نادية لطفي... العصامية الشقراء (9 - 20)

معركة مع الأسرة لقبول أول بطولة سينمائية

نشر في 04-06-2017
آخر تحديث 04-06-2017 | 00:03
تعرفنا في الحلقات السابقة إلى طفولة نادية لطفي، وظروف نشأتها، والعوامل التي ساهمت في تكوين شخصيتها كطفلة وحيدة وعنيدة، وهي الفترة التي وصفتها بالميلاد الأول. كذلك تعرفنا إلى فترتي المراهقة والصبا، ومعركة المطالبة بالاستقلال التي انتهت بزواج تقليدي من ضابط بحري، وانتقالها من القاهرة إلى الإسكندرية، حيث أنجبت ابنها الوحيد «أحمد»، وهي الفترة التي وصفتها بميلادها الثاني.
عن أفراح بولا وآلامها وميلادها الثالث والأهم، نواصل الحديث إلى النجمة السينمائية المصرية الكبيرة نادية لطفي.
امتزجت أفراح «بولا شفيق» وانتصاراتها بآلام شديدة في فترة الحمل، ومتاعب وصلت بها إلى خطر الموت أثناء ولادة طفلها الأول والوحيد أحمد، ما دعاها إلى عدم تكرار تجربة الإنجاب المؤلمة، لكنها كانت تشعر بأن القدر يخبئ لها مفاجآت أكثر، وتحولات أكبر، سرعان ما ظهرت في الأفق بعد عام وأشهر من ميلاد أحمد، أو «ميلادها الثاني» كما أكدت سلفاً، إذ كانت بولا على موعد مع «ميلادها الثالث» والأهم... ميلادها كنجمة سينمائية.

قالت نادية: ارتبط ميلادي الثالث بأجواء رمضان 1958. كنت لسه باسمي القديم «بولا محمد مصطفى شفيق»، وطبعاً لم يكن لي خيار في اسمي، ولا قرار في ميلادي الأول، لكنني في ميلادي الثالث (والأهم) اخترت كل حاجة بإرادتي الحرة، وأعدت صياغة الأمور وفقاً لرؤيتي، وليس فقط اسمي كمولودة جديدة (نادية لطفي).

تنهدت بولا وواصلت قائلة: كانت تجربة صعبة لكنها ممتعة.

 

سنة الانتفاضة

ذات ليلة خريفية في نوفمبر 1988، كانت نادية لطفي في الجزائر، وكان بصحبتها الفنان نور الشريف، وفي تلك الليلة استمعت إليه وهو يلقي بصوته المؤثر قصيدة «الأرض» لمحمود درويش، وعند المقطع الذي يقول فيه:

«في شهر آذار... قبل ثلاثين عاماً وخمس حروب

ولدت على كومة من حشيش القبور المضيء».

سرت قشعريرة خفيفة في جسد نادية، وكلما تكرّر المقطع بصياغات تصاعدية، زاد تأثرها، من دون أن تدري سر هذا الشجن الذي أثارته القصيدة، حتى وصل نور إلى مقطع من القصيدة يقول فيه درويش:

«في شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات

وتنمو علينا النباتات

صاعدة في اتجاهات كل البدايات».

انهمرت الدموع غزيرة من عينيها، وظنّ الحاضرون أنها دموع التعاطف مع الشهيدة الفلسطينية خديجة الشواهنة، التي خلدها درويش في قصيدته، لكن الدموع كانت خاصة جداً، والذكريات كانت شخصية جداً، ولما صعدت نادية إلى غرفتها ظلت ساهرة حتى الساعات الأولى من الصباح، تسترجع ذكرياتها عن «شهر آذار في سنة الانتفاضة»، والمقصود لم يكن انتفاضة الأرض في فلسطين الحبيبة، ولكن انتفاضة بولا شفيق في ربيع 1958 أي قبل 30 عاماً و5 حروب من ليلتها الجزائرية في خريف 1988، حيث كانت تحضر المؤتمر التاريخي للمجلس الوطني الفلسطيني، والذي أعلنت فيه ولادة الدولة الفلسطينية، التي لم تبلغ سن الرشد (حتى الآن)، بينما أسفرت «انتفاضة بولا» عن مولد نجمة ساطعة اسمها «نادية لطفي»، وصلت إلى سن الرشد منذ إطلالتها الأولى على الشاشة.

جان خوري

صاحب الفضل الخفي في تقديم «نادية لطفي» إلى السينما، وهو منتج وموزع سينمائي مصري من أصل لبناني، اضطر إلى مغادرة مصر بعد تأميم شركة «الشرق» التي أسسها مع شريكه محمود شافعي، ثم عاد إلى مصر للمشاركة في تأسيس شركة مصر العالمية مع صهره يوسف شاهين، وهو والد المنتج غابرييل (غابي خوري) والمنتجة ماريان خوري، ويعرف المتابعون لشؤون السينما أنه هو الذي عهد إلى رمسيس نجيب بتقديم نادية لطفي، وظلّ يمثّل لها الرعاية والمشورة من دون وصاية أو تدخل، ذلك بعدما أقدم رمسيس نجيب على حل عقد الاحتكار الذي وقعه مع نادية، ظناً منه أنها لن تنجح كبطلة سينمائية، بعد الانتقادات التي وجهت إليها أثناء تنفيذ فيلم «سلطان».

الميلاد

كانت البداية في الربيع، وتواكباً مع مناخ تلك الفترة عاشت بولا أيضاً زوبعة «خماسين» عائلية اعتراضاً على فكرة اشتغالها بالتمثيل. لكن رياح الخلاف هدأت كثيراً بمناسبة دخول رمضان، و«كنت انتقلت من الإسكندرية أنا وزوجي البحار عادل البشاري وابننا أحمد، وكان «نونو» عمره أقل من سنتين، واستأجرنا شقة في منطقة «مصر الجديدة»، وبدأنا نعيد ترتيب حياتنا، بما يناسب الفرصة التي نزلت علينا من السما، ومش عارفين هتوصلنا لفين؟!».

عاشت فترة تخللتها اجتماعات، واستخراج بطاقة شخصية جديدة لتوقيع عقد أول بطولة سينمائية، ودروس في اللغة العربية، وتمرينات على النطق ومخارج الحروف، وتدريبات في الإلقاء، وقراءة السيناريو، وحفظ الدور، ومحاولات لرأب الصدع الذي قسم العائلة الكبيرة، التي تنتمي جذورها إلى الصعيد (جنوب مصر).

كانت ليلة رأس السنة، والكابتن بحار عادل البشاري يلبي وزوجته «بولا» دعوة إلى حفلة في منزل إيريس شاهين وزوجها المنتج السينمائي جان خوري، وكانت بولا تعرفت إلى إيريس منذ انتقالها من القاهرة إلى الإسكندرية، وصارت بينهما مودة واستلطاف، وعند باب الشقة استقبلت إيريس «بولا» بضحكة بشوشة، وقالت لها: إيه الجمال ده؟.. مراتك نجمة سينما يا عادل بيه... مش قلت لك يا بولا» لازم تشتغلي في السينما. مش عارفة يوسف تايه عنك فين؟ (تقصد شقيقها المخرج الشاب يوسف شاهين).

علّق جان ضاحكاً: بلاش يوسف المجنون ده... تشتغل مع أي حد غيره.

ردّت إيريس: أخويا مجنون يا جان؟

قال بجدية: جو فنان عبقري، والجنون أجمل حاجة في عبقريته... خللي بولا بس توافق، والمنتجين هيجروا وراها.

 

كانت الحفلة لطيفة، ومبهجة، وافتتاح متفائل للعام الجديد. أمضى الزوجان سهرة ممتعة، وبعد منتصف الليل بنحو ساعة استأذن عادل وبولا في الانصراف، بعد توجيه الشكر إلى أصحاب البيت وتحية الضيوف الموجودين، ومعظمهم من المعارف.

في الطريق إلى «جليم»، قالت بولا لزوجها:

* اسكت يا عادل، أما حصلت حاجة في الحفلة ظريفة خالص، وهتضحكك.

- خير يا حبيبتي.. ضحكيني.

* عارف رمسيس بيه، اللي اتعرفنا عليه الليلة في الحفلة؟

- أيوه المنتج السينمائي صديق جان... دا راجل شيك ومهذب

* فعلا... كنت واقفة مع جورجيت وإيريس، قرب مننا بكل احترام، واتكلم عن فيلم جديد بينتجه، وبعدين سألني: ما فكرتيش تشتغلي في السينما؟ ردت عليه إيريس بهزار: مش أقل من دور البطولة، فقال بكل جدية، أنا بتكلم فعلا عن دور بطولة، وبفكر في وجه جديد، ولو مدام بولا وافقت، نعمل «التيست» بعد العيد (يقصد عيد الميلاد المجيد).

قلت له: تيست إيه؟ هو التمثيل كمان فيه امتحانات؟ قال: طبعا يا هانم... السينما حاجة مهمة وصناعة صعبة جداً، والكاميرا لها رأي لوحدها، يعني فيه ناس جميلة جدا في الواقع قدام عينينا، والكاميرا ما تحبش وشهم وبيطلعوا وحشين، وناس تانية تشوفيهم عادي والكاميرا تحبهم جداً، ويطلعوا فاتنات، وبنقول على وجوههم «فوتو جينيك، والصوت كمان بيختلف تماماً في التسجيل... مش أي صوت بنسمعه في حياتنا ينفع في السينما.

سألته: والدور عبارة عن إيه؟

قال: صحافية.

إيريس قالت: يعني ما فيش رقص ولا كباريهات؟

 وضحكنا، لكنه رد بهدوء: الدور محترم جداً، وبيطرح قضية مهمة، ولما جورجيت سمعت كلمة قضية «اتفتحت» كعادتها... وهاتك يا كلام في السياسة، سألته بهزار: والفيلم بقى عن «الاتحاد القومي»، ولا عن مساعدات عبد الناصر لسورية؟ فالرجل جاوب بأدب: لا... قصة اجتماعية في الأربعينيات عن «خُط الصعيد» لكن مش بالشكل اللي نشرته الصحف لو فاكرين، وطبعاً الحوادث كلها بتدور قبل الثورة.

ردت جورجيت بطريقتها العصبية: ثورة؟!.. ثورة إيه؟ إحنا لا بقى عندنا سياسة ولا أحزاب، وداخلين في معارك أكبر من إمكاناتنا في الداخل والخارج. تقدر تقول لي إحنا قد أميركا عشان نقف قدامها بعد ما وقفت جنبنا في 56؟! وبعدين هنكسب إيه لو كملنا فعلاً حكاية الوحدة مع سورية اللي محموقين عليها دي؟!

طبعا إيريس اتدخلت في الوقت المناسب، وقالت: سيبونا من السياسة، خللونا في السينما. عاوزين نشوف «بولا» منورة الشاشة، فالأستاذ رمسيس قال لها: يا ريت تقنعيها يا إيريس هانم، الدور لايق عليها جداً. وقبل ما يستأذن ويرجع لكم، قال لي: أنا منتظر ردك يا بولا هانم، وعندك أسبوع للتفكير.

استمع عادل إلى الموقف باهتمام، ثم فوجئت به يقول: عرفت قبلك، عشان كده بقول لك إنه رجل «جينتل» وبيراعي الاحترام، وواضح أنه «جان» كان عنده علم، وأنه كلمه قبل كده ودعاه مخصوص للحفلة عشان يقدم العرض ده، لأننا كنا بنتكلم في موضوعات عامة، وفجأة جان ابتسم وبص ناحية الأستاذ رمسيس وقال له: سيبني اتخانق مع شريكي شوية، وأنت ركز مع الكابتن عادل... مش كنت عاوز تتعرف إليه؟ وفعلا انشغل جان في مناقشة مع محمود بيه (المنتج محمود شافعي)، وبدأ الأستاذ رمسيس يتكلم في أحوال البلد بشكل عام، ويقول إن مصر تحتاج إلى فن جديد يلائم توجهات الثورة وقضايا الناس، وسألني عن رأيي في السينما والأفلام التي بحبها، وقال إنه داخل فيلم جديد مع فريد شوقي، وكلمني عن دور السينما في  المرحلة الجاية، وأن الدولة مهتمة جداً بالفن وتأثيره في الناس، وعبد الناصر أحد أشد المتحمسين للسينما، وأصدر قراراً جمهورياً من أشهر بإنشاء مؤسسة لدعم وتشجيع السينما، لأنها فن محترم لا يقل عن أي مجال لخدمة البلد، وطبعاً اتفقت معه في أهمية الفن والثقافة في أي مجتمع، فسألني بشكل مفاجئ وصريح: يعني لو كان عندي دور مناسب ومحترم لمدام بولا ممكن توافق أنها تمثل معانا؟

استغربت شوية، لكنه كمّل كلامه، وفهمت منه إن «جان» و«إيريس»، عندهم فكرة، وأنهم كلموه قبل كده عنك، وأنك شبه «أنغريد برغمان»، وكان بيتصور أنهم بيبالغوا، لكن لما شافك، وجد أنك مناسبة تماماً للدور، وعرض الفكرة على «جان»، فرحب بها، وشجعه يكلمني فوراً، والحقيقة كان بيتكلم بجدية، وبيقول الدور ملتزم وشيك جداً، وطريقة عرضه للموضوع طمنتني. فقلت له أعرض على صاحبة الأمر، وإذا وافقت مش هيكون عندي مانع.

* قفزت بولا على كرسي السيارة، وهي تصرخ من الفرحة: صحيح يا عادل؟ يعني ما عندكش مانع؟ بس إزاي؟ معقول بجد؟! ومن شدة السعادة مدت يديها لمعانقته، فقال لها ضاحكاً: يا مجنونة... كده هنعمل حادثة، ولا هيبقى فيه سينما ولا دياولو.

أمي

أمي كانت امرأة محافظة جداً... بل متطرفة في تحفظها، وكانت لا تقبل إطلاقاً فكرة ذهابي إلى السينما، أو الاحتفاظ بصور النجوم، وقتها كنت أعشق فاتن حمامة بجنون... ووالدي كان وراء هذه التربية، فقد كان يعارض تماماً دخولي مجال العمل السينمائي... والحقيقة أن الفضل الكبير يرجع إلى زوجي القبطان عادل البشاري... كان مثقفاً وقارئاً نهماً... ولم يمانع إطلاقاً فكرة عملي في السينما، ورغم أن زواجنا كان تقليدياً، فإنه كان الحب الأول في حياتي، وعشنا عمراً مديداً، وأنجبنا ابننا الوحيد... وما زالت جسور الود والتفاهم والاحترام بيننا قائمة حتى الآن رغم الانفصال.

(حوار بين نادية لطفي والمخرج عمر زهران – «المصري اليوم» – 27 فبراير 2016).

رفض عائلي

 

لم تنم بولا ليلتها، لأنها استقبلت العام الجديد في تقليب الفكرة من جوانبها كافة، واستغرقت نهار اليوم التالي في الحديث حول الموضوع، كان عادل شاباً عصرياً ومتفتحاً بدرجة زادت من سعادتها، لكنها كانت خائفة من ردود فعل العائلة التي حتماً ستكون غاضبة. لكن زوجها ظلّ يواجه تخوفاتها بالمزاح والدعابات، وقال لها مطمئناً: ما تشغليش بالك بالمشاكل قبل وقوعها، وبعدين أنت دلوقتِ كبيرة وعاقلة وبقيتِ زوجة وأماً وصاحبة بيت، ولا أظن أن أونكل وتانت هيعاملوكِ معاملة الأطفال.

وأضاف عادل ضاحكاً: ما تنسيش يا «بومبي» إنك بعد يومين بالظبط هتوصلي سن الرشد، وتبقي هانم رسمياً، وما حدش له وصاية على جنابك. المهم بقى تشوفي ترتيبات حفلة عيد ميلادك، وتبقى فرصة نجس النبض ونفتح الموضوع واحدة واحدة، ونعرف هنتصرف إزاي.

شعرت «بولا» بحرص عادل، ومساعدته لها بصدق في تحقيق رغبتها، وبدأت الترتيبات والاتصالات لحفلة عيد ميلادها، واجتمع شمل العائلة مساء الثالث من يناير 1958، وفي هذه الليلة التاريخية حصل أحمد على اهتمام وهدايا أكثر من «مامته» صاحبة الحفلة، وبعد العشاء والتورتة فتح عادل الموضوع بعبارة طريفة وعابرة: مش بومبي معروض عليها تمثل دور بطولة في السينما!

تنوعت ردود العائلة بين سوسو شقيقة عادل، والعمة روح، والأم، إلى الأب المثقف التقليدي ذي الأصول الصعيدية:

- صحيح يا بولا؟

- بطولة مرة واحدة؟!

- على كده فاتن حمامة هتعتزل وتقعد في البيت!

- سينما إيه اللي مستنية بومبي. لو عاوزين فيلمهم ينجح، ياخدوا المشمش الجميل ده (اسم التدليل للحفيد أحمد)...

- على فكرة الكلام حقيقي يا بابا.

- بلاش الكلام ده الليلة، خلينا في الحفلة، كل سنة وأنت طيبة وسعيدة، منورة بيتك.. مع جوزك وابنك.

فهمت «بولا» من رد فعل والدها على الخبر، أنه يرفض حتى مناقشة الفكرة، وهذا يعني الحكم بالإعدام على الفرصة التي أهدتها لها السماء للإمساك بأحلامها المفقودة.

رمسيس نجيب

منتج سينمائي مشهور في الخمسينيات والستينيات، اكتشف عدداً من أبرز نجمات السينما في هذه الفترة منهن لبنى عبد العزيز، ونادية لطفي، وليلى طاهر، بدأ كمساعد إنتاج عام 1943، ثم عمل مديراً لإنتاج شركة «عزيزة أمير»، وأستوديو نحاس، قبل أن يؤسس شركته الخاصة ويبدأ في عام 1956 إنتاج مجموعة من الأفلام الكبيرة والناجحة مثل «شباب امرأة» و«موعد غرام» و«دليلة»، ثم «الطريق المسدود» و«الوسادة الخالية» في العام التالي، وبعدها قدّم نادية نادية لطفي عام 1958.

نواصل كشف الأسرار في الحلقات المقبلة.

قصيدة درويش عن الانتفاضة أبكتها لأنها تذكرت انتفاضتها في ربيع 1958

وقّعت أول عقد بطولة بعد أيام من بلوغها سن الرشد

صهر المخرج يوسف شاهين صاحب الفضل في دخولها السينما
back to top