مهدي منصور: الشعر لم يعد قادراً على إسعاد العالم

• يستعد للمشاركة في فعاليات «معرض بيروت للشعر العربي»

نشر في 28-06-2017
آخر تحديث 28-06-2017 | 00:00
مهدي منصور شاعر لبناني شاب، جمع بين الفيزياء كتخصص وبين الشعر وسيلة تعبير وغوص في روحانية الوجود، لذا استطاع إلى حد بعيد أن يؤنسن الفيزياء ويفكك طلاسم الشعر مضفيا في كلا تجربتيه طابعاً إنسانيّاً شاملاً و بُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس الإنسانيّة و يطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته.
برز في برامج تلفزيونية تعنى بالشعر ونال جوائز وميداليات وأوسمة نظراً إلى فرادة تجربته الشعرية ونبضها بالتساؤلات التي تفتح آفاقاً على مسائل الكون اللامحسوسة. وهو ما يبدو جلياً في دواوينه الشعريّة: «متى التقينا»، «أنتِ الذاكرة..وأنا»، «قوس قزح- للأطفال»، «كي لا يغار الأنبياء+ سي دي خاص بالمجموعة»، «يوغا في حضرة عشتار» (فاز بجائزة ناجي نعمان الادبية وطبع على نفقة الجائزة)، «مريم»، «الأرض حذاء مستعمل»، «أخاف الله والحب والوطن».

أنت شاعر وحصلت على دكتوراه في الفيزياء، كيف توفق بين الشاعر الحالم والفيزيائي الذي يعمل على جزئيات الواقع؟

دخلت الفيزياء على شعري من باب الشعر الأوسع ألا وهو الخيال. وما كان لي وأنا أتعاطى من عالمين غير مرئيين، الجزئيات أعني واللحظة الشعرية، إلا أن أقتنع بالحدس عيناً ثالثة لكي أرى.

أعتقد أن الفيزياء هي شعر الكون، والشعر هو عروض هذا العالم، سواءً كتبت عروضيا أم لا، أقصد بناء هذا العالم، فما يستطيع أن يراه الشاعر قد يقدم له كفيزيائي أكثر بكثير مما يستطيع أن يراه الفيزيائي، يقول فرويد: ما توصلت إلى شيء إلا وأسبقني الشعر إليه. نظريات معقدة مثل النسبية لا يمكن فهمها إلا على نحو شعري، فلا أحد يمكنه فهم غرابة الفيزياء ويجيد قراءتها إلا الشعراء، فلو سألنا فيزيائياً: ما الماء؟ سيجيب بأنها مركب كيمائي، أما الشاعر فسيرى أنها: جهنم النار، والفرق بين الفيزيائي والشاعر هو أن الأول يضع القوانين لظواهر الطبيعة أما الثاني فيعمل على كتابتها كقصائد، وفي النهاية فإن جبران يقول إن بين العالم والشاعر مرجاً أخضر لو قطعه العالم لبات فيلسوفاً، ولو قطعه الشاعر لبات نبيا، وبالمناسبة أنا لا هذا ولا ذاك أنا أسعى في المرج الأخضر.

بين ديوان «متى التقيا» (2004) وديوانك الأخير «أخاف الله والحب والوطن» (2016) كيف تطوّرت تجربك الشعرية؟

أترك هذا النقاش للنقاد مع معرفتي الدقيقة بمواطن التطور في تجربتي ابتداءً من الأسلوب وليس انتهاءً بالنظرة إلى العالم.

ماهية الوجود والحياة والموت

أنت شاعر يحرك القلق يراعه، فهل هذا القلق بالذات يجعلك تغوص في أعماق الغيب لإيجاد أجوبة عن ماهية الوجود والحياة والموت؟

ما يؤرقني الآن ما إذا كان يستمع الشعر لصوت الناس. لم يعد الشعر قادراً على إسعاد العالم . كنت أرى أنّ العالم قذرٌ جداً والشعراء كنّاسوه... بتّ أرى أن الشعراء تكاسلوا عن جعل العالم مكاناً أفضل وأكثر حياةً. إذا كان الشعر من فضة فالموت من ذهب... لعلّ الموت أفضل نهاية لنصوص حيواتنا التي نحياها بالقلق والترقّب. الشعر آخر الملذّات التي تحوّلت إلى ترفٍ ثقافي. الشعر الذي أسّس اللغة واللغة التي كتبت الفلسفة والفلسفة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. إذن الشعر هو السبب في القتل، قتل كل شيء حتى نفسه.

في قصائدك يبدو عشقك إلى درجة الوله، فأي امرأة تؤجج قلبك وعقلك وتحرك فيك هذه الرغبة في الكتابة؟

أغرب ما في الكتابة أنها مؤنثة ولا يتوقف عن احتلالها الشعراء..

تعجبني المرأة التي لها عادة الأشجار، عادة أن تبوح بالحياة اخضراراً وأفياءَ مهما تكتّمت عن رغبة المياه الجوفية بالجريان المرأة التي حين أكتبها أقف بلا قدمين... وحين تقرؤني تقع أرضاً من دون أن تشعر بالدوار..

تبدو في قصائدك باحثاً عن ذاتك، تتلمس بعضاً من ملامحها في المكان والزمان أو في الآخر، ما سرّ هذا الغموض الذي يلف الذات الشاعرة لديك؟

ليس في الشعر ما هو نهائي، أعتقد أن هذه الكتلة اللازمنية، الشعر، هي آلتي الفضلى لأعيش الحياة ببطء شديد، لأقنع عقرب الزمن السريع الأعمى المشرّع على النسيان أن يدور بأقل سرعة ممكنة. فأنا أحيا الشعر وأؤدي كل شيء على نحو شعري ولا أفقده حتى في عمق فيزيائيتي اليومية، هو الذي يبدأ حيث ينتهي العلم، وهو الذي يعود هيولياً حين تشرق الأرض بنور ربها. أحيا الشعر نعم، وأخشى ما أخشاه أن يكون الشيء الوحيد الذي لا أؤديه على نحو شعري هو الكتابة الشعرية نفسها. لأنني وبكل بساطة، مستسلمٌ تماماً، للشعر، لهذا القطار الأعمى الشبيه بالكرة الأرضية السريعة الدوران والتي لا تتوقف نزولاً عند رغبة أحد... وإطلاق هذه الخشية من أن يكون الشعر في مكان آخر، ليس تراجعاً بقدر ما هو دعوة للتبصر، لئلّا يراهن شاعر بعد مئة عام من اليوم على الخسارة مرةً أخرى.. أقول ذلك وأنا أعرف أن الاقتناع بالوصول إلى شكل نهائي للشعر عجز ورضوخ، كما وأنه ليس ثمة تحديد واضح لمصطلح (الزمن الابداعي)، فهو، سبحانه، أعطى الأشياء أسماءها ومعانيها وبنى بالتالي بيت العالم، وهو، حتى اللحظة، على حد قول هيدغر قادرٌ على تبديل مصير الإنسان على هذا الكوكب، حتى إذا ما أنكرت التجرية ما تبقى من أمل في الشعر، سأحرق كل الأوراق وما فيها من سنوات وأوصي بما أملك، ولا أملك إلا قليلاً، لأفضل صديق لي، ذلك الذي يجهز عليّ بطلق ناري، ولا يمضي إلى غير ما جهةٍ في الندم.

في قصائدك يبدو الوطن والمرأة توأمين لا ينفصلان، ما الذي يدفعك إلى هذا المزج بينهما؟

الوطن هو أم من تراب والأم هي وطن من عاطفة. ولما كانت الخصوبة تشكل بالحمل والولادة منطلقاً للبقاء والاستمرار، كان لا يمكن لقصيدتي أن تجد ولو خطاً وهمياً بينهما، فتوّجا موضوعاتي انطلاقاً من «رسل البيادر» وليس انتهاءً بديواني الأخير..

قصائد للأطفال

لديك ديوان شعري موجه للأطفال، ما هي أبرز معايير الكتابة الموجهة للأطفال؟

تبيّنُ آخر الدراسات أنّ الشعر يثير أكثر من منطقة في دماغ الأطفال. للموسيقى دور وللألوان دور ولكن للشعر أدوار. من هنا كان لزاماً علي أن أفكر في احتضان مرحلة الحضانة، وكتبت شعراً للأطفال، راعيت فيه الفئات العمرية والمفردات، والتراكيب ولكنني لم أتساهل في تعميق الصورة قدر المستطاع بالأدوات الممكنة. تفاجأت بأنّ نصّاً يُدرّس في الصف الأوّل تحت عنوان «بيتي وطني» مطروح للنقاش في صفٍّ ثانوي للبحث في تعبير «أسكن فيه يسكنني» والعلاقة الرجعية للسكن. أعتقد أن الكتابة للأطفال رسالة قدسية لم يحملها كثيرون ولكن حملها قديسون أمثال سليمان العيسى وحسن العبدالله وغيرهما.

ما الجديد الذي تعمل عليه راهناً؟

الآن أفتش عن عنوان لديواني الجديد الذي سيصدر ضمن فعاليات «معرض بيروت للشعر العربي» مع نهاية العام الحالي، والذي أتوقع أن يكون إلى جانب منشوراتي السابقة مع «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر». أصعب من مخاص الولادة أن نجد اسماً يليق بكل مولود جديد.

لديك قصائد مغناة على لسان مطربين، فهل تختلف القصيدة المغناة عن القصيدة القابعة في ديوان شعري؟

معظم قصائدي المغناة يمكن أن تنشر في ديوان شعري، لأنني لا أكتب كلاماً للغناء إنما قصائد للبقاء. إلا أن الغناء يمنح النصوص أجنحة للطيران. فأغنية «في الطريق إليك»، أو «أحب يديك» مثلاً للفنانة «فايا يونان» وقعتا في أكثر من سبعة ملايين قلب وهذا رقم أكثر من عدد الأوراق المطبوعة والمنتشرة لكل شعري مجتمعاً. الكلام نفسه ينطبق على «أبواب بيتك» للشيخ أحمد حويلي.

جوائز شعرية

نال الشاعر مهدي منصور جوائز شعرية في لبنان والعالم العربي وشارك في برامج مسابقات حول الشعر ونال الجوائز الأولى فيها، حول أهمية الجوائز في مسيرة الشعراء الشباب يوضح: «ليس في الشعر ثمة ساحر يقبض يده على فراغ ويفتحها على حقل بنفسج.. في الشعر، ليست الجوائز لمن ينالها بقدر ما هي جائزة لمن يمنحها. فهي إذ تمنح الشاعر المشروعية، تمنح مانحها المشروع، وهنا يتلاقى الصوت التائه بالأذن غير الصمّاء في هذا العالم المتهاوي»..

يضيف: «كل مجموعة شعرية هي مشروع جائزة شعرية، فقد نالت مجموعات كتبت في الثمانينيات جوائز كبيرة منذ بضعة سنوات. وهي، سواء فازت أم لم تفز، ذات قيمة تستحق جائزة العيش أكثر من كاتبها، جائزة لا يمنحها التاريخ إلا لصفوة ساكنيه. ثم أن هناك مجموعات كثيرة لم تُمنح جوائز في حين صدورها، وتُوِّج كاتبوها بجوائز كبيرة لرفدهم الساحة الأدبية بجديّة أعمالهم الكاملة».

يتابع: «القصيدة عكس الجنين، إذ إن الأخير يأخذنا جدياً للاهتمام به فور ولادته، في حين أن القصيدة، نظلّ على اهتمام بها، حتى إذا ولدت مُتنا بالنسبة إليها. كل قصيدة ، وهي المؤنث النيء، تنكر كاتبها وبالتالي كل شاعر خائن بالضرورة. من هنا أرى أن دور الجوائز، التي تقدّم للشاعر أكثر بكثير مما تقدّمه للشعر، يكمن في إعادة اللُّحمة بين الفقيدين، بين الحفّار والكنز المفترض المفقود، وهي بالتالي تمنحك الحافز لكي تستمر ولكن بمسؤولية أكبر إذ إنها تفرض عليك الحفاظ على كل ما تمنحك إياه من حضور واسم شعريين، ولو ظهرت أحياناً كمن يطلب من مراهق أن يقود حافلة مكتظة بالناس من غير كوابح سرعة».

أرى أن الشعراء تكاسلوا عن جعل العالم مكاناً أفضل وأكثر حياةً

أخشى أن يكون الشيء الوحيد الذي لا أؤديه على نحو شعري هو الكتابة الشعرية نفسها
back to top