عبد الفتاح القصري... حزين أضحك الملايين شجرة العائلة (1 - 11)

نشر في 16-06-2017
آخر تحديث 16-06-2017 | 00:00
قرر نجم الكوميديا إسماعيل ياسين أن تفتتح فرقته المسرحية الموسم الشتوي بمسرحية «الحبيب المضروب» التي كتبها شريكه في الفرقة وكاتب أغلب نصوصها المسرحية، أبو السعود الإبياري، ليشاركه في بطولتها عبد الفتاح القصري وتحية كاريوكا وستيفان روستي ومحمود المليجي وماري عز الدين وعبد النبي محمد وبثينة حسن وفهمي أمان وليلى حمدي، وأخرجها ستيفان روستي، ورغم أن المسرحية لم تكن جديدة، إذ سبق للفرقة أن قدمتها في الموسم الصيفي، فإنها حققت نجاحاً في الموسم الشتوي أيضاً.
تدور فكرة المسرحية حول محاولة الكشف عن انهيار النسق القيمي لبعض طبقات المجتمع، عبر رسم صورة «كاريكاتورية» للعلاقة الزوجية التي تسيطر فيها المرأة على الرجل، حتى يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى أن تضرب الزوجة الزوج، وليس العكس، كما هو معتاد بين أبناء الطبقة الشعبية، ما جعل المسرحية تتفجر بالكوميديا، وتلفت الأنظار إليها، منذ عرضها في الموسم الصيفي، فقرر إسماعيل ياسين إعادة عرضها في الموسم الشتوي 1962، ما دفع بالموسيقار محمد عبد الوهاب إلى زيارتها، لتشكل فقرة ضمن فقرات البرنامج الإذاعي «تاكسي السهرة» عبر إذاعة «صوت العرب»، الذي سيحل عبد الوهاب ضيفاً عليه في ليلة الخميس الأول من شهر نوفمبر.

يقوم البرنامج الإذاعي على استضافة نجم كبير، يقضي مع جمهور الإذاعة سهرة الخميس من كل أسبوع على الهواء مباشرة، يصطحب خلاله النجم «عربة الإذاعة الخارجية» إلى الأماكن التي يفضلها، من بينها إحدى دور العرض السينمائي للاستماع إلى جزء من حوار أحد الأفلام المعروضة والتعليق عليه، أو أحد أستوديوهات الصوت أثناء تسجيل أغنية جديدة لأحد كبار المطربين، ويدور الحديث حولها، مع الاستماع إلى جزء منها، أو إلى أحد مسارح القاهرة التي تعرض مسرحية ذاع صيتها، مع تسجيل جزء منها، وإجراء حوار مع أبطالها في الكواليس قبل بدء العرض.

اختار محمد عبد الوهاب مسرحية «الحبيب المضروب» لفرقة إسماعيل ياسين، وقصد المسرح برفقة عربة الإذاعة الخارجية، ومذيع صوت العرب جمال السنهوري، الذي بدأ بالفعل إجراء حوار ضاحك بين ضيفه الموسيقار محمد عبد الوهاب ونجوم الفرقة، بداية من بطلها إسماعيل ياسين، ثم تحية كاريوكا ومحمود المليجي، ثم ستيفان روستي مخرج المسرحية، وأبو السعود الإبياري مؤلفها، حتى جاء دور النجم الكوميدي عبد الفتاح القصري، وقبل أن يطرق المذيع باب غرفته ليأذن له بالدخول، قال إسماعيل ياسين محذرا جمال السنهوري:

= خللي بالك يا أستاذ جمال.. عبد الفتاح مش في المود النهاردة ومزاجه متعكر شوية

- أستاذ عبد الفتاح مزاجه متعكر.. معقول.. ليه؟

= ماخبيش عليكم صحة عبد الفتاح مش عجباني.. من يوم ما فتحنا وأنا حاسس إنه بيشتغل غصب عنه.. مش لأنه مش حابب الشغل.. لا.. لكن حاسس أنه تعبان وبيقاوح

ـ استنى يا جمال.. هو تعبان عنده أيه؟

= هاهاها.. لا يا أستاذ عبد الوهاب متخافش.. ماعندوش برد ولا أنفلونزا.. ده السكّر والضغط تاعبينه أوي.

ـ طب ما يقعد كام يوم يرتاح يا سمعه.. ولا أنت مانع الإجازات؟

= والله أنا قلتله يا أستاذ.. بالعكس أنا ماعنديش مانع خالص.. رغم أننا هانقفل الكام يوم اللي هايرتاحهم عبد الفتاح لأنه مالوش بديل.. لكن روحه في المسرح.. زيي وزي تحية وستيفان والمليجي.. وزينا كلنا.. عبد الفتاح لو قعد في البيت يموت.. وبعدين الله يكون في عونه.. اللي يشوفه وهو بيخللي الجمهور يسخسخ من الضحك على المسرح.. مايشوفهوش وهو بيبكي لوحده في أوضته

ـ أوعى بس كده أنا هاخليه يفرفش

= اتفضل يا أستاذ.

كوميديا سوداء

رغم كل ما يعانيه عبد الفتاح القصري من آلام المرض، ومن مشاكل اجتماعية ونفسية، إلا أنه ما إن يقف على خشبة المسرح، أو أمام كاميرا السينما، أو حتى ميكروفون الإذاعة، ينسى آلامه وهمومه وأوجاعه، وينطلق محلقاً كنجم كوميدي في العشرين من عمره، يصول ويجول ويلقي «إفيهاته» التي لا يمل الجمهور من سماعها، ولازماته الضاحكة، فما إن شاهد الموسيقار محمد عبد الوهاب، حتى احتضنه ضاحكاً، وراح يذكره بالمرة الأولى التي شاهده فيها يغني في أحد مقاهي «الجمالية» ولم يكن تجاوز الرابعة عشرة من عمره:

= يااه أنت لسه فاكر يا عبده

* ودي حاجة تتنسي يا أستاذ.. دي كانت أيام جميلة وناس جميلة صاحبة مزاج تحب الفن وتقدره

= طبعا.. بس لازم تقول للجمهور على الحقيقة

* حقيقة.. حقيقة أيه يا أستاذ؟

= إني في الوقت ده كنت بأغني وأنت شايلني على رجلك.. أحسن بعدين الجمهور يفتكر أننا من سن بعض.. يعني لازم تفهّم الجمهور أني أنا كنت طفل صغير.. والأستاذ عبد الفتاح كان راجل كبير راشد

* هاهاها مظبوط سيداتي وسادتي المستمعين.. حتى بالأمارة كنت باجبلك نداغة.

= هاهاها.. قوللي بقى أنت بتعمل أيه في مسرحية «ضرب الحبيب» اللي إحنا فيها النهاردة

* أنا يا سيدي بأعمل دور حما الأستاذ إسماعيل ياسين.. ووالد الست تحية كاريوكا.. وبدل ما أصلح بينهم.. بأخرب بيت إسماعيل وتحية

- تخرب بيتنا يا عم عبده الله يسامحك

* معلش القافية تحكم يا توحه

انتهى اللقاء، وسجل مذيع البرنامج جزءًا من حوار المسرحية، يضم جميع أبطالها، ثم انصرف برفقة الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى محطة أخرى من محطات «تاكسي السهرة»، فيما تابع أبطال المسرحية تقديم العرض، لينتهي الفصل الأول، ويبدأ الفصل الثاني، وسط ضحكات الجمهور العالية، وتصفيقهم، حتى كان المشهد الذي يجمع بين إسماعيل ياسين وتحية كاريوكا وعبد الفتاح القصري:

= طيب أنا هأقول الحقيقة بس بلاش ضرب والنبي أصل أنا جتتي اتهرت من كتر الضرب

* استني شوية يا محاسن.. ده راجل في حكم الأموات.. والضرب في الميت حرام

- يابابا ده أولعبان راجل ملوش أمان

= بس ماتقوليش راجل

* أنت هأتتكلم ولا أسيبها هي تخليك تتكلم بطريقتها

= ولا والنبي يا عم عبده.. هأتكلم أهه

* أيه ده.. هو أيه اللي حصل.. ألحقوني أنا مش شايف.. أنا مش شايف حاجة

= أنت عايز تشوف أيه.. ماكفاية الغلب اللي أنا شايفه

* أنا مش شايف قدامي.. أنا عميت يا إسماعيل.. أنا عميت بجد

= أيه ده بيتكلم بجد.. أقفل الستارة.. أقفل الستارة

ظن إسماعيل ياسين أن عبد الفتاح القصري يرتجل كعادته جزءًا من الحوار، وأن استغاثته هذه بعض من نص المسرحية فتفاقمت ضحكاته وتصفيقه، وهو ما ظنه الجمهور أيضاً، وكلما قال: «مش شايف» تعالت الضحكات والتصفيق، ولم يدرِ أحد أن عبد الفتاح القصري، لم يعد يرى النور أمامه، وأن عينيه قد أظلمتا، وما إن أغلق إسماعيل ياسين الستارة، حتى انخرطت تحية كاريوكا في البكاء، فيما هو يصرخ مردداً أنه أصيب بالعمى ولم يعد يرى شيئاً، فراح إسماعيل يهدئ من روعه، والتف الجميع حوله، تحية كاريوكا ومحمود المليجي وستيفان روستي، واخذوه إلى سيارته، واتجهوا على الفور إلى مستشفى «قصر العيني»، ليستقبلهم الطبيب المناوب، ويجري فحصاً أولياً وبعض التحاليل، ثم يطلب من الجميع مغادرة المستشفى بعدما أودعه إحدى الغرف فيه:

* أنتم رايحين فين وسايبني؟

= ماتخافش يا عبده الدكتور طمنا هاتبقى كويس إن شاء الله

* كويس.. أنا عارف إنكم بتقولوا كده علشان تطمونني.. لكن أنا مؤمن بربنا وعارف أن ....

- أوعى تنطقها يا عبده.. والله الدكتور طمنا.. إحنا بس لازم نمشي لأنه ما ينفعش نبقى موجودين هنا وعاملين قلق للمرضى.. وكمان أنت لازم ترتاح زي ما الدكتور قال علشان يكملوا التحاليل والأشعة والدكتور يكتب لك العلاج.. وأول ما النهار يطلع هأنكون كلنا هنا

* أنا بس عايز حد يبلغ أختي بهية.. عنوانها في المحفظة أهي.. مكتوب في ورقة لوحده

- أبلغ بهية ولا أبلغ .....

* بأقولك بهية يا تحية.. بهية

انصرف الجميع وبقي عبد الفتاح القصري بمفرده وسط الظلام الذي فرضته عليه الأقدار، جلس على حافة «السرير» لا يستوعب الموقف، ليس ما أصابه الآن فحسب، لكن كل ما وصل إليه حاله، وقد تكون هذه النهاية، وهو على هذه الحال، من طفل ولد في فمه «ملعقة ذهب» وفنان ملء السمع والبصر، ونجاحات متتالية، وأموال بلا حساب أو عدد، إلى رجل افترسه المرض، وفقد بصره، يرقد في غرفة بسيطة في أحد المستشفيات المجانية، التي يلجأ إليها فقراء الشعب طلباً للعلاج.

الأيام السعيدة

أراح عبد الفتاح القصري رأسه فوق «المخدة» وراح يهز رأسه تعجباً، وهو يعقد مقارنة فرضت نفسها على رأسه في تلك اللحظة، بين ما كان، وما آلت إليه حياته، ومن دون أن يدري، راحت الدموع تنساب من عينيه، متذكراً حياته الأولى منذ ولد في ذلك الحي الشعبي العريق، الذي تربى وعاش فيه حياته، ولم يكن يدري أن الأقدار تخفي له الكثير، مما لم يعد قادراً على احتماله.

ولد عبد الفتاح القصري في «الجمالية»، حي يتمتع بشهرة تاريخية وعالمية لأنه مجمع تراث القاهرة منذ بنائها، فيه الأزهر وجامع الحاكم بأمر الله والجامع الأقمر وغيرها، وفيه أسوار القاهرة وبواباتها، فضلا عن المدارس الأيوبية والمملوكية، «خان الخليلي» ومنطقتي «الصاغة والنحاسين»، وتحمل واجهات البيوت «مشربيات» بديعة من الخشب المزخرف، وأسبلة أبدعتها أنامل الفنانين. له أوجه مشغولة بالنحاس، يتصدر كل منها حوض ماء، ليرتوي العطاش وعابرو السبيل، ومقاعد خشبية وضعها أصحاب المقاهي لجذب الرواد، فتبدأ في سماع عبارات الترحيب، وكلمات أولاد البلد الخفيفة الظل التي تدعو الزائرين للجلوس على المقهى، وسط حركة غير عادية من المارة والباعة الجائلين، حيث ينادي كل منهم على بضاعته بكلمات منغمة:

- الورد كان شوك من عرق النبي فتح 

يا تمر حنة رحلنا من منازلنا 

يا خوخ خانونا الحبايب وإحنا لم خُنا 

لمون.. لامونا العوازل وإحنا ما لمنا

يا نبق.. نبقاش حبايب زي ما كنا 

يا صبر.. نصبر على اللي راح ولم جالنا 

الملح.. في عين اللي ما يصلوا على سيدنا 

أطلق اسم «الجمالية» على الحي نسبة إلى «بدر الدين الجمالي»، أمير الجيوش ووزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وصاحب مشهد «الجيوشي» القابع فوق جبل المقطم، وهو مملوك من أصل أرميني، استعان به الخليفة المستنصر بالله كي يستعيد السيطرة على الأمور، وللخروج من الأزمات التي كادت تودي بدولته، فولاه الوزارة عام 1073.

سكن بدر الجمالي وقواته في هذا الجزء من القاهرة، واهتم به حتى أصبح يضم ثماني عشرة منطقة، أهمها «الجمالية، وبرقوق، وقايتباي، والبندقدار، والمنصورية، والدراسة»، إضافة إلى أحياء «العطوف، وقصر الشوق، والخواص، وباب الفتوح وباب النصر، وخان الخليلي، والخرفنش، وبين السورين»، فضلا عن مسجدي الحسين والأزهر الشريف، حتى أصبح يحدّ الحي من الشرق شارع المعز لدين الله الفاطمي، ومنطقة «بين القصرين»، ومن الشمال والغرب، جزء من السور الفاطمي، ومن الجنوب شارع الأزهر. غير أن «الجمالي» لم يهتم بمنطقة القصور فحسب، بل بالقاهرة بأكملها، فزاد مساحتها، إذ أضاف إليها «جامع الحاكم» الذي بناه الخليفة الحاكم بأمر الله خارج أسوارها، لتصبح القاهرة مدينة دفاعية مسورة لصد الهجمات المحتملة عليها، كذلك أبقى على أبوابها الشهيرة: باب النصر، باب الفتوح، وباب زويلة.

ضمت منطقة «الجمالية» قصور الخلافة الفاطمية وملحقاتها، لكن بعد نهاية الدولة الفاطمية عام 1171، تدهورت حال «القصر الفاطمي»، وخلال قرون، أصبح يسكن في أجزاء منه بعض عامة المصريين، ممن يخدمون الأمراء والحكام في وظائف إدارية وحسابية، ولأنهم ارتبطوا في أعمالهم بقصر الحكم، أطلق عليهم عامة الشعب «القصريين»، لتتحول الصفة بمرور الوقت إلى اسم يطلق على من يمتهنون مهناً لها علاقة بقصر الحكم، ليقال لمن يعمل في إحدى وظائف القصر «القصري».

الحفيد أولاً

من بين هؤلاء «القصريين»، كان فؤاد حافظ محمد عبد الفتاح، الذي ورث بالطبع لقب العائلة «القصري»، رغم ابتعادها عن مهنة «القصور» منذ أكثر من قرن من الزمان، وعملها في التجارة، حتى استقر حافظ القصري على تجارة «الذهب» في منطقة «الصاغة» القريبة من الجمالية، حيث نشأت العائلة، وتنقلت بين أكثر من بيت على مرّ الزمان، غير أنها لم تخرج بعيداً عن «الجمالية»، بل بقيت في هذا الحي على الدوام. في الوقت نفسه، حرص حافظ القصري على توريث مهنة «صياغة الذهب» إلى ابنه فؤاد، مثلما يفعل مشايخ المهن والحرف، ومن بينهم: «الجمالون، والنحاسون، والنجارون، والعطارون»، لإصرارهم على ألا تخرج بعيداً عن أبناء العائلة، وربما هو السبب الذي جعل الأب يحزن عندما تأخر إنجاب ابنه:

= أنا ما يعجبنيش الحال ده.

- قوللي بس أعمل إيه يابا... هو بأيدي!

= أنا الكلام ده ما يدخلش مخي. ما هو أعمل حسابك تطلع تنزل أنا عايز حفيداً.

- ده أمر الله يابا. وإن شاء الله أنا حاسس أن ربنا هيرزقنا الولد.

= ربنا يسهل آه.. لكن ربنا قال اسعى يا عبد... ولو الموضوع أتأخر عن كده.. لازم تتجوز تاني.

- تاني؟

= وتالت وعاشر لحد ما ربنا يرزقك بالولد.

أثناء بحثه عن عروس جديدة حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ جاء ابنه ليزف إليه أن زوجته حامل، فوصل الحفيد المنتظر، وقرّر أن يطلق عليه اسم الجد الكبير «عبد الفتاح».

حظي الحفيد عبد الفتاح فؤاد حافظ القصري برعاية الجد قبل الأب، ونال من الاهتمام والتدليل ما لم ينله أي طفل سابق للعائلة الكبيرة، من أولاد الأعمام والعمات أو الأخوال والخالات، بل لم ينله أي طفل في الحي بأكمله. ما إن بلغ عامين من عمره، حتى بدأ الجد يصطحبه معه، سواء نهاراً لدى ذهابه إلى المحل في منطقة الصاغة، أو ليلاً إلى المقهى لمجالسة «أعيان» منطقة «الجمالية»، فضلاً عن مجالسة فتوات «العطوف والخرنفش»، وكانوا يسهرون حتى ساعة متأخرة، يتحدثون في شؤون التجارة ويتسامرون، فضلاً عن سماع «شاعر الربابة» الذي يجسِّد حكايات السير الشعبية.

نشأ الطفل عبد الفتاح وسط أجواء حي «الجمالية» وتجار الذهب والنحاس والقماش، وأولاد البلد من «المعلمين» وأصحاب المقاهي والباعة الجائلين، وتشبّع بطبائعهم وأحاديثهم، وهو لم يكمل عامه الخامس بعد، فلم يشأ الجد أن يبتعد عنه الحفيد طوال اليوم، كما اعتاد عبد الفتاح على ذلك، فأصبح ابناً مدللاً كهؤلاء الذين يولدون في فمهم «ملعقة ذهب».

رغم إنجاب والده طفلين آخرين، هما محمد و«بهية»، فإنه ظل الأقرب إلى جده، ولم يستطع أحد، سواء الأب أو الأم، الاقتراب منه أو إغضابه، أو حتى ردّ مطلب له، حتى لو كان ضدّ إرادتهما، لأنهما يعرفان أنه إذا رفض مطلبه بكى، وحينئذ ستجتاح البيت عاصفة، مصدرها الجد، وسينزل الغضب على البيت وكل من فيه، بسبب بكاء الصغير عبد الفتاح!

احتفالات بمولد «الحفيد»

أقام الجد الاحتفالات في حي الجمالية سبع ليال، ذبح في كل ليلة عجلاً سميناً لإطعام أهالي الحي، وأحضر منشدين ومداحين، كانوا يصلون الليل بالنهار في غناء وإنشاد ومديح، ابتهاجاً بوصول «الحفيد» المنتظر.

جاءت هذه الأفراح والليالي الملاح بعدما أمضى الجد حافظ القصري فترة مريضاً لإحساسه بأن القدر كتب نهاية عائلة «القصري» لعدم إنجاب ابنه «الولد» الذي سيحمل اسم العائلة، ويرث ثروته ومهنة العائلة، مثلما حدث مع أبناء شقيقه. غير أنه لم يستسلم، وقرّر أن يزوِّج ابنه للمرة الثانية فور أن يسترد عافيته، وهو ما شرع في تنفيذه فعلاً. ما إن وقف مجدداً على قدميه في متجره بمنطقة الصاغة، حتى راح يبحث لابنه عن عروس جديدة، فانتشر الخبر بين أهالي حي «الجمالية» ومنطقة الصاغة، وعرف الجميع أن المعلم «حافظ» الصائغ، يبحث عن عروس لابنه لتنجِب له ولداً يرث ثروته. لذا لم يكن أمراً صعباً أن يصاهر أكبر عائلات الصاغة، فأية عائلة تتمنى أن يقع هذا الاختيار على إحدى بناتها لتنعم هي ووليدها بثروة عائلة «القصري».

راح الأب يفاضل بين بنات العائلات، حتى وقع اختياره على فتاة من عائلة «العطارين» وقرّر التقدم إلى عائلتها لخطبتها لابنه. ولكن قبل أن يحدِّد موعداً مع والدها، جاء ابنه ليزف إليه خبراً لم يتوقعه، وعلم أن زوجة ابنه حامل، ليكون وصول الحفيد المنتظر في 15 أبريل 1897 يوماً مشهوداً في حياة الأسرة بأكملها، وشديد الأهمية لدى الجد الذي فرح فرحاً كاد يقضي على حياته، وعندما استقبل حفيده الأول، شعر بأن اسمه لن ينتهي بموته، وسيبقى اسم عائلة «حافظ القصري» حاضراً.

البقية في الحلقة المقبلة

الموسيقار محمد عبد الوهاب أجرى حواراً إذاعياً مع القصري في المسرح

القصري فقد بصره أثناء تقديم دوره في مسرحية «الحبيب المضروب»

حافظ القصري سقط مريضاً لإحساسه بزوال «اسم العائلة» لغياب الحفيد

تعلق الطفل عبدالفتاح بأجواء التجار وأولاد البلد وأصحاب المقاهي الشعبية
back to top