نادية لطفي... العصامية الشقراء (14 - 20)

من أول فيلم.. المنتج تراجع عن عقد الاحتكار

نشر في 09-06-2017
آخر تحديث 09-06-2017 | 00:08
ولدت الفنانة القديرة «نادية لطفي» رسمياً في يوم 5 أكتوبر 1958، حيث ظهر الاسم على شاشة السينما لأول مرة، وتم تسجيله في عرض عام للجمهور، كحقيقة فنية على «تيترات التاريخ»..  
قبل ذلك كانت «صاحبة الاسم» مجرد فتاة عادية من ملايين الفتيات اسمها «بولا شفيق»، ثم أصبحت زوجة متفرغة لابن الجيران، ثم أما لطفل رضيع اسمه أحمد عادل البشاري، لكنها في هذه الليلة صارت كل هذا وأكثر، صارت بولا الزوجة والأم، وفوقهما النجمة السينمائية الجديدة «نادية لطفي».
حضرت نادية حفلة افتتاح الفيلم مع حشد كبير من الفنانين والصحافيين، وتلقت التهاني، والتقطت لها الكاميرات عشرات الصور، وشعرت أنها عبرت الحاجز السحري، الذي يفصل بين الظل والضوء، وكان عليها أن تتعلم ثقافة التعامل مع الشهرة، فقد أصبحت بين يوم وليلة واحدة من المشاهير اللواتي يتعرف عليهن الناس في الشوارع، من دون لقاء سابق، أو معرفة واقعية.

تقول نادية: قصة الشهرة دائماً لها جانب آخر، جانب المعاناة والعذاب، فالجمهور يشاهد الفيلم في ساعتين، ويتعرف على النجم في لحظة الفرح، ولا يهمه كثيراً كمية الألم والتعب والقلق التي يتعرض الفنان من أجل هاتين الساعتين، مثلاً أذكر أن تصوير أول لقطة من فيلم «سلطان»، كانت في جبل المقطم، حيث يجب على الصحافية «سوسن» التي أؤدي دورها أن تصعد فوق هضبة عالية لتقابل رئيس العصابة «سلطان الأسود»، يومها لم أفكر في الخوف، أو السقوط من المنحدر الخطر، بل كنت أركز في تعليمات المخرج عن الحركة ونظرة العين، وعدم نسيان كلمة من الحوار الذي يدور بيني وبين المجرم الخطير، حيث كنت أحاول إقناعه بتسليم نفسه، أو استدراجه ليقبض عليه البوليس بالاتفاق مع خطيبي الضابط عصام (رشدي أباظة).

 لكن فجأة عقلي «شطح» في حاجة تانية خالص، كانت ممكن تشتت تركيزي وتبوظ كل حاجة، شعرت فجأة بأنني شخصية غشاشة وغير محترمة، أخدع ذلك الشخص  بكلام ومشاعر غير حقيقية، ثم حاولت أن أبرر هذا السلوك بأنه لمصلحة المجتمع، ومن أجل القضاء على مجرم شرير، وبعدما شعر سلطان بالثقة ناحيتي، وأظهر لي حبه، زادت التناقضات بداخلي، ووصلت مشاعري إلى درجة عالية من الاختناق في المشهد الذي يعبر لي عن حبه، ويصبح رهن أمري في حال موافقتي على الزواج منه، وفي هذه اللحظة انفجرت الدموع من عيني، شفقة على هذا الإنسان، الذي تعرض للظلم من الجميع، ودفع به المجتمع مرغماً لهذا المصير، وقد كان هذا المشهد من أقوى المشاهد التي قدمتها في الفيلم، فقد ظللت أبكي لفترة بعد التصوير، وفريد شوقي يضحك ويحاول إعادة الهدوء إلى نفسي، وأعتقد أن التلقائية والمشاعر الطبيعية كانت السبب في نجاح هذا المشهد، ونجاح الفيلم كله.

 

رهان خاسر

المؤكد أن كل طرف في الفيلم كانت له رؤية في ما يتعلق بمقدار نجاح الفيلم، بدءاً من الوجه الجديد نادية مرورا بالمنتج والمخرج وحتى النقاد، إلا أن بطل الفيلم فريد شوقي لم يكن سعيداً بالنتيجة النهائية، وزاد غضبه لأنه كان يراهن عليه تحديداً في تحقيق درجة أكبر من النجاح، خصوصاً بعد الفشل الجماهيري الذي تعرض له في موسم 1958 كله تقريباً، الذي بدأ بفيلم «باب الحديد» مع بداية العام وانتهى أحد عروضه بتكسير الجمهور قاعة العرض السينمائي، لأن «ملك الترسو» ظهر طول الفيلم يخطب في العمال حول ضرورة تأسيس نقابة للشيالين، ولم يضرب خصومه بقبضته كما اعتاد جمهوره، وفي الربيع حقق فيلمه «مجرم في إجازة» من إخراج صلاح أبو سيف نجاحاً متوسطاً، كذلك فيلم «الأخ الكبير» مع فطين عبد الوهاب، ثم في نهاية العام تعرض فيلمه الثاني مع نيازي مصطفى «أبو حديد» إلى فشل جماهيري ونقدي.

 لكن نادية لطفي كانت الأقل تضرراً من الجميع، فقد اكتفى المنتج رمسيس نجيب بإلغاء عقد الاحتكار معها، على أن يدفع لها قيمة العقد كاملة، وإن لم يخطرها بذلك إلا بعد فترة.

وحينما لم تتلقَ أية اتصالات أو حديث منه يتعلق بالعمل، سألت وعرفت القصة، فاتصلت بصديقتها إيريس شاهين وزوجها جان خوري، وتناقشت مع صديقها الطيب الفنان السيد بدير، ومن دون أي توترات أو مشاكل، اقترح جان خوري أن يستكمل رمسيس نجيب العقد من خلال شركة الشرق التي يمتلكها بالمشاركة مع محمود شافعي وتزمع إنتاج فيلم جديد ليوسف شاهين، وكأن الحظ كان لصالح «نادية لطفي» كي تؤدي بطولة فيلمها الثاني تحت إدارة المخرج العبقري، وكانت تجربة فنية أفادتها كثيراً، وحققت نقلة نوعية في أسلوب أدائها على الشاشة.

 بين قوسين

قبل أن ننتقل إلى تجربة نادية مع يوسف شاهين، نتوقف بقدر من التفصيل عند الفيلم الأول، ليس فقط باعتباره بوابة الشهرة، وتأشيرة دخول نادية إلى الوسط السينمائي، لكن لأن الفيلم في مجمله، ودور الصحافية «سوسن عبد الحميد» الذي أدته «نادية لطفي» خصوصاً، يقدمان صورة للملامح الجديدة والمتغيرات في شكل السينما وأبطالها وموضوعاتها، التي واكبت تلك الفترة الثرية في عنفوان ثورة يوليو الاجتماعية والسياسية، تحديداً ما يتعلق بنظرة السينما للمرأة، فخرجت من النموذج القديم إلى ثنائية «الجسد المقدس أو الجسد المدنس»، على غرار «فاتن حمامة وهند رستم»، وقبلهما نماذج للبطلة الطاهرة البريئة والراقصة المغوية أو الحسناء الحقودة الشريرة.

اقترب النموذج الجديد أكثر من التعامل مع المرأة كـ»إنسان» في المجتمع، كائن له اهتماماته وقضاياه السياسية والاجتماعية والثقافية، وأيضا له همومه وإحباطاته، صحيح لم يتم ترجمتها برؤية واضحة محددة، ولكن في المطلق طرح سينمائياً بوصفه شريكاً في المجتمع وليس مجرد «كمالة عدد» أو كائن مهمش، إلى جوار القضايا الأنثوية والنوعية والتقليدية، التي تناولتها السينما مراراً، كما أن هذا النموذج طرح بتدرجاته النفسية، وهو ما لم يكن مطروحاً من قبل، بحيث تلتقي في شخصياتها أطيافٌ كثيرة لا تنقسم بحدة بين الملائكية والشيطنة.

 كذلك ظهرت صورة المرأة العاملة التي تشارك الرجل مشكلات الحياة والمجتمع، وهو ما تجسد بقوة في صورة الثنائي الجديد «نادية لطفي» ثم السندريلا «سعاد حسني» التي ولدت فنيا  في مطلع مارس 1959م، أي بعد أشهر قليلة من ظهور صديقتها نادية لطفي، بينما الفنانة لبنى عبد العزيز كانت قد سبقتهما بقليل، لكنها سرعان ما اعتزلت بعد مشوار قصير، وإنجاز سينمائي محدود.

تجربة حياة

المؤكد أن بولا أو نادية كانت انعكاساً لهذا التحول الذي يعيشه المجتمع، من دون أن تدري، تأثرت بكل ما يدور حولها، حتى على مستوى الأداء كانت شخصية بولا بكل تحولاتها تلقي بظلالها على الشخصيات التي تجسّدها، بالأخص التي تندرج تحت نموذج المرأة الجديدة التي تدافع عن استقلالها وحريتها، كما في شخصية الصحافية سوسن أو غيرها من الشخصيات، حينها كان أداؤها يرتفع، مقابل أداء عادي وربما تقليدي حينما تجسد شخصيات أخرى عادية لا تحمل خصوصية ما.

تقول: الفن قربني من الإنسان.. علمني كيف يمكن أن أفهم ضعفه.. ومن ثم أقبله، وده مش سهل.. دي حاسة ومَلَكَة بتتكون مع الزمن.

وفي واحدة من اللقاءات التي جمعتنا قالت: السينما تعطي بقدر ما تأخذ، ولقد أضفت السينما الكثير من المعاني الجديدة لحياتي، أعطتني السعادة كما علمتني ضرورة أن تكون لي اهتمامات عامة وأن يكون لي دور في الحياة العامة، وجدت فيها نفسي وشعرت أن عملي بها يشبعني تماماً، رغم أنها وفي المقابل أخذت مني استقراري، وحياتي الشخصية، كنت ملولة أعشق التغيير، وفي أحيان كثيرة كنت أشعر بالفراغ ، لكن بعد عملي في السينما، لم أشعر بالملل ولو ليوم أو لحظة واحدة، حتى عندما أكون بمفردي في البيت أو مسافرة إلى مكان بعيد، دوما لدي إحساس بالحياة والأصدقاء من حولي، بل إن المجتمع كله يظل يشغل بالي وتفكيري واهتمامي.

تواصل: السينما «ربتني» بالمعنى الحقيقي لكلمة تربية، وفتحت أمامي آفاقاً جديدة لم أكن قد جرَّبتها من قبل، صحيح عندما خضت التجربة ودخلتها كان على سبيل الفضول وحب الشهرة، ولكني بعدما مارستها أحببتها وبشكل مختلف، هي بالنسبة لي أعتبرها الحياة الحقيقية التي لم أكن أعرفها، لذلك بدأت علاقتي بكل شيء تتغير من السطحية إلى الجدية والعمق، فمثلا وبقدر ما كنت أكره المذاكرة أيام دراستي، أحببت القراءة بشغف، نظراً لأن العمل السينمائي يتطلب مني أن أقرأ روايات وسيناريوهات كثيرة، بل وأدرس النفس البشرية، وأتعرف على التاريخ والتجارب المختلفة للبشر حتى أتمكن من تجسيدها، لأن الشاشة تتناول الحياة بكل ما فيها من نماذج إنسانية وأحاسيس وعواطف وأفكار، لذلك أعتبر نفسي محظوظة أن الله هيأني للقيام بهذا العمل اللذيذ، والحمد لله أنني أدركت قيمة هذه النعمة، وحافظت عليها، وكسبت محبة واحترام الناس من خلالها.

ما يعني أن بولا أو نادية كانت نتاجاً لتجربة حياة، مزيجاً بين الخاص والعام، تنشغل بما يحدث في الوطن العربي كله وليس بلدها فحسب، سواء فنيا أو اقتصادياً وسياسياً، وفي نفس الوقت هي مهمومة بالاطمئنان على حياة من حولها من الأهل والأصدقاء، تنخرط في قراءاتها التي تداوم عليها، ولكنها لا تنفصل عن اهتمامها بأصدقائها وزملائها، حتى أبنائها من الفنانين الذين لم تشاركهم التجربة سواء فنيا أو إنسانيا لا تكف عن مساندتهم، لدرجه أنه عندما شاع خبر مرض الفنان أحمد حلمي شوهدت نادية وهي تبكي، وتقول على شاشة التلفزيون: «ياريتني أنا بدلا منك يا أحمد».  

المؤكد أن بولا ستظل دوما مشغولة ومهمومة بكل من مروا بحياتها، حتى لو كان مروراً عابراً، ما زالت ذاكرتها تحتفظ  بالغاليين الأعزاء الذين رحلوا عن عينها وإن لم يرحلوا من ذاكرتها أو قلبها.

تقول: من نعمة الله عليّ أنني أجد الكثير من المتع في أشياء كثيرة حولي، وفي كل مراحل عمري كنت أجد ما أشعر معه بالمتعة، حتى بعدما خسرت متعة السيجارة وفنجان القهوة، دائماً أفتش عن المتع المتاحة في الحياة من حولي.

أول لقطة

كان أول مشهد ظهرت من خلاله نادية لطفي على شاشة السينما في فيلم «سلطان» للمخرج نيازي مصطفى، الذي جمعها مع الفنان أحمد لوكسر (جسّد في الفيلم شخصية مدير التحرير الذي تعمل معه الصحافية سوسن أي نادية).

وقد حرصت على أن ترتدي في المشهد «تايير» بسيط من دون أكسسوارات أو مكياج مبالغ فيه، أما شعرها فكان أسود بتسريحة كاريه، ولا يعكس ملامح النجمة الشقراء التي روجت لها الصحافة باعتبارها الطبعة المصرية من «أنغريد برغمان».

كان المشهد عبارة عن مدير التحرير يتأمل الصفحة الأولى من الجريدة التي يتصدرها مانشيت وتحته صورة منشورة، فيما نص المانشيت يتضمن عنوان: «خطف عروس في ليلة زفافها.. وأسفله عنوان عريض ببنط أقل «عصابة سلطان الأسود تقوم بأكبر مغامرة في تاريخ الإجرام».

 يخبط مدير التحرير بيده على الصحيفة وهو يخاطب سوسن بفخر: إحنا سبقنا كل الجرايد بنشر صورة سلطان، فتنطق نادية لطفي بأول كلمة لها على شاشة السينما..  «الحقيقة».. (وهي تنظر لمدير التحرير) الحقيقة أنا مابذلتش أي مجهود.. الصدفة وحدها هي اللي حطت صورت (المجرم) قدامي!.

الطريف أن أول حوار لها في مشهدين متتاليين تضمن مفردات عن الحقيقة والمصادفة، والرغبة في التحقق والشهرة، والحديث عن ندية المرأة للرجل، وكأن نادية هي التي تتحدث عن ظروف دخولها للسينما، وليست «الصحافية سوسن»..

الأغرب أن آخر كلمة نطقت بها نادية على شاشة السينما وقبل أن تبتعد عنها كانت كلمة «حياتي» وكان ذلك في نهاية فيلم «الأب الشرعي» أمام الفنان محمود ياسين في العام 1988، حيث الزوج يخرج من السجن ويحتضر في المستشفى وسط أسرته، فتطمئنه على أولادهما قائلة: دول أغلى حاجة ما في حياتي.  

أول أداء «مفتعل»

الوقفة غير طبيعية، النظرة زائغة، تلقي حوارها ككلمات محفوظة من دون إحساس داخلي، تضغط على الحروف بشكل مفتعل، هكذا كان أداء نادية لطفي في أول مشهد تطل من خلاله على جمهورها .

تقول: مابذلتش أي «مكهوت» بدلا من «مجهود»، و{تعرف إنها فكرة «متهشة.. وسعب» بدلا «من مدهشة وصعب»، هكذا كانت خطواتها الأولى تحمل الكثير من الأخطاء والتي ربما مرت على بعض الجمهور من دون أن يلتفت لها، لكن ومن المؤكد أنها تحسنت في المشاهد التالية خصوصا في المناقشة وبندية حول حق المرأة في العمل والنجاح، وانتزاع حقوقها بوصفها إنسانا في المجتمع له الحق في إثبات ذاته، وكأنها كانت تريد أن تثبت ذلك للجميع وفي مقدمهم أهلها ، وليس فقط  لخطيبها بوصفها سوسن الصحافية خلال أحداث الفيلم.

تعاطف

في فيلم «سلطان» تمت الإشارة إلى هتلر وموسوليني وحافظ نجيب، باعتبارهم أبطالا شعبيين ظلمهم الناس والتاريخ، مثلهم مثل عنتر بن شداد وأدهم الشرقاوي، وهي إشارة تكشف رغبة صناع الفيلم في تمجيد كل أعداء الإنكليز، حتى لو كانوا في نفس درجة وحشية هتلر!..

لكن مع تتبع الآراء الشخصية للمخرج نيازي مصطفى ودراسته للسينما في ألمانيا نرجح أنه من أضاف هذه اللمسات «النازية» على السيناريو، والذي شارك فيه مع جليل البنداري مؤلف القصة وكل من عبد الحي أديب والسيد بدير كاتبي السيناريو والحوار، وهي آراء توافقت مع كثير من المصريين (أشهرهم الجنرال عزيز المصري) الذين تعاطفوا مع ألمانيا أثناء الحرب الثانية، نكاية في الاستعمار البريطاني.

نواصل كشف الأسرار في الحلقات المقبلة

«ملك الترسو» لم يكن سعيداً بفيلم «سلطان» لأنه جاء في عام تراجع نجوميته

تعلمت أن السينما تعطي بقدر ما تأخذ ومعها عرفت معنى السعادة الحقيقية
back to top