نادية لطفي... العصامية الشقراء (18 - 20)

«المخرج جاملني بتوسيع دوري في فيلم المومياء

نشر في 13-06-2017
آخر تحديث 13-06-2017 | 00:03
مشاركات نادية لطفي السرية والغامضة على الشاشة، ظاهرة تحتاج إلى تفسير، ووراء كل منها قصة تستحق أن تروى، حول بعض هذه المشاركات التي أبرزها والأهم «أغربها» نتوقف بالرصد في هذه الحلقة.


أنا وشادي

«كان مكتب شادي عبد السلام في وسط القاهرة بشارع 26 يوليو، ملتقى مفتوحاً لمجموعة كبيرة من الأصدقاء والزملاء، كنت واحدة منهم، وكان للمكان تقاليده الفنية والثقافية الجميلة وطقوسه الخاصة. كنا نشعر بأننا في معبد فرعوني، كان شادي كاهنه الأكبر، وفي أوقات أخرى نشعر بأننا في أكاديمية عصرية عميدها وفيلسوفها هو شادي المتواضع، والمهذب، وهامس الصوت عالي الذوق. أتاح لي هذا المكان نافذة جديدة من المعرفة والثقافة مختلفة عن السائد في الوسط الفني. كان المكتب (هايد بارك) للمثقفين والفنانين الجادين لمناقشة الأعمال الفنية والكتب الأدبية، ومعارض الفنون التشكيلية. هكذا، تفتحت مداركي على حالة من الفهم الواسع لكل أنواع الفنون وعلاقتها ببعضها بعضاً، وكان شادي بالنسبة إليّ نموذجاً يخالف الصورة النمطية للفنان التشكيلي البوهيمي صاحب الشعر «المنكوش» والملابس الغريبة والكوفية الضخمة على ملابسه، لأنه ظلّ يحتفظ بجديته، وهدوئه، وبساطته، واهتمامه بالتفاصيل الفنية، والتزامه بالنظام والعمل الدؤوب والانضباط في سلوكه الشخصي، كأنه سفير أو دبلوماسي رفيع المستوى. وأذكر عندما سافرنا لتصوير «المومياء» في أسوان، كان فريق العمل يقيم في أحد الفنادق السياحية، فأصدر شادي تعليمات صارمة بأن يلتزم الفريق كله بارتداء الملابس كاملة والتأنق قبل الذهاب إلى مطعم الفندق، وكان يغضب من أي عامل صغير لا يلتزم بالنظافة في المظهر والسلوك، ويكرّر على الجميع محاضرته اليومية بضرورة أن نكون سفراء بلدنا وحضارتنا أمام السياح الأجانب».

في موسم 1963، قدّمت نادية أول نقلة مهمة في حياتها، بنجاحها المدوي في فيلم «النظارة السوداء»، الذي وضعها في مقدمة النجمات الشابات، كذلك تميزت بدور الفارسة «لويزا» في «الناصر صلاح الدين. إلا أنها ظهرت في فيلم أقرب إلى البرنامج الغنائي التلفزيوني بعنوان «القاهرة في الليل»، وكان ظهورها أشبه بالكومبارس الصامت، وفتيات الفيديو كليب (راهناً)، حيث ظهرت بلا أية جملة حوار، وهي تتصفح بعض المجلات مع ليلى طاهر بينما تغني صباح «الراجل ده هيجنني». واقتصر ظهورها على لقطات متقطعة أثناء الأغنية.

يبدو أن إنتاج الفيلم يعود إلى فترة سابقة، وقدمه مخرج التلفزيون الاستعراضي محمد سالم في العيد الثالث لافتتاح التلفزيون المصري، وشاركت فيه نادية وحشد من النجوم كتحية للتلفزيون وللمؤسسة العامة للسينما التي أنتجت الفيلم كجهة رسمية تابعة لوزارة الثقافة.

قبل ذلك بعامين وفي موسم 1961، كانت ظهرت نادية أيضاً في مشهد بلا اسم (استغرق 56 ثانية فقط) في فيلم «نصف عذراء»، وكان واضحاً أنها قبلت الظهور كضيفة شرف مجاملة لمنتج الفيلم رمسيس نجيب، ولمخرجه السيد بدير، وربما لتقديم صورة الفتاة الجريئة التي تخرج لتواجه مشاكلها مع المجتمع بمفردها، حيث تدخل عيادة الطبيب النفسي أنور (محسن سرحان) الذي يستغل الفتيات عن طريق التنويم المغناطيسي، وتهدّده بالفضح إن لم يكف عن الاتصال بها.

كان أداؤها قوياً، وأوضح عقدة الطبيب وأحداث الفيلم، وأنهت المقابلة وخرجت في مشهد قوي كسر مفهوم «القوارير»، وصورة المرأة الهشة التي تتحمل الذل والإهانات خوفاً من المساس بسمعتها وشرفها.

«المرأة الجديدة» في هذا المشهد تقتحم عيادة «المتحرش» وتهدّده، وتجبره على الابتعاد عن طريقها وإلا (...)، رغم أن موضوع الفيلم الذي قامت ببطولته زبيدة ثروت مع محرم فؤاد، كان يقف في المنتصف من قضية العذرية وشرف البنات (كما يبدو من عنوانه).

عينا الصمت

المشاركات السريعة والغريبة لنادية لطفي، لم تقتصر على مجاملات البدايات عندما كانت نجوميتها في المهد، بل تواصلت في سنوات المجد والنجومية الطاغية، ولعل أهمها وأشهرها يتجسد في دور «زينة» في فيلم «المومياء» لشادي عبد السلام، وهو لم يكن موجوداً في السيناريو الأصلي. لكن النقاشات الودية بينها وبين شادي عبد السلام مؤلف الفيلم ومخرجه، دفعته إلى اختراع شخصية «زينة» وإضافة بعض المشاهد الصامتة إلى الدور الذي لم يستغرق ظهورها فيه على الشاشة أكثر من دقائق معدودة.

عن سر قيامها بهذا الدور قالت نادية: شادي كان صديقي المقرب... تعرفت إليه أيام «الناصر صلاح الدين». كان أيامها المسؤول عن الأزياء والتصميمات، ثم تقابلنا مرة تانية في فيلم «الخطايا» مع عبد الحليم حافظ، لأنه هو صمّم الديكور، ولما عملت الصالون الثقافي عندي، كان شادي موجوداً باستمرار، واقتربنا أكثر إنسانياً وفنياً، وكنت أعتبر مكتبه في شارع 26 يوليو، مكتبي ومدرستي الثقافية في الوقت نفسه. لذلك لما بدأ يفكر في إنجاز فيلمه الأول، كنا نتناقش في التفاصيل، كعادة الأصدقاء وقتها، وفي البداية شادي ما كانش هيعمل «المومياء» بالشكل اللي ظهر به أخيراً، لكنه أعاد كتابة السيناريو أربع مرات، لأنه في البداية كان مجرد فيلم تسجيلي وليس روائياً. ولما حسيت إن التكلفة كبيرة، وشادي مش هيقدر ينفذ الفيلم، اقترحت عليه أن أشارك بأية طريقة ليضع اسمي على الفيلم، فيساعده ذلك على تمويله وتوزيعه، لأن السينما فيها معادلة تجارية ملخصها: «الفيلم هيتباع باسم مين؟»، وشادي كتب المشهد، وبعدين بدأ يوسع دور «زينة» لأنها كانت مجرد بنت من البنات اللواتي نراهن يعبرن في الجبل وخلاص، وطبعاً أنا لما عملت الدور، لم أطلب منه تغيير السيناريو، وقلت له يا شادي زود لي مشهدين مثلاً! لكن احترمت رؤيته وقبلت الدور الذي لا يزيد على دقائق بلا كلام. ورغم ذلك، الفيلم أخذ جوائز كثيرة، وعرض في فرنسا، بعد ما اتبهدلنا في مصر، واتشتمنا شتيمة بالهبل...

أضافت نادية: هاجمني نقاد وصحافيون، وبعضهم كتب «دي مش ممكن تكون ممثلة محترفة، إزاي نجمة البطولة المطلقة في «الخطايا» و«النضارة السوداء» تقبل دوراً قصيراً بالشكل ده؟ لكن أنا صممت، واعتمدت على لغة العينين، واستفدت كثيراً من التعبير من دون كلام.

مشاركات متنوعة

لم تتوقف مجازفات نادية عند «المومياء»، بل شاركت في إدارة بعض الحوارات مع الجنود في فيلم شادي الوثائقي «جيوش الشمس» عن حرب أكتوبر 1973، ثم قامت ببطولة فيلم قصير بعنوان «حنين» من إخراج يوسف فرنسيس، لكنه اختفى تماماً ولم يعرض أبداً حتى اليوم، رغم حديثها عنه أكثر من مرة، وتأكيدها أنه سيشارك في أحد البرامج الفرعية لمهرجان «كان» السينمائي الدولي!

أما المشاركات الغريبة لنادية في الأفلام التجارية التي عرضت في السينما ولا تزال تُعرض على الفضائيات، فأبرزها قبولها الظهور في مشهد أقرب إلى «الكومبارس الصامت» بعدما وصلت إلى قمة النجومية. شاركت في لقطة عابرة في فيلم «مين يقدر على عزيزة» (1975) من إخراج أحمد فؤاد وبطولة حسين فهمي وسهير رمزي، حيث كانت تجلس على مائدة في «عرض أزياء» ثم تظهر في لفتة جانبية لم تستغرق ثواني قليلة، مع إشارة من مذيع العرض إلى فستان باسم «الأخوة الأعداء»... عنوان الفيلم الذي قامت ببطولته قبل ذلك بعام، ورفعت بسببه دعوى قضائية ضد صديقها المخرج حسام الدين مصطفى (أكثر مخرج عملت تحت إدارته)، وحصلت على تعويض مالي كبير، وحكم لصالحها بوضع اسمها في مقدمة النجوم المشاركين كما ينصّ العقد. لكن ظهورها العابر والغريب في «مين يقدر على عزيزة»، لم يكن يعكس ذلك الهوس بترتيب اسم النجمة في «ملصقات السينما» لدرجة مقاضاة أحد أهم المخرجين في مشوارها السينمائي، لا سيما أن ظهورها الباهت في عرض الأزياء لم يضف شيئاً إليها ولا إلى عزيزة!

قبل ذلك بثلاث سنوات (عام 1972)، كانت نادية ظهرت أيضاً في مشهد صامت آخر كضيفة شرف في فيلم «أضواء المدينة» من إخراج فطين عبد الوهاب، احتفاء بعودة الفنانة شادية إلى التمثيل. دخلت إلى حفلة نقابة السينمائيين ضمن أحداث الفيلم، بصحبة صديقها المخرج حسين كمال، الذي ظلّ طوال اللقطات الصامتة المتفرقة التي ظهرت فيها على الشاشة، يحاول، من دون أن ينجح، إشعال سيجارة في يدها، حتى تحوّلت المائدة إلى كومة من أعواد الثقاب التالفة. وينتهي ظهور نادية في المشهد «اللطيف هذه المرة» بإلقائها السيجارة من يدها بعد انتهاء الحفلة.

مزاجي أعمل سحلية

لم تقدّم نادية تفسيراً لقبولها هذا العدد من الأدوار الغريبة التي تكسر شروط النجومية. وفي أحد لقاءاتنا، سألتها بإلحاح عن ضرورة ووجود تفسير يجعل نجمة بهذه الشهرة، تقبل الظهور في فيلم على هذا النحو، بل وتقبل وضع اسمها على ملصقاته رغم أن ما قامت به على الشاشة لا يعدو مثلاً كونها كانت تجلس على المائدة في أحد عروض الأزياء، بينما في الخلفية ينطق مذيع الحفلة اسم أحد أفلامها.

ردت نادية بعناد: مزاجي... أنا بشتغل بالمزاج.

فسألتها: لكن هذا المزاج ربما يؤثر سلباً في نجوميتك؟

حينها ردت بأداء هزلي ساخر: أنا حرة وأموت في الحرية... ومزاجي أعمل سحلية.

ولما أصابني الوجوم متصوراً أنها تسخر من السؤال، وتحاول إنهاء الحوار قالت وهي تضحك: مالك اتخضيت؟.. دي غنوة جميلة من كلام العبقري فؤاد حداد، بيقول فيها كمان: أنا حرة بديلي وبراسي/ وما حدش يكتم أنفاسي/ وما حدش ماسك إحساسي/ أزحف ع الأرض وع الحيطة/ وأطلع وأنزل وأعمل زيطة/ وأضرب في الشمس طرمبيطة...

وأضافت نادية: على فكرة أنا كده... رغم كل الحسابات والتفكير، في الآخر أنا بتصرف بمزاج، بعمل اللي «يطق» في دماغي، وأعتقد أن «طقاتي» بتكون أجمل حاجة في حياتي، لأنها طقات المجنونة العاقلة... طقات بحساب... بس حساب مختلف شوية عن حسابات الناس، لذلك مش هتلاقي له تفسيراً.

في كتابه الذي أشرنا إليه سابقاً اقترب الناقد أحمد يوسف من تقديم تفسير لـ«طقات» نادية التي تتعارض مع النجومية فقال: السر الذي اكتشفته نادية لطفي منذ البداية، هو أن تعيش حياة الشخصيات التي تقدمها بكل إقناع واقتناع، ورغبة في الحياة، لذلك لم تتمسك «النجمة» بالقواعد الشكلية للنجومية، وهذا ما جعلها دائماً، حتى في أدوارها القصيرة، تظلّ مركز الإشعاع الذي تنطلق منه شرارة الصراع الدرامي، أو هي البحر الذي تلتقي عنده الروافد والأنهار، فالنجمة نادية لطفي لم تسيطر أبداً على «الممثلة نادية لطفي»، لذلك ظلّت حرة من أية قيود، ولم تسجن نفسها يوماً في الأقنعة الفنية التقليدية.

الأستاذ

اختير المخرج الراحل شادي عبد السلام ضمن أهم مئة مخرج على مستوى العالم خلال التأريخ للسينما من رابطة النقاد الدولية في فيينا قبل أعوام، بسبب إنجازاته الفنية وفي مقدمها فيلم «المومياء» الذي أخرجه في نهاية الستينيات من القرن الماضي، ونال عنه جوائز دولية عدة، وحفر من خلاله مكانته كمخرج متفرد في أسلوبه ورؤيته، ومنح السينما المصرية حضوراً خاصاً.

ولد عبد السلام في محافظة المنيا عروس الصعيد في 15 مارس عام 1930، وتخرج في كلية فيكتوريا عام 1948 (المدرسة التي تخرج فيها يوسف شاهين وعمر الشريف)، ثم درس فنون المسرح في لندن قبل أن يعود إلى القاهرة حيث درس العمارة في كلية الفنون.

ورغم حصوله على درجة الامتياز في العمارة فإنه لم يتحمس لمتابعة مشواره العملي من خلالها، وإن كانت بالتأكيد أفادته في عمله بالسينما كمهندس للديكور أو مصمم للمناظر ثم للأزياء في أفلام عالمية ومصرية عدة، مثل «وا إسلاماه» أو الأميركي «كليوباترا»، كذلك «فرعون» البولندي. وهو شارك أيضاً في فيلم «الحضارة» مع المخرج الإيطالي الكبير روبرتو روسيليني.

بعد نجاح «المومياء» المذهل أخرج عبد السلام فيلماً قصيراً بعنوان «شكاوى الفلاح الفصيح» واستوحى فكرته من بردية فرعونية تدور حول العدالة ووجوب تحقيقها.

عبد السلام تولّى أيضاً الإشراف على مركز الأفلام التجريبية في وزارة الثقافة عام 1970، فيما أخرج عدداً قليلاً من الأفلام التسجيلية القصيرة أبرزها بعد «المومياء» فيلم «جيوش الشمس» ويتناول أسطورة عبور الجيش المصري خط بارليف عام 1973.

أما «إخناتون» فهو حلمه الذي لم يكتب له أن يرى النور رغم أنه استغرق سنوات في كتابته والتحضير له متمنياً أن تتولّى وزارة الثقافة إنتاجه وهو ما لم يحدث، فظلت الفكرة طي الأدراج حتى رحل عبد السلام عن عالمنا في عام 1986.

غرائب كثيرة

تشير قاعدة بيانات السينما العالمية على الإنترنت (IMDB) إلى مشاركة نادية في فيلم «باب الحديد» للمخرج يوسف شاهين قبل ظهورها على شاشة السينما رسمياً (لأول مرة) في فيلم «سلطان» بعشرة أشهر تقريباً. دفعني ذلك إلى الحصول على نسخة كاملة من «باب الحديد» ومراجعتها لقطة لقطة، لكنني لم أعثر على أثر لنادية!

ربما يبدو ذلك غريباً ومضيعة للوقت، لكنني كنت عرفت أن تاريخ نادية لطفي السينمائي يتضمّن غرائب كثيرة، لذلك لم أستبعد مشاركتها «السرية» و«غير المنطقية» في فيلم «باب الحديد»، وتوقعت أن يكون ظهورها في مشهد رحلة القطار الذي تتجوّل فيه «هنومة» لبيع زجاجات الكوكاكولا الباردة وسط مجموعات من الطلبة يرقصون ويغنون، أو في مشهد عابر داخل محطة السكة الحديد التي يحمل الفيلم عنوانها. توقفت كثيراً أمام صور المجلات الأجنبية التي يعلقها «قناوي» داخل «العشة» التي يبيت فيها بالمحطة، كإشارة إلى هوسه الجنسي المكبوت، فقد كانت ثمة صور عدة تشبه نادية لطفي، لكن المجلات كانت أجنبية، وتأكدت في النهاية أن نادية لم تشارك في الفيلم، ولم أجد وسيلة للتعرف إلى وجود اسمها ضمن المشاركين فيه على الموقع العالمي وفي أكثر من موقع متخصص في السينما!

نواصل كشف السر في الحلقات المقبلة

حبي للأدوار الصغيرة كسر شروط النجومية

هاجموني بسبب «المومياء» ولكني تعلمت فيه كيفية التعبير بلغة العينين
back to top