صلاح جاهين... العصفور الحزين (4 - 15)

انفجار الموهبة

نشر في 14-06-2017
آخر تحديث 14-06-2017 | 00:05
عرف صلاح جاهين عن طريق الفنان زكريا الحجاوي، عوالم أخرى في دنيا الأدب في مصر. اقترب وهو صاحب الحس المرهف من مجتمعات المهمشين والمطحونين في الأرض، في وقت كان أهل مصر يخضعون لسادة الإقطاع وعملاء الاحتلال، لذلك انفجرت موهبته الشعرية لتدين الظلم في بر مصر، ولم تتأخر النجدة في ثورة 23 يوليو 1952، فكان أحد أوائل المرحبين بها، معلناً انحيازه الصريح إليها، وكان أحد الأصوات الصادحة ببشائر الفجر الجديد.
تأثر صلاح جاهين كثيراً بالفنان زكريا الحجاوي، وفنه الشعبي، الذي يعبّر عن طوائف الشعب كافة، فأشعل في نفسه جنون الفن بشكله الخام، كما أثر فيه أيضاً الشاعر فؤاد حداد، الذي وجد أن شعره يعبر عن أمنيات الشعب، فضلاً عن إعجابه الكبير باتخاذه «العامية المصرية» أداة طيعة للتعبير عن إحساسه الجارف.

وزاد من هذا الإحساس لديه، انضمامه إلى «مكتب الأدباء والفنانين» الذي ساهم في تأسيسه مع مجموعة من الأدباء والشعراء والفنانين، في مقدمهم الشاعر الشاب كمال عبد الحليم، الذي اعتقل في عام 1946، بسبب ديوانه «إصرار» واعتقل معه الكتّاب سلامة موسى، ومحمد مندور، محمد زكي عبد القادر، وأنور عبد الملك.

وفى 11 يوليو من العام نفسه، أُغلق عدد كبير من الصحف والمجلات، كذلك أغلقت أبواب الاتحادات والنوادي، ليخرج كمال من المعتقل ويواصل نضاله مع رفاقه في منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو»، وينشئ معهم «مكتب الأدباء والفنانين» الذي انضم إليه صلاح، ومعه عدد كبير من الفنانين والأدباء والمخرجين، من بينهم: أحمد كامل مرسي، وصلاح أبو سيف، وحسن فؤاد، وصلاح حافظ، وعبد الرحمن الخميسي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وفؤاد حداد، ويوسف إدريس.

ساهم ما يبدعه هؤلاء في تشكيل ثقافة مصر الوطنية الحديثة وفي تكوين الوعي والوجدان العام، في مواجهة الاستعمار، وهو الإحساس القوي الذي سيطر على حياة صلاح جاهين، ولم ينسه لحظة. وجاءت «ثورة الفلاحين» في قرية «بهوت»، إحدى القرى التابعة لمركز نبروه في مديرية الدقهلية (في دلتا مصر)، ضدّ أسرة الإقطاعي «البدراوي عاشور» عام 1951، لتكون نقطة فارقة في حياته، ليس كشاعر فحسب، لكن أيضاً لإحساسه بهموم وطنه والبسطاء المعدمين من الشعب.

قرر جاهين زيارة «بهوت» ليشدّ من أزر أهلها في محنتهم، وتقديم ما يمكن، وما إن هبط صلاح من السيارة التي أقلته إلى هناك، حتى راح يمشي على الطريق الزراعي متأملاً الحقول الخضراء عن يمينه ويساره، ويشير بالتحية إلى من يعملون تحت حر الشمس الحارقة، ويلقي السلام على من يجلسون فوق «المصاطب» طلباً للراحة من عناء العمل، ومن دون أن يدري جرت دموعه على خديه، لإحساسه بالقهر والظلم اللذين وقعا على من حوَّلوا هذه الأرض إلى جنة.

كانت عائلة «البدراوي باشا عاشور»، تملك أكثر من ‏36‏ ألف فدان موزعة على‏ مراكز المديرية مثل: نبروه وشربين وبلقاس،‏ إلى جانب «بهوت». في ذلك اليوم من سبتمبر 1951، أمر الباشا بتوريد كميات محددة من القمح  إلى مخازنه، لكن الإنتاج لم يكن كافياً لتغطية المطلوب، فغضب الباشا وطلب تأديب الفلاحين، فهاجم رجاله بيوت الفلاحين، واستولوا على كل شيء لديهم، وقبضوا على أكثر من 50 فلاحاً وحبسوا في قصر الباشا، فانتفضت القرية للمرة الأولى.

اتجه جمع من الفلاحين إلى قصر الباشا وحاصروه وأشعلوا النيران من حوله، محتجزين في داخله نازلي سراج الدين، زوجة محيي الدين البدراوي عاشور، فاتصلت نازلي بوالدها وزير الداخلية آنذاك فؤاد باشا سراج الدين، فأمر الهجانة والعسكر بالتوجه إلى القرية، لمحاصرتها.

بقيت القرية محاصرة 45 يوماً، ووقف عبد المجيد بك البدراوي عاشور، بجبروته وسط العسكر مصوباً بندقيته تجاه أحد أبنائها، ليسقط شهيد بهوت الأول، محمد أبو الريش، ثم حذا عبد العزيز بك البدراوي عاشور حذو أخيه، وقتل ببندقيته الشهيد الثاني لقرية بهوت الشيخ غازي العجمي، ووقف محيي الدين البدراوي عاشور، عضو البرلمان محتجاً داخل البرلمان على العدد الهزيل من القتلى قائلاً قوله الشهير: “لو كنت حاضراً أثناء الحوادث لقتلت جميع الفلاحين، فهؤلاء فلاحون كلاب”.

شرارة الحرية

حضر صلاح محاكمة هؤلاء الفلاحين، فكتب قصيدة بالفصحى عن وقائعها، لكنه سرعان ما أحس بأن هذه اللغة لا يمكن أن يفهمها الفلاحون:

دوّرت على ألفاظ كما السير للمكن

تدور تروس

وتقول دروس ببيان

لقيت عمنا ابن عروس

وشعره ودارجته

وف لهجته

ألحان لكل زمان

لم يرد صلاح جاهين أن يكتب شعارات باردة جوفاء بل أن يغوص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليخرج بكلمات عامية بسيطة وبليغة في آن، وإحساس قوي بفجر مقبل على الأفق، بمشاعر عفوية صادقة، فلم ير الفلاح مثلما رآه كثيرون قبله، وشعر به، كما لم يشعر به غيره، فكتب متأثراً بحوادث «بهوت» مبشراً بفجر قريب، متأثراً بما قرأه من أشعار فؤاد حداد:

ياللي قاعدين ع المصاطب تنهجو ساعة المغارب

كل واحد فيكو حارب لاجل قوته وقوت عياله.. يوم بحاله

لما نور الفجر شقشق.. كل باب في الدرب زيَّق

واتبدرتو في كل مفرق تمشوا في وسط الكيمان ع الغيطان

واللي في الشبورة شافكو وأنتو فايتين لم عرفكوا 

وأنتوا أشباح لم سمعكوا وأنتوا م السقعة بتشكوا واللا تبكوا

طلعت الفاسة ونزلت ألف مرة لما تقلت

في الإيدين والشمس وصلت للعلالي وانتهيتوا

واترميتوا

تحت سنطة جنب مجرة.. اللي عنده فك صرة

فيها لفتة وفيها كسرة 

هما دول كانوا غداكو في شقاكوا... يوم بحاله

وف صفاري شمس وقفت الفيسان والأرض نضفت

وأنتوا أبدانكوا اللي عجفت

جريتوها ع الخرايب والزرايب

ياللي قاعدين ع البيبان كل مفرق من زمان

خشوا ناموا في أمان واستعدوا للكفاح في الصباح

...

لاقت القصيدة صدى كبيراً في أوساط الشعراء والمثقفين، وسمع صلاح عنها الكثير من كلمات الإطراء، غير أن كلمات الثناء لم تكن لتسعده، في مقابل كلمة تشجيع واحدة تمنى أن يسمعها من والده، لكنه لم يسمعها، ليس لأن القصيدة لم تعجب والده، بل لأنه لم يكن مقتنعاً أساساً بما يفعله ابنه، وحياة الصعلكة التي يعيشها. بل على العكس كان يمكن أن يسمعه كلمة «توجعه» غير أن صلاح لم يكن لديه أي استعداد للتخلي عن طموحاته وأحلامه الفنية، حتى لو كان الثمن الكلمات الموجعة كافة التي يقولها الآباء للأبناء حرصاً وخوفاً على مستقبلهم.

سوق بلدنا

ولأنه أمضى معظم عمره متنقلاً من مديرية إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، لم تكن ثمة فرصة كاملة لصلاح جاهين لأن يتعرف إلى القاهرة بشكل جيد، فقرر أن يعيد اكتشافها بنظرة الفنان. كان أول ما لفت نظره فيها جمال «أسواقها» وتنوعها، سواء في ما تقدمه من بضائع، والأهم بالنسبة إليه، هو ذلك الثراء الفني الذي لمسه في أصوات «البائعين» وهم ينادون على بضائعهم، وكيف يستطيعون أن يجلبوا «الزبائن» إليهم بمجرد النداء عليها بشكل ملحن أقرب إلى الغناء، فانجذب بشكل كبير إلى الأسواق، حتى أنه لم يترك سوقاً لم يزره.

خرج جاهين في نهاية رحلاته بصورة غنائية مكتملة أطلق عليها «سوق بلدنا»، كتبها بأسلوب مناداة البائعين على بضائعهم نفسه، بكلمات شعبية بسيطة، استوحاها من مفردات البائعين، ليعيد تقديمها لهم، ولجميع طوائف الشعب، وما إن انتهى من كتابتها حتى عرضها على المخرج صلاح أبو سيف، الذي ما إن قرأها حتى قرر أن يصوِّرها، وعهد فوراً بتلحين الصورة الغنائية إلى الموسيقار أحمد صدقي، واختار لها صوت المطربين كارم محمود وعبد اللطيف التلباني، لتكون أول صورة غنائية تصوَّر سينمائياً، بعيداً عن فن الأوبريت الغنائي، وحققت نجاحاً كبيراً، ساهم بشكل كبير في التعريف بشاعرية صلاح جاهين.

لكن هذا النجاح والانتشار السريع لاسم صلاح جاهين في الأوساط الفنية والثقافية، لم يشفع له لدى والده لأن يرضى عن الطريق الذي اختاره لنفسه. غير أن والدته وشقيقاته البنات، وتحديداً «بهيجة» فرحن به فرحاً شديداً ورحن يشجعنه من دون علم الوالد.

بزوغ الفجر

توالت الحوادث سريعة متلاحقة في مصر، فلم تمر أشهر عدة على ثورة فلاحي قرية «بهوت»، حتى وقع حريق القاهرة في 26 يناير 1952، والذي التهم منشآت كثيرة في العاصمة المصرية خلال ساعات، ما انعكس بشكل كبير على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتم تشريد مئات، بل آلاف العمال، وطردهم من وظائفهم، فانتفض جاهين بحسه الوطني والاجتماعي وانحيازه الدائم إلى البسطاء وكتب:

أنا لوحدي مفيش حاجة

مجرد اسم متشخبط على ورقة

في إيد واحد مدير أصله قومسيونجي

يقدمها لتركي والا لخواجة

لا يعرف عربي ولا شفقة

يروح ماضي بقلم باركر بلا فرنجي

أروح مرفود

وأصبح اسم متعلق على اللوحة

تشوفه زمايلي في الجاية وفي الروحة

يفوت عامل في إيده نص شقة بفول

يقف ويقول:

يا عالم ربنا موجود مفيش مهرب من التوفير

وعامنول مارفدوا كتير ويدخل وحده في المصنع

وأنا أطلع.. أنا لوحدي

أنا لوحدي مفيش حاجة

مجرد اسم في الجلسة بيتنادى

ما بين ميت اسم وزيادة

وجدول جلستي مليان.. والقاضي

مهوش فاضي

يناديلي أقول له يا سعادة البيه

مدير المصنع الدّباح قَطَع عيشي

يقول لي عشان جريمة أيه

وينزل أسئلة يسألها ضُبّيشِي

وقدامه قانون عقد العمل ودوسيه

واسمي عليه.. ونضارته وحبابي عنيه

وأنا مجرد تلات كلمات على الأوراق

أسامينا أنا ووالدي

واسم اللي اترحم جدي

ما يسألنيش ويسأل نفسه باستهزاء

عن الأوراق.. وعن إثبات بمستندات

أقول له مفيش

يقول لي خلاص ما تفلقنيش

ويتمزّج محامي الشركة ويهقهق

خلاص القاضي أنهى المشكلة رسمي

ولا اترافع ولا دافع ولا زعّق

وفيه أسماء ينادوا عليها غير اسمي

وحيد... مدحت... شريف.. سامي

يخشوا الجلسة بمحامي

وأنا أخرج... وروحي من الشقا بتعرج

أنا لوحدي.. أنا لوحدي مفيش حاجة

مجرد اسم كاتبه ف دفتر الأحوال

جدع ضابط بوليس فرحان

بنجمة يمين ونجمة شمال

يقشّر موزة ويأشّر... على المحضر

ويبعت عسكري يجيبني مع المحضر

وأصبح اسم يتكفن بكل لسان

من السكان

بعيد عن بيتكوا يأم فلان

خلاص بيبيعوا عفش فلان

وحايطير الجهاز كله

بوريه ونحاس وربطة فَرْش

وصاحب المِلْك يفضل له

تلاتة جنيه وستين قرش

وتمشي مراتي بعيالها

عشان تاكل في بيت أبوها

هناك فيه ناس يحبوها

أوصلها

وفي السكة تقول ربك يعدّلها

وأشوف كل الدموع بتفور وبتلمع

ورا البرقع.. أقول لازم نعدلها

وتدخل هيا بعيالها

وأنا أرجع.. أنا لوحدي

في أشعاره ورسومه، حلم صلاح جاهين بالفجر الذي سيأتي ليمحو الظلام الذي يعيش فيه الوطن، تمنى كملايين المصريين، أن يرى هذا اليوم، الذي لم يتأخر كثيرا، فلم يمض أكثر من ستة أشهر، إلا وتحقق الأمل الغائب لسنوات طويلة، في 23 يوليو عام 1952، بثورة مجموعة من ضباط الجيش الأحرار على الفساد الذي عانته مصر لسنوات طويلة، في ظل حكم فاسد تآمر مع الاستعمار ضد الشعب.

عرفان بالجميل

كان أول ما فعله، أن ذهب صلاح إلى قبر جده الصحافي المناضل أحمد حلمي، ليقف أمامه يقرأ «الفاتحة» ثم راح يتحدث إليه، كأنما يراه، يهنئه وهو يزف إليه الخبر الذي عاش حياته الصحافية يتمنى أن يخطه بيده في صدر الصفحة الأولى في واحدة من الصحف التي عمل فيها، وناضل على صفحاتها من أجل بزوغ فجر الحرية.

وجد كل من حوله أنه ربما يبالغ عندما راح صلاح يعلن أمام الجميع أنه أسعد إنسان في مصر بهذه الثورة، التي وصفها بأنها «ثورة الغلابة» مؤكداً أنها قامت من أجلهم، وهو ما لمسه فعلاً بعد أقل من شهرين من قيامها، في 9 سبتمبر 1952، عندما وقف جمال عبد الناصر وأمامه فلاح بسيط اسمه الشيخ «محمد البهوتي» يسلمه أول عقد ملكية لخمسة أفدنة من أرض «الإصلاح الزراعي»، فقد اختار جمال عبد الناصر أن تكون قرية «بهوت» أول قرية تطبق فيها قوانين الإصلاح الزراعي، وتوزّع الأراضي على فلاحيها، وهو ما أكّده صلاح جاهين في قصيدته:

الْقَمْحْ مِشْ زَىّْ الدَّهَبْ

الْقَمْحْ زَىّْ الْفَلاَّحِيْنْ

عِيْدَانْ نَحِيْلَهْ

جَدْرَهَا بْيَاكُلْ فِي طِيْنْ

زَيّْ إسْمَاعِينْ وِمْحَمَّدِينْ

وِحْسِين أَبُو عْوِيْضَهْ اللِّي قَاسَى وِانْضَرَبْ

عَلشَانْ طَلَبْ

حِفْنِةْ سَنَابِلْ رَيَّهَا كَانْ بِالْعَرَقْ

عَرَقْ الْجِبِيْنْ..

الْقَمْحْ زَيّْ حْسِينْ

يِعِيْشْ يَاكُلْ فِي طِيْنْ..

أَمَّا اللِّي فِي الْقَصْرْ الْكِبِيْرْ

يِلْبِسْ حَرِيْرْ.. وِالسُّنْبُلَهْ

يِبْعَتْ رِجَالُهْ يِحْصُدُوهَا

مِنْ عَلى عُوْدْ الْفَقِيْرْ.

استطاعت ثورة 23 يوليو منذ ولادتها، وبسبب اهتمام جمال عبد الناصر بالثقافة والفنون والآدب، أن تخلق مناخاً اجتماعياً مثيراً لعوامل الإبداع الإنساني في المجالات كافة، وانطلقت مع بداية الثورة وتلقائياً شرارة الخلق والإبداع الفني والفكري في عدد هائل من الشباب المثقف الصاعد من قرى ونجوع مصر الزاحف نحو القاهرة والإسكندرية، فإذا بمئات المبدعين تتصاعد أنجمهم في سماء مصر حاملين رايات ملونة زاهية لأعمال جديدة مدهشة في مناحي الإبداع كافة، فيما تصدر صلاح جاهين الصفوف، باعتباره صوتاً متفرداً مميزاً في الشعر وفناناً.

حب خاطف

كان لجاهين أثر كبير في حركة النهضة الفكرية التحررية المواكبة، عبر عمله في صحيفة «التحرير» التي انتقل إليها بعدما ترك صحيفة «بنت النيل». دأب على أن يرافق صفحات الصحيفة إلى المطبعة، وكانت تطبع في مؤسسة «دار الهلال»، وكان هو لا يغادر المطبعة إلا بعد أن يمسك بيده العدد الجديد من الجريدة، ويطمئن إلى أنه وصل إلى منافذ التوزيع لدى البائعين، لينصرف وفي يده نسخة، متجهاً إلى مقهى «الحرية» في منطقة «باب اللوق» حيث يلتقي الأصدقاء الذين يمضي معهم ما تبقى من الليل.

في هذا اليوم سلم صلاح صفحات الصحيفة للمطبعة، ولم ينتظر طباعتها كعادته، بل راح يسأل عن تلك الفاتنة التي التقاها مصادفة أثناء دخوله المؤسسة، فلم يترك أحداً في المؤسسة لم يسأله عنها، بداية من الحارس الذي يقف أمام «البوابة» وصولاً إلى الزملاء الصحافيين والشعراء والفنانين العاملين في المؤسسة، حتى استطاع أن يعرف أنها «سوسن زكي» فنانة تشكيلية، حالت ظروفها العائلية، ورفض أسرتها، دون التحاقها بكلية الفنون الجميلة، وجاهدت مع أسرتها حتى وافقت على التحاقها أخيراً بمؤسسة «دار الهلال» للعمل رسامة.

عشقت سوسن الفن التشكيلي، فشكّلت الألوان شخصيتها، ما انعكس بشكل كبير على حياتها، فبدت لكل من حولها فنانة عاشقة للجمال والألوان، لا تفارق شفتيها الابتسامة، تبث التفاؤل والمرح في نفوس كل من حولها، وتشيع البهجة في كل مكان تحلّ به، وهو أول ما لفت نظر صلاح جاهين إليها، قبل جمال ملامحها. وهي الأسباب نفسها التي لفتت نظر سوسن في صلاح، ما اختصر كثيراً المسافة بينهما قبل أن يبدآ التعارف، وكان من الطبيعي أن يبادر إليه صلاح، غير أنه لم يبذل جهداً في تحقيق ذلك، إذ كان اسمه سبق تقديم نفسه إليها.

سهِّير ليالي وياما لفِّيت وطُفت

وف ليلة راجع في الضلام قمت شفت

الخوف.. كأنه كلب سدّ الطريق

وكنت عاوز أقتله.. بس خفت

عجبي!!

...

كان فيه زمان سحليَّة طول فرسخين

كهفين عيونها وخشمها بربخين

ماتت.. لكن الرعب لم عمره مات

مع إنه فات بدل التاريخ تاريخين

عجبي!!

...

عجبتني كلمة من كلام الورق

النور شرق من بين حروفها وبرق

حبّيت أشيلها ف قلبي.. قالت حرام

ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرق

عجبي!!

...

رقبة قزازه وقلبي فيها انحشر

شربت كاس واتنين وخامس عشر

صاحبت ناس م الخمرة ترجع وحوش

وصاحبت ناس م الخمرة ترجع بشر

عجبي!!

...

كل اللي في الخمّارة صابهم جنون

صبحوا الرجال يتبادلوا كاس المنون

وبدمّ ونبيت انكتب على الجدار

«يا ميت ندامة ع اللي قلبه حنون»

عجبي!

البقية في الحلقة المقبلة

ثورة فلاحي قرية بهوت كانت نقطة تحوّل في مسيرة جاهين

قصيدة جاهين عن الفلاحين حظيت بنجاح كبير لكنها لم تعجب والده

انضم إلى مكتب الأدباء فتعرف إلى مجموعة من الفنانين الشيوعيين
back to top