من دفتر الذكريات... الدكتور جابر عصفور كما عرفته

نشر في 04-07-2017
آخر تحديث 04-07-2017 | 00:09
 د. علي عاشور الجعفر هأنذا تعود بي الذكريات إلى ثمانينيات القرن المنصرم حين تعرفت إلى أستاذي الجليل خالد سعود الزيد (1937– 2001) رحمه الله، ذلك الرجل الذي أحسن وفادتي، وقربني إليه لأكون أحد تلاميذه، وقد قلدني بذلك شرفا عظيما لا أزال في نعمائه أعيش. لقد كان له الفضل في توسيع مداركي المعرفية وتنوعها، كما كان- رحمه الله- يُقَوّم ما أكتب من نصوص أقدمها لأساتذتي في الجامعة، لتغدو منضبطة نحويا وأسلوبيا.

كنت أتردد على الزيد في رابطة الأدباء، وذات يوم من أيام صيف 1983 أخبرنا الدكتور عبدالله العتيبي– رحمه الله– بأن قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الكويت سيحظى بقدوم أستاذ من جامعة القاهرة من طلاب طه حسين سيكون له شأن في ارتقاء القسم، وحين تساءلنا: من يكون؟ قال: إنه الأستاذ الدكتور جابر عصفور.

لم أكن أعرف شيئا عن صاحب الاسم؛ فقراءاتي كانت منصبة في عمق على الأدب في الكويت وتراثها الشعبي، وعندما وصل أستاذنا إلى الكويت مع بداية العام الدراسي (1983- 1984)، دخلت عليه مكتبه مرة سائلا إياه عن مواطن الجمال في بيت لعنترة بن شداد، فكانت إجابته السريعة لي مذهلة، إذ كانت هي المرة الأولى التي أسمع فيها تحليلا لبيت من الشعر على النحو الذي ذكره، وكيف أن تكرار الحرف في البيت أعطى نوعا من الإيقاع الذي يتضافر مع إيقاع الوزن الشعري للنص.

من حينها أخذت أتردد عليه في الكلية حتى سمح لي بزيارته في سكنه الذي كان ضمن الحرم الجامعي في الشويخ، وراح يوقف عليّ ساعات وهو يقرأ نصوصا من الشعر المترجم، وأخرى من الشعر العربي المعاصر لشعراء من مثل: محمود درويش، وأدونيس، وصلاح عبدالصبور، والسياب، وأمل دنقل وغيرهم.

كنت وصديق العمر الدكتور عباس يوسف الحداد والعزيزة الشاعرة سعدية مفرح نلتقي بالدكتور جابر كل أربعاء في مكتبه في الكلية، نتحاور معه فيما نقرأ، وفيما نتلقى من معارف، كما كان يلقي بعضنا قصائده أو يقرأ مقالاته، وكان حفظه الله دائم التشجيع والحثِّ لنا على القراءة والكتابة.

لقد خلق جابر عصفور أثناء وجوده في قسم اللغة العربية وآدابها وبالكلية جواً علميا أشبه ما يكون بالعاصفة الجميلة التي فتحت آفاقا جديدة لطلاب العلم التواقين للتجديد، وكان من بين المقررات التي درسناها على يديه مقرر نقد تطبيقي شعر، ومن هذا المقرر استمعنا فيه إلى تحليلات عميقة تجلت فيها الرؤى النقدية المعاصرة؛ تلك التي كان أستاذنا يمتلك أدواتها بجدارة النقاد الحاذقين. هكذا عرفنا قصيدة القناع وحضورها في قصيدتي "صقر قريش" لأدونيس و"من أوراق أبي نواس" لأمل دنقل، ورمزية المطر عند السياب في أنشودته، ومرايا صلاح عبدالصبور في "رسالة إلى سيدة طيبة"، متدرجا معنا بالنصوص من مدرسة الحكمة والشاعر الحكيم عند البارودي وشوقي إلى رومانسية علي محمود طه مرورا بنصوص خليل حاوي الفلسفية وغيرهم. كل ذلك كان يشكل صدمة في ذوقنا الشعري الذي ما تجاوز مدرسة شوقي وحافظ وبعض شعراء المدرسة الرومانسية.

وقد أتاحت الكويت للدكتور جابر عصفور الفرصة للأخذ بترجمة بعض النصوص النقدية، مثل كتاب رامان سلدن "النظرية الأدبية المعاصرة"، فكان كلما انتهى من ترجمة فصل من هذا الكتاب قرأه علينا بصوت مسموع وبدأ بسؤالنا عن نصيب النص من الوضوح لدينا، وبالفعل كنا نعطيه رأينا واضحا صريحا، وكان يأخذ بآرائنا ويقوم على تعديل صياغة النص بما يجعله واضحا لكل قارئ قدر المستطاع.

في هذا الكتاب تعرفنا إلى أسماء أساطين الفكر النقدي ومدارسهم النقدية المختلفة كمدرسة براغ والشكلانيين الروس، وميخائيل باختين (1895-1975) لا سيما في كتابه "شعرية دوستويفسكي"، وآراء جوليا كريستيفا في التناص، وبنيوية رولان بارت (1915-1980) وكتابه S/Z الذي كان علامة بارزة لتحوله إلى ما بعد البنيوية، وميشيل فوكو (1926-1984) وأفكاره عن مفهوم المعرفة والسلطة، وانتهاء بتفكيكية جاك داريدا (1930– 2004). هذه الأسماء كان لجابر عصفور الفضل الأول في تعرفي إليها، وهي التي وسعت من آفاق أفكاري في دراستي العليا بجامعة إنديانا بالولايات المتحدة، لتصبح جزءا من أطروحة الدكتوراه التي قدمتها عام 1998، بل إن أفكار باختين- وبخاصة في مفهوم الحوارية وتعدد الأصوات- ما زال صداها مسموعا في بعض أبحاثي العلمية، وهي التي حفزتني إلى أن أتبنى في معظم دراساتي في التربية وأدب الأطفال مفهوم الدراسات البينية Interdisciplinary Approach.

وفي عام 1985– على ما أذكر- ترأست الأستاذة الدكتورة سهام الفريح قسم اللغة العربية وآدابها، وكانت من بين الأفكار التي طرحتها أن يقوم الطلبة بعمل بحوث علمية ترسلها إلى محكمين لإبداء الرأي، ثم تعقد لها جلسة سمنار لإلقائها ومناقشتها بحضور أعضاء هيئة التدريس وبعض المدعوين من خارج الكلية، فاشتمل الموسم الأول على أربعة أبحاث أعدها: الصديق عباس الحداد، والعزيزة الشاعرة سعدية مفرح، وأحمد الدوسري وكاتب المقال. وكان موضوع بحثي في شعر أحمد العدواني، أما المشرف على البحث فكان الدكتور جابر عصفور، وأذكر جيدا أنني كتبت البحث بصورته الأولى في أسبوعين، وقدمته إليه فسألني: كم استغرقت من الوقت في كتابته؟ قلت أسبوعين. فمزق البحث قبل أن يقرأه. وقال لي: لا يوجد بحث محترم يكتب في أسبوعين، اذهب واقرأ شعر العدواني جيدا، ولنتحاور في الصورة الكلية التي تريد أن تقدم بها الشاعر، ثم نسير خطوة خطوة، عرفت من كلماته أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، وهكذا عكفت على شعر العدواني لأشهر، أقرأ وأتحاور وأمزق ما لا يرضيني مما أكتب حتى استوى البحث على عوده، بعد أن راجعه وأضاف إليه من أفكاره.

لقد كنت في تلك الفترة قريبا جدا من المرحوم الشاعر أحمد مشاري العدواني (1923- 1990)، تجمعني به جلسة أسبوعية في السنوات الخمس الأخيرة من حياته، وفيها عرفت دقائق شعره التي ضمنتها البحث، ونشرت البحث في مجلة البيان التي تصدرها رابطة الأدباء في الكويت، إضافة إلى إلقائي إياه في اليوم المخصص لي بالسمنار على أساتذة القسم. كانت هذه التجربة ورشة تطبيقية على الكتابة العلمية أفدت منها في قابل الأيام، وتعلمت ما أعانني على كتابة بحوثي في دراستي العليا؛ ولا أزال مدينا لأستاذي الجليل بصبره الجميل على تلميذه، ورعاية خطواته الأولى على طريق الدرس العلمي المنهجي.

في تلك السنوات الذهبية بجامعة الكويت تعرفت على أساتذة فضلاء كان لي شرف الاتصال بجليل علمهم، كالدكتور محمد رجب النجار (1941- 2005)- رحمه الله- وأستاذي الدكتور سليمان الشطي والدكتور عبدالله المهنا، وازدانت تلك الكوكبة بتعرفي إلى الدكتور أحمد الربعي (1949– 2008) رحمه الله، وكانت تجمعه صداقة خاصة بمعلمي خالد سعود الزيد، وكنت عزمت وقتها على عمل ملتقى أسبوعي في مسكني الذي كان وقتئذ بمنطقة المنصورية، يلتقي فيه جمع من المفكرين من أساتذتي وأصدقائي ممن أسلفت ذكرهم، وكانت روعة اللقاء تتجلى عندما يقرأ خالد سعود الزيد نصا لابن الفارض ثم يبدأ بتأويل النص تأويلا صوفيا، فينطلق الدكتور جابر بقراءته النقدية الرفيعة على النص، في حين يرحل الدكتور الربعي بالنص إلى آفاق فلسفية، ونحن الطلاب نستزيدهم لتمضي الساعات سريعة، ونحن لا نزال مأخوذين بجمال النص وملقيه وشارحه ومفلسفه. وكانت تلك اللقاءات من أيام العمر التي لا تنسى.

توثقت عرى علاقتي بالدكتور جابر وباتت علاقتي به أسرية، إذ كانت زوجتي- رحمها الله- تعامل معاملة الابنة في بيت الدكتور جابر، وكانت عقيلته "أم حمادة"- رحمها الله- نعم الأم، ونعم السيدة الكريمة؛ إذ كانت تتلقانا مع ابنتها سهى- رحمها الله- والعزيز أحمد بكل الحبِّ. وتطورت العلاقة إلى الصحبة في السفر، أو اللقاء بالقاهرة أو الكويت، فكنت الابن والصديق والتلميذ لأستاذي الدكتور جابر وأسرته الكريمة.

ولست أنسى قلقه البالغ علي- وبالتأكيد على بقية تلاميذه- أيام الاحتلال العراقي للكويت، فاتصلت به وأنا في لندن يومها لأطمئنه عليّ، وذهبت إلى القاهرة بعد تحرير الكويت مع أستاذي الزيد وسلمنا عليه واستقبلنا كعادته بالحفاوة المعتادة وكان يومها الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة.

ولا ينكر أحد الدور البارز الذي قام به الدكتور جابر عصفور إبان تقلده منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، أو عند رئاسته للمركز القومي للترجمة. إن المطبوعات التي أصدرت والفاعليات التي أقيمت في عهده والكتب التي ترجمت تساوي في مجموعها كل ما أنتجته الحقب السابقة.

وهأنذا الآن وبعد ما يربو على الثلاثين عاما من تخرجي من جامعة الكويت أكتب هذه السطور حبا ووفاء واعترافا بالفضل للدكتور جابر عصفور ولعقيلته الفاضلة المرحومة ثريا الجندي (أم أحمد) وللعزيزة الراحلة الدكتورة سهى (سهير) والعزيز أحمد. إنهم أسرتي وأحبائي ومن سأظل لهم ذاكرا ومحبا، ويبقى أستاذي الدكتور جابر عصفور قامة كبيرة في حياتي مع غيره من القامات ممن أدين لهم بتكويني الثقافي والإنساني.

تحية وسلاما لك أستاذي الجليل سائلا المولى عز وجل أن ينسأ لك في الأجل، ويبارك في العمل لتظل لنا معلما نهتدي به، وقدوة وملاذا لي ولكل تلاميذك ومحبيك والعارفين بفضلك.

back to top