى مشهدية السرد.

أين موقع الـ «أنا» الأنثوية في شعرك؟

لا شك في أن القصيدة تلبس ألواني وعطوري وانفعالاتي والنظرة بلغتها وحميميتها، والـ «أنا» المتشبعة بالحنين. إلا أن الأنثى هنا ربما حضرت بألوانها كافة لتلمس، في أماكن كثيرة، البُعد الإنساني والأسئلة الوجودية.

تعتمدين الرمزية في كتاباتك، وبعضها تستوحيه من التراث العربي، إلى أي حد يساهم هذا الأسلوب في إغناء تجربتك الشعرية؟

الرمزية في كتاباتي.. أو الاحتفاء بالصور المجازية، ما هو الا تبادل وظائف الحواس، فالعين تقرأ والأذن تسمع استدراج أصابع الصمت للهروب بالذات من الذات، الانفتاح على كل الاحتمالات، تهجئة قصائد الصمت. أما الترات فهو وجه آخر من الطبيعة... من الأمكنة، وربما من الطبيعي أن نتأثر بما تحمل ذاكرتنا من عبق البخور أو الحبق.

الفوح الشرّقي، أن ينطبع في ذاكرة تستحضر بالوعي مكنونات دواخلنا، إنما هو تأثر مفتوح برموز حبيبة إلى النفس ومفتوحة على الإنسانية.

إثراء التجربة هو جهد مستمرّ بلمس واقع وتجارب مقروءة ومسموعة بقلب مفتوح، ورؤية مفتوحة على جماليات الأمكنة وألوانها، وهندسة الموسيقى ومزجها، الإصغاء إلى الروح، إلى الآخر، التوق والتوق...

طبيبة شاعرة

جميلة عبد الرضا طبيبة تكتب الشعر... فهل هو بالنسبة إليها هروب أم متنفس من يومياتها مع المرضى، وما يرافقها من مآسٍ ومعاناة؟ تجيب: «الكتابة أو الشعر موجودان معي حتى في عملي، قد أسرق اللحظة حين يطفو إيحاء ما، قد تكون الكتابة هروباً من الذات إلى الذات، قفز ولهاث لا ركون ولا استكانة في واقع الشعر والكتابة.

تضيف: «الطب مهنتي وهو أيضاً ممسوس بإصغاء إلى الروح والجسد، إصغاء جديّ، عقلانيّ بمسؤولية للحواس المتأزمة والموجوعة للنفس البشرية والإنسانية. ولكن أُطر الشعر المنفلتة الفنية لها درب آخر حر، وتشظيه أقوى وأوجاعه أصعب، لا شفاء منه إلا الوقوع فيه كلّ مرة» .

أنقاد أحياناً بلغة الحواس المحفّزة ليقظة الروح والعواطف الغافية أو الساكنة

الطب مهنتي وهو أيضاً ممسوس بإصغاء إلى الروح والجسد
back to top