نادية لطفي... العصامية الشقراء (15 - 20)

«يوسف شاهين نصحني بألا أتعلم التمثيل!»

نشر في 10-06-2017
آخر تحديث 10-06-2017 | 00:03
يقولون إن للنجاح ألف أب، أما الفشل فيتيم. يقولون أيضاً إن النجاح نسبي، وحسابات الربح والخسارة تختلف من شخص إلى آخر. المؤكد أن بولا كتبت من خلال تجربتها السينمائية الأولى فيلم «سلطان» شهادة ميلادها الفنية، وانتقلت من دائرة الظل إلى الضوء...
عن موهبتها، وكيف نجحت في «تطويعها»... وعن أدوارها، وهل اتحدت معها أم نجحت في البقاء على مسافة منها لا يراها المشاهد؟
عن هذا وغيره نواصل سرد حكاية الفنانة القديرة نادية لطفي.
فتحت نادية أمامي باباً جديداً لقراءة فيلم «سلطان»، باعتباره امتداداً لنظرية اجتماعية تقول إن الإنسان ابن بيئته، فهو يولد وفي داخله الخير، لكن ظروف المجتمع والظلم والتعليم هي التي تتكفل باستمراره في طريق الخير أو دفعه إلى طريق الشر.

السيناريست عبد الحي أديب، أحد مؤلفي الفيلم، عندما سئل عن رأيه في أداء لطفي الدور، وهل نجحت في تجسيد شخصية سوسن كما تخيلها على الورق؟ بتعبير أدق هل نجحت في تحويل الحروف إلى أحاسيس ونبض ومشاعر حقيقية؟

بحسم أجاب: بالتأكيد نجحت في تجسيد الدور كما تخيلته، بل قدّمت وبحس طبيعي وتلقائي دور الفتاة المثقفة الجريئة التي قررت وخططت، ونجحت في الوصول إلى المجرم الخطير داخل عرينه في قلب الجبل، وهو ما عجز عنه رجال البوليس. ساعدها على ذلك وعيها وقدرتها على استيعاب الخلفية الاجتماعية والسياسية المؤلمة، التي حوّلت سلطان من «مجند ساذج» إلى أخطر مجرم ذاعت شهرته بين الناس. لكنّ «سوسن» بوصفها النجدة التي قدمتها له السماء وصلت متأخرة بعدما ارتكب سلطان معظم جرائمه. لذا، كان لا بد من أن ينال جزاءه بالقتل، تطبيقاً لمبدأ «العدالة الرومانسية» الذي ينصّ على أن الفتى الطيب يفوز دائماً، والحب الصادق يقهر كل شيء. أو بتعبير آخر، الخير يكسب والشر يخسر، فقد كان سلطان ضحية، لكنه تحوّل في لحظة يأس إلى مجرم. لذلك اقتضى «التطهّر الرومانسي» أن ينال المجرم جزاءه في النهاية بشكل تقليدي.

داخلي وخارجي

في أحد حواراتنا سألت نادية لطفي: هل كان ثمة أي شبه بينك وبين شخصية الصحافية «سوسن عبد الحميد» بطلة فيلم «سلطان»؟

أجابت نادية: أقدر أقول ما فيش أي وجه شبه، وأقدر أقول الشبه كبير جداً، لأن الشبه كان في الزمن والتطلعات، والنظرة بشكل مختلف إلى المرأة عما سبق. «سوسن» كانت نموذجاً جديداً، وكان من المستحيل أن يظهر على الشاشة أيام فيلم «زينب» مثلاً، أو حتى «العزيمة»... ربما عندما مرّت السنون، الناس لم يتنبّهوا إلى أهمية سوسن وشخصيتها في الفيلم، لأن فتيات كثيرات أصبحن يشبهنها لاحقاً، وانتشر تعليم البنات في الجامعات بعد الثورة، وحصلت المرأة في المجتمع الجديد على حقوق وحريات. ربما هذا سبب الاختفاء التدريجي للموضوعات القديمة من نوع البنت الفقيرة التي يعتدي عليها الباشا أو ابنه، لتكون هذه المأساة التي تشغل الجمهور في الفيلم، وفي الواقع أيضاً.

سألتها عن أدوارها الأخرى التي جسدتها على مدى مشوارها الفني، ومساحات التشابه، وحجم التأثير والتأثر، ماذا أضافت إليها، وماذا أخذت منها؟

قاطعتني قائلة: لا وفاء لديّ لأدواري...

صدمتني العباره ولكنها واصلت الشرح قائلة: في الوقت الذي أستعد فيه لتمثيل الشخصية «ما يكونش عندي غيرها». ممكن أنسى كل شيء من حولي، وتبقى الشخصية هي الوحيدة الموجودة في حياتي، وعندما أنتهي من تمثيلها تنتهي الشخصية من حياتي، حتى تأتي شخصية أخرى. في أحيان كثيرة، تصيبني حالة من الغربة لدرجة الكسوف (الخجل) عند رؤيتي أعمالي مجدداً، ولا أعرف لماذا أشعر بذلك؟ فثمة شخصيات غريبة عني تماماً، وثمة شخصيات تتضمّن جزءاً مني، وأحياناً لا أستطيع أن أجد الفرق بيني وبين الشخصيات، ولا أعرف نقاط الشبه والاختلاف بيني وبين ما عهد إليّ بتجسيده. ثمة شخصيات أتعاطف معها، وأخرى أشعر بالقرب منها، رغم أنها لا تشبهني في أي أمر، مثل «شهرت» في فيلم «قاع المدينة». أحببت هذا الدور جداً، وتعاطفت مع الشخصية منذ قرأت القصة التي قدمها لي حسام الدين مصطفى في «ورقة صغيرة»، إذ تخيلت الفيلم كله قبل التصوير، فاتصلت بالدكتور يوسف إدريس مؤلف النص الأدبي، وجاء إلى بيتي بعد منتصف الليل، حيث كنت أنتظره أنا وحسام وبعض الأصدقاء، واتفقنا على التفاصيل لأني وجدت أن الموضوع يعبّر بصدق عن «قاع المدينة». والغريب أنني وبعد انتهاء التصوير، وفي كل مرة أشاهد الفيلم أستغرب جداً... كيف جسدت هذه الشخصية؟!

واصلت نادية: الحيرة نفسها أيضاً تصيبني عندما أشاهد نفسي في شخصية «زوبة» في فيلم «قصر الشوق»، إذ درست الشخصية جيداً، حتى أنني تدربت لفترة عند «عالمة» من عوالم شارع محمد علي، وساعدني صديقي المخرج حسين كمال في تقمّص الشخصية من الخارج كممثلة محترفة، بعيداً عن الاتحاد معها داخلياً ربما لأنني لم أشعر برغبة في ذلك، خصوصاً أنه ليس بالضرورة أن تتوحّد مشاعرنا مع ما نقدّمه من شخصيات. بل أراها حالة متفردة من الاحترافية لو أن الفنان نجح في تجسيد الشخصية من دون أن يغوص في داخلها، وفي الوقت نفسه يقدّمها بمصداقية، أي أن تبقى بينهما مسافة لا يراها المشاهد، وهو ما نجحت في تحقيقه في معظم الشخصيات التي جسدتها بعد ذلك.

جين سيبل

لما ظهر اسم «نادية لطفي» على الشاشة، نشرت الصحف خبراً عن عزم إحسان عبد القدوس رفع دعوى قضائية ضد المنتج رمسيس نجيب، لاستخدامه «الاسم» من دون موافقته، وقال إحسان إن اسم «نادية لطفي» ضمن حقوق الملكية الفكرية له كمبدع للشخصية في روايته «لا أنام». لكن القضية لم تتحرك من الصحف إلى المحاكم، وانتهت في أول لقاء اجتمع فيه إحسان ورمسيس ونادية.

قالت نادية: الحكاية كلها كانت عتاباً لطيفاً، و«دلع فنانين»، والأستاذ إحسان هنأني على نجاحي وتنبأ لي بمستقبل كبير في التمثيل، وقال لي: أنت فعلاً تشبهين البطلة الحقيقية لقصة «لا أنام».

وتردّد أن إحسان كان قال الكلام نفسه تقريباً لفاتن حمامة، عندما جسدت الدور على الشاشة، مؤكداً أن شخصية «نادية لطفي» كانت فتاة حسناء من عائلة أرستقراطية تعرف إليها في «نادي الجزيرة». لكن هذا الكلام ظلّ مجرد معلومات بلا أدلة، يحلو للصحف أن تروجها استثماراً لشهرة إحسان عبد القدوس، وتلبية لأجواء التحرر العاطفي التي اتسمت بها قصصه. لكن وراء هذه المعلومات السطحية، كانت ثمة حقائق وخلفيات ترسم ملامح «واقع جديد» لمرحلة الخمسينيات الرومانسية. مثلاً، كان الشاعر «نزار قباني» أصدر من القاهرة ديوانه المدوي «طفولة نهد»، وخجل بعض المجلات الثقافية من تداول العنوان، ولما كتب الناقد أنور المعداوي دراسة عنه، تحايلت المجلة ونشرت العنوان محرفاً إلى «طفولة نهر»، لتتجنب صدمة القراء المحافظين. لكن شعر قباني لم يكن «غلطة وتعدياً». كذلك امتدت هذه الثورة العاطفية التي انطلقت في أوروبا بعد فيلم بريجيت باردو القنبلة «وخلق الله المرأة»، ورواية فرانسواز ساغان «صباح الخير أيها الحزن»، وانعكست في مصر من خلال تيار جارف تصدره أدب إحسان عبد القدوس وأغاني عبد الحليم حافظ، ولوثة «أبو عيون جريئة» التي ارتبطت بانتشار تقليد الشباب ظاهرة جيمس دين، فقد كانت الحرية العاطفية الموجة الكاسحة التي تواكب الحريات الاجتماعية والسياسية، والنظرة المتمردة إلى المرأة الجديدة، ودورها في المجتمع.

يعني ذلك أن «نادية لطفي» في رواية «لا أنام»، لم تكن في جوهرها إلا «جين سيبل» بطلة رواية «صباح الخير أيها الحزن» التي هزّت فرنسا والعالم، واستلهم منها إحسان قصته، متخفياً وراء قصة فتاة نادي الجزيرة.

الكنز

كيف إذاً يمكن للفنان أن يفصل بين شخصيته الحقيقية وبين ما عهد إليه بتجسيده؟ وكيف اكتسبت نادية ذلك الاحتراف، خصوصاً أنها لم تدرس التمثيل؟

ضحكت بولا وقالت: «العبقري يوسف شاهين اكتشف مغارة علي بابا والأربعين حرامي التي في داخلي.

*كيف؟

تحدّثت نادية عن ظروف تعاونها مع جو في تجربتها الثانية في السينما «حب إلى الأبد»، وكانت بمنزلة الدرس العملي في التمثيل واستمر معها «إلى الأبد».

قالت: يوسف يعرف كيف يأخذ ما يحتاج إليه من الممثل، وما زلت أحمد ربنا على أني التقيته واشتغلت معاه في بداية مشواري، لأنه ساعدني اكتشف الكنز الذي في داخلي وأتعامل مع مخزوني من المشاعر، كذلك دربني كيف أستخدم مخزوني البصري من كم المشاهدات التي أقابلها كل يوم والشخصيات التي أتعامل معاها.

واصلت قائلة: كان في الفيلم مشهد لازم أبكي فيه بحرقة وأنا أقرأ كلمات الخطاب الذي من المفروض أن أنتحر بعده. لكن ملامحي كانت جامدة، وما فيش دمعة نزلت مني. وكان شاهين ضد استخدام أية دموع اصطناعية أو تقطير الغلسيرين في العين والكلام ده، فأخذ يصرخ: مش كده. تاني... يا بولا افتكري أي حاجة غم في حياتك. كلبك مات، أمك ضربتك، أبوك عيان... كان يوسف شاهين متوتراً، وطريقته في الكلام بعصبية أدخلتني في نوبة ضحك طويلة، وكلما زادت عصبيته زاد ضحكي وللأسف فشل في توجيه أية ملاحظة لي. وطبعاً شاهين شعر بأني خرجت من تركيزي، فقال: أطفوا الزفت... وكان يقصد إطفاء لمبات الإضاءة لإراحتها، وجلس معايا شوية... ضحكنا واتكلمنا في موضوعات تانية خالص وبمنتهى الهدوء، وبعدين فجأة قال: لنعد إلى المشهد، أنا عاوزك تقرئي الرسالة بالطريقة دي. وأمسك الرسالة وراح يقرأها بطريقة مؤثرة جداً، ويقف عند كلمات معينة. ولما سمعت منه الكلمات تأثرت جداً، ورحت أبكي، فقال: كويس إني قدرت أنكد عليكِ، حافظي على الإحساس ده، هنبدأ التصوير.

فعلاً، عملت المشهد بشكل رائع ومن أول مرة، ويومها قال لي يوسف شاهين جملة لا أنساها: يا بولا أنت ممثلة بمزاج... مش صنايعية، فاتن صنايعية وأستاذة حرفة، أما أنت فمشاعرك من جواكِ... إما المشهد يهزك من الداخل، وإما لا يهزك أبداً.

تعجبت وسألته: أنا بفكر أدرس التمثيل في مصر، ولو مش هينفع عندي فرصة أسافر أميركا أدرس هناك.

فقال: بلاش الكلام الخايب ده. أوعي تعملي كده... أنت عندك أعظم حاجة بيحتاجها الممثل... الإحساس والصدق. حافظي عليهما وسيطري عليهما وأنت هتبقي حاجة تانية ومختلفة عن الكل.

واصلت بولا الكلام: بالتأكيد الملاحظات أفادتني جداً، وبدأت أتعامل مع الأدوار ومع التمثيل بشكل مختلف، فمن قبله كنت أتعامل مع الشخصية باعتباري مسؤولة عنها وعن أخلاقها، وأن أفكارها لا بد من أن تشبهني وتصرفاتها تمثلني. لكن لاحقاً عرفت أن الشخصية التي قد أقدمها تنتمي إلى نفسها، ولا علاقة لها بحياتي العادية خارج التمثيل. وعشان كده حسيت إني لازم أخالف اتفاقي الأول مع عادل عن اختياري الأدوار وضرورة ألا تشوبها شائبة، لأني لو ما عملتش كده، حفضل أمثل دوري أنا على الشاشة، لكن التمثيل هو إن أقدّم الشخصيات مهما كان اختلافها بأخلاقها وتصرفاتها، من دون أن أتأثر بتصرفاتها في حياتي، وأظن إني نجحت في الحفاظ على «بولا» من غير أي تعارض مع «نادية لطفي».

خُط الصعيد

المؤكد أن فيلم «سلطان» مأخوذ، من دون إشارة صريحة إلى المصدر، من حادثة «خُط الصعيد» التي تحولت إلى أسطورة تكررت كثيراً بعد ذلك في صعيد مصر. اكتفى الفيلم بتعليق صوتي نصه: «ليست قصة هذا الفيلم أسطورة، ولا هي من نسج الخيال، إنما هي قصة حقيقية، وقعت حوادثها قبل عام 1952 بسنوات، وبدأ القدر ينسج خيوطها في أحد بلاد الصعيد». لكن الأحداث كلها ترتبط بقصة «الخُط»، وهو في الأصل شاب يدعى محمد منصور من قرية «درنكة» بأسيوط، ولد عام 1907 وقُتل في صيف 1947، وأرجح الروايات لتحوله إلى الإجرام ترتبط بخلاف مع شيخ الخفراء في قريته، انتهى بصفعة مهينة على وجهه، فتربص لعائلة «حميدة» شيخ الخفراء وقتل منهم تسعة أشخاص، وهرب بعدها إلى الجبل، حيث انضم إليه المطاريد، وكوّن عصابته التي ذاعت شهرتها في القطر المصري كله، نتيجة لذكائه في التخطيط، وجرأته في التنفيذ، وكان خاله «عواد» أحد أبرز مساعديه، وهو الدور الذي قدمه في الفيلم الفنان «فاخر فاخر».

ويحكى أن شهرة «الخُط» وصلت إلى الملك فاروق، ما دفع وزارة الداخلية إلى تركيز حملاتها للقبض عل المجرم الذي هزّ هيبة السلطة في مديرية أسيوط، بعدما سيطر على مناطق كثيرة، وأصبح يرتكب جرائمه في وضح النهار. وبعد معارك متبادلة فشلت جميعها في اقتحام الجبل، وُضعت خطة لاستدراج «الخُط» عن طريق غرامه بالحسناوات، واستأجر مأمور منفلوط ثلاث راقصات ظللن يرقصن أياماً عدة كل ليلة في بلدة «العزبة»، لعل «الخط» يبتلع الطُعم. والمثير أنه تسلل إلى مخادعهن، وأمضى الليل وهرب من دون القبض عليه. وبعد أشهر تعرف إلى غانية تدعى «حليمة» وذاب في غرامها، وأصبح يمضي كثيراً من الوقت عندها، وأهمل الاحتياطات التي تعوّد عليها، وتسربت الأخبار والروايات من داخل العصابة، وتمكنت الداخلية من إغراء عمدة القرية التي يذهب إليها الخط للقاء حليمة، وحدثت الوقيعة والخيانة وتبادل الرصاص، وسقط «الخُط» قتيلاً برصاص عائلة حمدي خليفة عمدة جحدم في 6 أغسطس 1947. لكن سيرته ومعاركه مع السلطة وجنودها، ظلت تتردّد على لسان الناس كأسطورة لا تموت، وصار كل مجرم متسلسل يواجه السلطات لفترة طويلة، يحمل لقب «الخُط»، مع أن الكلمة كانت لقباً لعائلة محمد منصور، ويقال إنها تحريف من كلمة «الختمة» التي تنطق اختصاراً في بعض قرى الصعيد «الخت»، أي ختمة القرآن الكريم التي اشتهر بها أحد أجداد محمد منصور الأوائل.

نواصل كشف الأسرار في الحلقات المقبلة

الاحتراف منعني من الوفاء لأدواري ودور «العالمة» كان نقلة في حياتي

نجحت في الحفاظ على «بولا» من دون أي تعارض مع «نادية لطفي»
back to top